أصبح تنظيم داعش الإرهابي منذ ظهر إلى الوجود عام 2014 من أكبر النكبات التي أصابت الدول الإسلامية ليس في المشرق العربي فقط بل امتدت تأثيراته السلبية المدمرة حول العالم، وفي الوقت نفسه حصدت الولايات المتحدة وحلفاؤها مكاسب لا تحصى من وراء هذا التنظيم الذي حقق أهدافًا أمريكية وإسرائيلية بشكل غير مسبوق، مما يفتح المجال للحديث عن شواهد التوظيف الغربي لظاهرة التطرف.

التسليح الأمريكي

بدايةً، دارت علامات استفهام عديدة حول كيفية وصول الأسلحة المتطورة بكميات كبيرة إلى أيدي تنظيم حديث النشأة، ولمحاولة الإجابة على هذه التساؤلات استغرق مركز البحوث حول النزاعات المسلحة CAR ثلاث سنوات من العمل الدقيق لإصدار بحث تم تمويله من قبل الاتحاد الأوروبي ووزارة الخارجية الألمانية تتبع طرق تنقل هذه الأسلحة من دول الإنتاج إلى حوزة الدواعش، اكتشف أنه بالرغم من تنوع مصادر التسليح فإنه كان لافتًا أن بعض الأسلحة انتقلت بمنتهى السرعة بعد تصديرها إلى الولايات المتحدة لتحط في أيدي عناصر داعش، فعلى سبيل المثال تم العثور على صاروخ مضاد للدبابات صدرته بلغاريا إلى الجيش الأمريكي في ديسمبر/ كانون الثاني 2015 وبعد أقل من شهرين ضبطه جنود عراقيون في الرمادي بعد طرد داعش منها، رغم أن ترخيص تصدير الصاروخ ينص على ألا تسلم القوات الأمريكية هذا السلاح إلى جهة ثالثة!

فالتنظيم استولى على أغلب الأسلحة التي تركتها الولايات المتحدة في العراق، وكانت الأسلحة التي ترسلها واشنطن إلى سوريا بحجة تسليح المعارضة المعتدلة تصل إلى داعش ضمن برنامج تشرف عليه وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه) بتكلفة نصف مليار دولار، مما دفع عضو مجلس الشيوخ الأمريكي، السيناتور راند بول، لاتهام البيت الأبيض بتقديم دعم غير مباشر للتنظيم الإرهابي قائلاً: «لقد تحالفنا مع داعش في سوريا».

وفي حديث متلفز يشرح ضابط المخابرات البريطانية تشارلز شويبردج، الذي كان يخدم في جهاز مكافحة الإرهاب، أن المخابرات الغربية تشارك في تأسيس التنظيمات المتطرفة لتوجيهها لخدمة أجنداتها، ويضرب بتنظيم داعش مثلاً مبينًا أن جهاز الاستخبارات البريطاني استعان بعناصر جهادية كانوا سجناء سابقين في سجن جوانتانامو الأمريكي أو السجون الغربية وأرسلهم إلى الشرق الأوسط وتمت تبرئتهم من تهمة الإرهاب بسبب تعاونهم مع الضباط الإنجليز الذين سهلوا لهم السفر عبر المطارات الدولية بدون أي عوائق وتم استخدامهم في محاربة التنظيمات الإسلامية الأخرى، ويبين أن متابعة واستغلال التحركات الإسلامية في العالم جزء أساسي من عمل أجهزة المخابرات البريطانية والأمريكية وعلى الأخص في ساحات الصراع المسلح، ويؤكد أن تسليح الفصائل السورية كان وسيلة لإيصال السلاح إلى داعش تحت غطاء دعم المعارضة.

وقد أقرت وزارة الدفاع الأمريكية بأن طائراتها العسكرية ألقت أسلحة لمقاتلي داعش في مدينة كوباني شمال سوريا في أكتوبر/ تشرين الأول 2014 «عن طريق الخطأ»، وأحيانًا كان التحالف الدولي ضد داعش الذي تقوده الولايات المتحدة يتدخل عسكريًا بشكل مباشر ويقصف مواقع من يحاربون التنظيم الإرهابي «عن طريق الخطأ» أيضًا على حد وصف التحالف.

وكثيرًا ما تستهدف الغارات الأمريكية مدنيين أبرياء لا علاقة لهم بالإرهاب، ويتم الإعلان بعدها عن أنها استهدفت داعش ويتم التعتيم على ضحاياها والأمثلة على ذلك عديدة، وأحيانًا تجد حقائق عن بعض تلك الهجمات طريقها إلى الصحافة العالمية ويتم الاعتراف بها، وأحيانًا أخرى يتم إنكارها أو الاعتراف بأخطاء محدودة، وقد كشفت تقارير دولية أن عددًا كبيرًا من قتلى غارات مكافحة الإرهاب كانوا أطفالاً صغارًا.

الاختراق

وفي حين يرفع داعش شعارات دينية غاية في التشدد إلا أن المتتبع لمسيرته يجد أنه عمل على تنفيذ أهداف أمريكية صريحة كما في حالة أفغانستان، فقد نجح في شق صفوف الحركة وشتت جهودها واستنزفها في معارك عبثية، كما صعد نشاطه بشكل لافت منذ انسحاب القوات الأجنبية من أفغانستان، وبحسب التقارير الدولية فقد انضم للتنظيم ضباط من نخبة الجيش والمخابرات الأفغانية الذين تدربوا في الولايات المتحدة، وقد اتهمت طالبان واشنطن والمخابرات الأفغانية مرارًا بتأسيس وتعزيز ما يُسمى بـ «ولاية خراسان» الفرع الأفغاني لداعش.

كما ساهم التنظيم في منع تأسيس دولة سنية في سوريا بل في منع استمرار سوريا كدولة أيًا كان نوع هذه الدولة، فوجه جهوده لقتال الفصائل والطوائف السورية المختلفة، ووفر حجة لدخول عشرات الجيوش الأجنبية إلى المنطقة بتمويل عربي، ودمر مناطق السنة في وسط وغرب العراق، وجعل كل حدود الدول العربية المحيطة مهددة.

وشكل التنظيم محرقة للجهاديين، إذ تم تجميعهم من كل أنحاء العالم وإلقاؤهم في ساحات الموت، وقد مثل هذا الأثر المغناطيسي للتنظيم خدمة لدول غربية كانت تهدف للتخلص من أصحاب هذه الميول بأي طريقة فتم إرسالهم إلى المشرق العربي ورفضت دولهم عودتهم إليها ثانية، وفي كتاب «كنت في الرقة: هارب من الدولة الإسلامية» يحكي أحد الدواعش أن التنظيم كان يرسلهم في معارك عبثية يُقتل منهم الآلاف فيها بلا فائدة، وأن بعض أعضاء التنظيم من التوانسة بالذات بدؤوا يتململون ويتمردون على توجهات قادتهم مما أدى لإعدامهم وكان السؤال عن مصيرهم محظورًا مما دفع البعض للهرب للنجاة من المحرقة التي تنتظره.

ولم تقتصر تداعيات الأمر على سوريا والعراق بل إن واقعة واحدة يمكن عن طريقها فهم كيف كانت أعمال التنظيم تخدم الأهداف الأمريكية الإستراتيجية في مناطق لا تخطر على البال، ففي عام 2015 كانت الولايات المتحدة تدفع طوكيو في اتجاه العسكرة لمواجهة التحدي الصيني، ولقي هذا التوجه معارضة شعبية كبيرة داخل اليابان، لكن اختطاف داعش لمواطنين يابانيين في 2015 دفع طوكيو إلى مراجعة نفسها وبحث إنشاء جهاز مخابرات خارجية بعد سبعة عقود من حل مخابراتها عقب الهزيمة في الحرب العالمية الثانية.

داعش و«إسرائيل»

أما بالنسبة لإسرائيل فلم تجد ما يقلقها كثيرًا من تنظيم مسلح متشدد يقف على مقربة منها في الجولان ويرفع شعار تحويل فلسطين إلى مقبرة لليهود، ويسيطر على مساحة شاسعة من الأراضي تمتد عبر دولتين، لأنه كان عمليًا لا يستهدفها، بل إن وزير الدفاع الإسرائيلي السابق، موشيه يعالون، قال إن التنظيم اعتذر لتل أبيب لإطلاقه قذيفة دخلت الأراضي المحتلة بالخطأ من سوريا، رغم أنه لم يذكر أن تلك القذائف الطائشة أحدثت أي أضرار أو أصابت أي شخص، لكن التنظيم المتطرف رأى أن الاعتذار كان واجبًا في هذه الحالة! وأعلن قيادي في التنظيم يدعى نضال النصيري، أن تحرير فلسطين ليس من أولويات الجهاد، وبررت الدعاية الداعشية هذا الأمر بأن قتال المنافقين أوجب وأولى من قتال إسرائيل.

وعلى النقيض كان التنظيم يدعو إلى مهاجمة مقرات حركة حماس في قطاع غزة، وقال في إصدار له: «انسفوا محاكمهم الوضعية ومقراتهم الأمنية.. قاتلوا أولياء الشيطان»، وظهر في هذا المقطع مشهد مصور لإعدام أحد منتسبيه بتهمة المشاركة في تهريب أسلحة لكتائب عز الدين القسام الجناح العسكري لحركة المقاومة الفلسطينية، ولذا حذر رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية الجنرال هرتسي هاليفي، في كلمة ألقاها في اجتماع عقد في 28 نوفمبر/ تشرين الثاني 2016 بالمنتدى الأكاديمي التجاري بجامعة تل أبيب، من سيناريو ضعف داعش وتقليص نفوذه، معتبرًا أن هذا الأمر ليس في صالح إسرائيل في ذلك التوقيت.

وفي مصر فإن تنظيم أنصار بيت المقدس المتطرف الذي كان يركز معظم عملياته على خط الغاز الممتد إلى إسرائيل غير اسمه في نهاية عام 2014 إلى «ولاية سيناء» وبايع داعش ونشط في شن هجمات على أهداف مدنية وعسكرية في شبه الجزيرة السيناوية وانضمت له عناصر أجنبية.

وفي المجمل فإن التنظيم الإرهابي كان بمنأى عن الاستهداف الإسرائيلي لأنه ساهم في تسريع عملية «الفوضى الخلاقة» التي ساهمت في إعادة ترتيب أوراق إقليمية مهمة ثم غادر بعد إتمام المهمة، وانقشعت دولته المزعومة واختفى رجاله من أراضٍ تضاهي مساحة بريطانيا كأن لم يغنوا فيها، أما القوات الأمريكية والغربية فهي ما زالت «باقية وتتمدد» في المنطقة وتسيطر على حقول النفط تحت شعار منع عودة تنظيم داعش الإرهابي.