يؤكد «بورخيس» أن الشعر يُفلت منا حين نُحاصره بالسؤال لأنه غير معني بالحقيقة، إنما بالمجاز المُناسب لتسكنه الحقيقة، نحن نختبر العالم المادي بطريقة واحدة أما كل منا يحمل بداخله عالم خاص قوامه الاستعارة التي اختارها ليستنطق هذا العالم.

في «أقفاص فارغة» تُعلن الشاعرة «فاطمة قنديل»أنها تكتب سيرتها بلغة لا ترتدي ما يستر عورتها من المجازات، سردية تخرج من حرم الشعر، لكنها يصعب أن تُسمي نفسها سردية، فالكاتبة أكاديمية توظف خبرتها وموهبتها وقدرة الخيال كمهندس حنين على ترميم ثقوب الذاكرة بتخييله.

تقول فاطمة:

الحضور الكامل هو كل ما أحلم به، اليقظة التي لا تفوت ضوءًا واحدًا في جوفي إلا حدقت فيه حتى يتلاشى.

الحضور الكامل يعني حضور الشاعرة، الأكاديمية، الطفلة والشابة والعجوز. تتبارى تلك الأصوات جميعها لتقديم رواية واحدة.

على الرغم من مخاطرة تسمية السرد برواية، تُخبرك فاطمة من البداية، أن فكرة وجود قارئ لتلك الأوراق مرعبة، لكنها الضريبة اللازمة لمن يُريد أن يحضر كاملًا، وبينما القارئ كالحياة، ذئب مسعور لا يروي ظمأه إلا الحكاية، تحذرنا من البحث عن عبرة في تلك الحكاية، تراه ابتذال مثير للغثيان لأنها نعم تقدم نصًا أرسطيًا له بداية/وسط/نهاية، لكنه لا يهدف للوصول للحظة تنوير وحكمة إنما تهدف منه:

كشط قشرة جرح كي يندمل في الهواء أو لا يندمل، ويظل ينز دمًا

لا تبحث فاطمة عن انتصار في النص أو انحياز شعري لمعنى ما، إنما تُحدق في جرحها، كما تحدق في وجه ميدوسا (الحارسة اليونانية التي لو نظرت لها تحولك لحجر)، مع كل تبعات أن يلتفت المرء للخلف، لينكَأ الجروح التي ضمدها سابقًا ليواصل المسير.

لكن ألم يكن ممكنًا لشعرها أن يحمل على عاتق أبياته تلك المُهمة؟

في روايتها تُجيب فاطمة عن سؤال:

لماذا نكتب الشعر؟

«لا لشيء إلا لكي نحتال على العقبات الصغيرة في حياتنا»

تتذكر هذا التعريف في اللحظة التي كانت تنشغل فيها عن حقيقة احتضار أمها في الفراش بجوارها، بانتصارها في تغيير محلول الجلوكوز، كأن المشهد المأساوي تم اختزاله في هذا الانتصار الصغير، حسب تعريف فاطمة يُجيد الشعر الإبحار بنا من انتصار صغير لآخر، لكن ماذا لو كانت العقبة كبرى، بحجم الحياة ذاتها؟ ماذا لو فرغت جعبة الشاعر من الاكتفاء بانتصارات الشعر وبقي وحيدًا في خريف عمره وجهًا لوجه مع المقبرة، التي تضم أحباءه وأعداءه، وتفغر فاها لضمه في النهاية ضمن حكاية لم يبذل جهده بعد لتمييز نفسه عنها؟

الكتابة تبدأ من المقبرة

ولدت فاطمة من أم أربعينية وأب خمسيني وإلحاح جدة سبعينية على فراش الموت أن تستبقي أمها هذا الجنين ولا تُجهضه، يولد الجنين إرضاءً للجدة ويحمل إسمها، تتطلع فاطمة من رحم أمها على وجه جدتها الموشك على الزوال، تُعرف نفسها:

سألعب الدور نفسه المكتوب لي منذ أن ولدت، دور الشاهدة على الموت.

تبدو استعارة شعرية لكنها تتحول لحقيقة راسخة عندما نُدرك أن كل شخوص الحكاية التي ترويها موتى، ومثلما تقول عنايات الزيات: «الرواية تبدأ من المقبرة».

تؤكد فاطمة أنها لا تكتب عمن ظلوا أحياءً بقلبها، لأن الكتابة لديها صنوان للموت، في طيف من النص تُحيي فاطمة موتاها وتستجوبهم، تدينهم، تعذرهم، لكن في قلب النص هي تريد تحويل موتهم الفيزيقي ومقابرهم الموجودة فعليًا لموت شعري للشجرة التي كانت فرعًا منها، موت يُحررها هي من المقبرة:

وأنا أكتب عنهم لأنهم ماتوا فيزيقيًا أو ماتوا بالفعل في قلبي..عن هذا الجذر البعيد لتطيره أوراقًا في الهواء، كي لا يظل يخادعك بأنه شجرة! عن هذا الجذر المعطوب فقط، لتتخلص من عفنه حتى لا يصير إلى نهاية حياتك ممتزجًا بأنفاسك، حتى لا تعتاد رائحته ولا تستطيع أن تميز بين رائحته ورائحة حياتك!

فهي كتابة لقتل الوهم وتمييز الذات، كل البشر سيموتون لكن الدور الذي صنع قوس البداية لفاطمة هو أنها شاهدة الموت في عائلتها، ولكن ماذا يتبقى عندما تموت العائلة بأكملها؟ يصير لزامًا على الذات أن تشهد على نفسها، مثل راوٍ خفي يخرج أخيرًا لخشبة المسرح، بكل ما يحمله الأمر من انكشاف وتعرٍ، يفك أواصر الوهم، ويُخبرهم أن وراء الستار كان هو ذاتًا منفصلة وليس جُزءًا من العرض.

لم تحيَ الكاتبة قصة حياة سعيدة في أسرة متوسطة، ولم يتشكل شعرها من العدم، فتلك الحكاية هي ظلال الشعر، ما لم تروِه فاطمة قنديل، تلك الحكاية ليست شعرًا، بل كيف صُنع الشاعر؟ رحلة للآبار والمعين الذي نهلت منه أبياتها طوال عُمرها، رحلة للمقبرة التي ولد منها كل سطر كتبته، المجاز يُجمل أو يُقرب مفهوم الحقيقة، وبتعريته تتبقى المقبرة.

فخ الابتذال

تخبرنا فاطمة أنها لا تتذكر البقعة التي ولدت فيها:

رأيت صورة أن أولد مباشرة على البحر تليق بشاعرة

تفرق بين ما حدث وتأويلها الشعري لما حدث، تفرقة ستحضر طوال النص لتبرز يقظتها لفخ الابتذال، أن تكتب سيرتك يعني أن تسير على حافة الابتذال، فما تظنه الحقيقة قد لا يعدو أن يكون ميلودراما مُبتذلة لاستجلاب التعاطف، وما تظنه المُعجزة القدرية في قصتك لا يعدو أن يكون تخيلًا تصطنع به خصوصية لحكايتك.

تبدأ قصتها بدفن قطها «ميشو» في فناء المنزل، تسخر الطبيعة من رقتها وتُنبت زهرة خشخاش في البقعة نفسها، تختفي الطفلة وتأتي الامرأة الثلاثينية المنكوبة بموت أمها، تحمل بحنان ما يليق بضمادة جرح أمها، ما تبقى من الفقيدة، لتدفنها في البقعة نفسها، لكن تفسد شعرية اللقطة ديدان بيضاء لزجة تتغذى على ما تبقى من دم الضمادة.

تموت حديقة المنزل بموت الأب، لا يشم أحد الياسمين بعد موته؛ لأنه الوحيد الذي أولى النبات رعايته، لكن حوض النباتات يتحول لمطفأة لسجائرها وسط حرج أصدقائها من ابتذال الذكرى باستخدامها كساحة مُخلفات.

تُخبر الأم فاطمة في لحظات احتضارها أن أخاها راجي الذي هاجر إلى ألمانيا منذ عقود قد مات، تُصدقها الابنة وتحيا لسنوات بنبوءة الأم التي أتت بها من خلف الأستار لكنه يعود ليُفسد النبوءة، تقول:

للأسف كانت نائمة تحلم، نائم يحلم بكابوس بعد أن تناول طعامًا ثقيلًا، طعام ثقيل ربما يكون هو حياتها نفسها، هكذا بكل الابتذال وبكل الإهانة لهواجسنا، لأدوارنا

تراقب فاطمة سطورها بعناية خوفًا من أسر نفسها والقارئ في كنف شعرية كاذبة تُضفي خصوصية على قصتها، لأن النص ليس شعرًا، ربما في القصيدة، تحرس الزهور جثة القط، وينبت الياسمين حُزنًا على الأب، بينما تصدق نبوءة الأم وهي في برزخها، لكن الحقيقة قاسية قسوة ديدان تتغذى على الذكرى، والنص مُخلص لامرأة تتطلع لميدوسا، لا لانعكاسها على مرآة شعرية.

فخ الأدوار

ما إن نلعب أدوارًا حتى تصير جزءًا منا، يقسمها علينا القدر كما أردنا تمامًا فنصير ضحايا بالفعل.

في أكثر من موضع تستعيد فاطمة ثيمة «الدور»، أن يُصدق المرء فكرة عن نفسه ثم يسقط أسيرًا لها، وتتولى تلك الفكرة توليد مشاعره وقراراته فيما بعد، مثل غيمة تلون الوجود بلونها.

تولد أدوار الحياة مثل أدوار المسرحية، من نصوص وعبارات ومواقف بعينها، فقد ولد دور أبيها كرمز للعار في حياتها من لحظة مقابلتها إياه وهو سكير أمام صديقاتها، تصفها باللحظة الأبدية للعار.

بينما تصف جملة أخيها راجي للأب بأنه لن يغفر له مُعايرته، بأنها جملة تؤطر مصيرًا، كأنها سطر من الإلياذة الإغريقية.

نُدرك أن الأب ضحية الجد الذي كان يضربه بالحزام في عمود السرير، ثم حاصره بفخ الذنب عندما ادعى الشلل ليُجبره على ترك حلم الالتحاق بكلية الهندسة لصالح تعليم متوسط ينهيه سريعًا ويتولى الإنفاق على العائلة.

يورث الأب دور الضحية بنجاح للابن راجي، يراه امتدادًا له، وبينما يُسخر كل شيء لإلحاقه بكلية الهندسة، يرسب الابن باستهتار، تقول:

كان أبي يحمل حلمه كجثة في أعماقه بينما حمله راجي برعونة من يتناول طفلًا حديث الولادة من يد أمه ويؤرجحه بعنف أمام عيني أبي المكلوم

تصف فاطمة أبويها:

«كانا زوجين جيدين جمعت بينهما الهزائم»

جاءت الأم من طلاق سريع وجاء الأب من انفصال وصمته خيانة زوجته له.

كان اقترانًا لضحايا رسم مصائر الأبناء للأبد، فالابن رمزي سينحاز لمظلومية الأب، وستنحاز فاطمة لمظلومية الأم، بينما راجي بوجدان ممزق استعذب دور الضحية كاملًا سيحيا شبابه في قتال لإثبات الذات مع صورة الأب وسيحيا شيخوخته في إدانة للأم ليمنح فشله معنى.

تدرك فاطمة بذكاء أن الأدوار فخ، وأنها لم تتعالَ عنه، فكثير من قرارات حياتها كانت رهينة دور لعبته في مرحلة من عُمرها، فهي لم تُدخن إلا نكاية بأخيها المُقرب الذي أهمل أخته وأمه وسلم إرادته لزوجته الجديدة، كان يشعل لها السيجارة ويتودد لها بفعل كل شيء.

بينما اللحظة التي قررت فيها شرب الخمر، وهي التي وصفت رؤيتها لسُكر أبيها أمام صديقاتها باعتباره اللحظة الأبدية للعار، كانت ذروة إدراكها للعبة الأدوار التي يقوم عليها هذا العالم، لا يمثل شرب البيرة لأول مرة فعل تمرد أو استسلام، إنما إنتقال واعٍ منها من دور الضحية لدور الجلاد، وكان الجلاد في روايتها أباها، فتقول:

ولماذا أرث كراهية أمي للشراب؟ لا تجارة لدي لأخسرها كأبيها وكجدي لأبي ولا أبناء ينبغي أن أضحي من أجلهم كما ظللت أصم أبي ولا أجد له مبررًا، لماذا لا أقبل إرثًا آخر، إرث هؤلاء الذين أضاعوا كل شيء، إرث المتعة الخالصة، النشوة، تقبل أن تكون مدانًا وموصومًا من الجميع وأن يكونوا جميعهم ضحاياك

تكرر تأكيدها على فخ الأدوار الذي يستعمرنا للأبد حتى لو أدركناه فتتذكر شهور أمها الأخيرة عندما أفقدها السرطان حيويتها وطمس معالم روحها، غضبت عليها مرة لرفضها السهر معها أمام التلفاز، تقول:

أدركت أنني كنت أريد أن أستعيدها، لم تكن تلك السيدة النائمة طوال الوقت تشبه أمي، حتى حين كنت أضع رأسي على صدرها لألعب دور طفلتها

يتوقف نجاح الرواية على إدراك القارئ للعبة الأدوار، في أقفاص فارغة تأخذنا فاطمة خلف الكواليس، لنرى لعبة كراسٍ موسيقية، لا يمنحنا النص كل مرة إلا نصف نظرة مع تأكيد الراوية أن هناك نصفًا آخر، كل ما نفعله في كل مرحلة من حياتنا رهين دور يقبع في مؤخرة رؤوسنا يخلق محدودية في رؤية المشهد. يخلق جلادين كُثر وضحية واحدة هي نحن.

قبل عودة أخيها من ألمانيا، كان قد سكن حكايتها في صورة الأخ التراجيدي الذي قدمها لعالم القراءة، على يده عرفت بودلير وديكنز وكل ربات الإلهام اللائي صاغوا حياتها كشاعرة وكاتبة وأكاديمية، سلب راجي عائلتها استقرارها لكنه منحها هاجسها وتحققها، لكن بعد عودة أخيها وعندما صارحته بدوره في حكايتها، تقول:

بدا لي تافهًا لا علاقة له بالأدب ولم يعد يعرف عنه شيئًا حتى ما كان يقرؤه نسيه تمامًا، غريبًا تمامًا كأنه قصة من بين القصص، قصة اختلقتها أنا نفسي في ذاكرتي

كانت تدرك جيدًا في آخر العمر عندما تبادلت حكايتها بأدوارها التي كان فيها الأب جلاد والأم ضحية مع أخيها الذي وجد في أبيه بعد سنوات رحمة وفي أمه شر أن المُكاشفة قد تخاطر بكسر إطار حكايتها الخاصة، تقول:

الرعب من أن يكون ثمن الحكاية التي يدفعني مرارًا وتكرارًا إلى حكيها من جديد هو أن تحطم إطارها، وتنزاح وتتلاشى إلى الأبد

كانت المكاشفة تقذفها من أمان حكاية اتخذتها موطنًا لسنوات، لرؤية الحكاية خارج لعبة الأدوار:

كنت أكتشف بمرور الوقت أنني لا أعرف أيًا منهم حتى أمه التي كان يحكي عنها بنفور لم أتوقعه، هي أم أخرى، لم أعرفها، كلما تكلم شعرت أنني مهددة بحكاياته، بآرائه، بنفوره، كنت أشعر بتهديد أن تتحول حكاياتي التي عشتها وأحببتها، إلى مجرد غابة من الصور، أسير فيها وحدي
لوحة للرسام جان أنطوان تيودور جيروست (1788)
لوحة للرسام جان أنطوان تيودور جيروست (1788)

تمنح فاطمة فخ الأدوار ثقلًا بطبع النص بطابع المآسي الإغريقية الأوديبية، خطأ طفيف في قراءة سطر واحد بأدوارنا يكفي لتغيير المسرحية بأكملها، توقن أن أباها مات لأنها طلبت من الرب موته، وأن أمها ماتت لأن أخاها ادعى احتضارها ليتركه الكفيل يعود لمصر، في المآسي الإغريقية يكفي خطأ لفظة في الدور المرسوم لنا لننال عقابًا أبديًا.

فخ الذاكرة

الذكريات السعيدة حقيقة لا تُطيل المكوث.

حرصت فاطمة أن تغلب الحقيقة في نصها على الشعرية، فتتحول ضمادة الأم الأخيرة لمرتع ديدان وياسمين الأب لحديقة تستضيف أعقاب السجائر وأقفاصًا فارغة، فالذكريات السعيدة لا تُطيل المكوث بل تسري عليها عوارض الزمن وتنتهي لأقبح مما بدأت به.

تختار على الرغم من ذلك أن تبدأ حكايتها بتأمل علبة شوكولا قديمة باستغراب جمالية نجت من التداعي وعوارض الزمن:

أخمن أن سعادة ما ظلت تسكن هذه العلبة، أخمن أنها تفوح منها وربما لهذا عاشت طوال تلك السنين وربما تظل في مكان ما حتى بعد أن أموت

تبدو أقفاص فارغة بأكملها محاولة للنجاة بالتخفف من الأثقال، مثلما نجت علبة شوكولا بجمالية ما من فعل الزمن، والأثقال في تلك الحكاية هي الذكريات، تقول:

كل ما كتبته على هذه الأوراق كان مؤلمًا، لكنني كنت أتعافى منه في اليوم التالي، أشعر أنني تحررت من ذكرى وأحاول أن أتذكرها مرة أخرى فتتلاشى كأنها تبخرت فور أن كتبتها

تعرف فاطمة جيدًا متى ولدت الذاكرة لديها؟ كانت في اللحظة التي اعترفت فيها لأمها بما فعله آخرون بجسدها، كان رد فعل أمها قويًا، تعاهدا أن تخبرها بذلك لو حدث مرة أخرى وأدخلت الأم الرب في العهد بحلفانها على المصحف، فاكتسبت اللحظة بُعد تستدعاء المطلق ذاته لوجدان طفلة لم تدر بعد الخطأ في ما حدث، تقول:

شيء جديد ينمو في قلبي، شيء ثقيل، أسميته في ما بعد مولد الذاكرة

تكتسب الذكرى في أقفاص فارغة استعارة الثقل وترتبط بفقدان البراءة، فالبراءة رهينة الفردوس، والفردوس لا نحمل عنه ذاكرة، إنما لحظة هبوطنا للأرض توثق بدء الذاكرة بلحظة السقوط نفسها كأول ذكرى.

عبر النص تستعيد فاطمة ذكريات ميكروسكوبية صغيرة مثل اشتهائها كطفلة للبسطرمة، بينما أمها لا تملك ثمنها، لذلك اقترن الاشتهاء طوال حياتها برائحتها

في طفولتها عندما جف ثدي الأم الأربعينية صنعت لها الزبادي على ضوء لمبة صغيرة، تلك الذكرى الصغيرة صنعت فاطمة الخمسينية التي أدمنت بدء يومها بالزبادي وتحسست دومًا من الضوء الساطع مكتفية بلمبة صغيرة.

التحدي الأكبر في أقفاص فارغة أنها عملية تخفف من عبء الذاكرة لكن هويتنا منسوجة بعناية من ثوب الذاكرة ذاته، خيوطه الأولى البكر صنعت الثوب الذي نرتديه الآن، لذلك التخفف قد يسحب خيوطًا  تنحل معها عروة كينونتنا بأكملها، تعي فاطمة المخاطرة:

لا أريد سوى أن أمسخ الذكريات إلى أصنام، ثم أكسرها ثم أكنس التراب المتبقي منها وحتى ولو كنت أنا نفسي صنمًا من بين كل تلك الأصنام

فخ الذاكرة هو أن التحرر منها يعني قبول أننا قد نفقد أنفسنا في خضم العملية نفسها.

وبعد قبولها المُخاطرة نصل للمحطة الأخيرة، وهي بيع منزلها، مسرح الدراما بأكملها، الانسلاخ التام من الفضاء المكاني الذي يحمل بجماداته وجدرانه ثقل الذكرى، هنا يحضر الشعر لنص روائي في صورة استعارة القط مالارميه.

بدأ النص بطفلة تدفن قطها لتنبت مكانه زهرة خشخاش ساخرة، وينتهي الأمر بسيدة خمسينية، يموت بجوارها قطها متأوهًا ومنكفئًا على ذاته بلا حول ولاقوة مثلما مات أبوها مكشوف العورة في حمام المنزل، عندها دعت الله ألا تموت في هذا المنزل، ألا تموت في كنف الذكرى، كان مالارميه رسولًا شعريًا، حمل الأمنية للرب واصطنع لها من الاستعارة منزلًا بديلًا، فتقول:

مالارميه تعويذتي…أكاد أوقن أنه حمل ردائي الذي دثرته به بعد موته وألقاه بحركة تمثيلية ركيكة كأي كومبارس أمام الله ليبلغه الرسالة:
هي لا تريد أن تموت هنا، هل هذا مطلب عسير على إله؟
الشاعرة فاطمة قنديل في حديقة بيتها
الشاعرة فاطمة قنديل في حديقة بيتها

تصف فاطمة سفر الخروج من شبكة عائلتها القديمة مثل عنكبوت يخرج أخيرًا عاريًا، وفي فمه كل ذباب العالم، يجري به، لاهثًا ومذعورًا.

في نص بديع تحرس فاطمة بأكاديميتها حكايتها من فخ ابتذال شعري يفسد صدق النص بخصوصية مُصطنعة.

في نص بديع تجرد فاطمة بحذق لعبة السرد من التخيل الروائي فتكشف فخ الأدوار وكيف تصنع سجون الأدوار الخفية قراراتنا وحكايتنا الظاهرة.

في نص بديع يبدأ بطفلة تقرأ الفاتحة بسذاجة بريئة لقط يموت، وينتهي بسيدة خمسينية تُرسل بشعرية قطًا للرب برسالة استغاثة تقايض فيها ثقل الذكرى بحياة جديدة، فتأتي الشاعرة أخيرًا لتغلق باستعارة قوس حكاية بدأت كتحرر من الشعر وانتهت بمجاز.

يصعب أن نلوي عنق النص بحثًا عن عبرة، عظة، اقتباس، هذا الاختزال الكريه هو آخر ما تريده فاطمة، أتذكر خلال قراءتي لكتاب «كلبي الهرم» سرد «أسامة الدناصوري» لنص كتابه على فاطمة قنديل، لتخبره أنها تراه الآن بصورة جديدة لم تتخيلها أبدًا، يمكننا أن نقول أننا نرى فاطمة وهي تخرج من المقبرة بصورة جديدة، تعلن فردانيتها مثل فرع وحيد يرفض خدعة الانتماء لشجرة اقتلعت منذ زمن طويل، فردانية روح نظرت لميدوسا لكنها لم تتحول لحجر وعادت لتروي الحكاية.