أحب موسيقى «حمزة نمرة»، ومن لا يحب «حمزة»؟

منذ عامين أو ثلاثة دخلت إحدى المكتبات التي أفضلها بحي الزمالك، ومع الكتب التي اشتريتها قمت باختيار أسطوانتين لمطربين إسلاميين، أولهما، مطرب سويدي من أصل لبناني – أفضل ألا أذكر اسمه بشكلٍ مباشر – والثانية أسطوانة لـ«حمزة نمرة» لم أكن سمعتها من قبل كاملة.

في الطريق للمنزل قمت بتشغيل أسطوانة المطرب النصف أجنبي النصف عربي، حاولت استطعام تراكات الألبوم لكني – تراك وراء تراك – لم أستطع استساغة الكلمات العربية التي تم ليِّها ليًّا على نمط الـ«بوب» الغربي، شعرت بقرف شديد جدًا من الموسيقى الماسخة عديمة اللون والرائحة، قبل أن أطرح الأسطوانة جانبًا بعصبية متحسرًا على جنيهاتي التي ضاعت هباء، ثم قمت بدس أسطوانة «احلم معايا» لـ«حمزة نمرة» الصادرة عام 2009 في مشغل السيارة، قبل أن تصدح الأسطوانة بتراك اسمه «مرجيحة».

أول 30 ثانية من التراك أخذتني في عالم آخر تمامًا، صوت دخلة «القانون» التي بدأت العزف برشاقة وشجن عميق، قبل أن تتضافر مع عزف جماعي لآلات «الكمان» التي أعشقها، غمستني في حالة روحانية لا يمكنني أن أصفها، لم أشعر بنفسي سوى وأنا أفتح نافذة السيارة وأطيح بأسطوانة المطرب العربي السويدي خارج السيارة بأقصى ما أستطيع، وكأني أتخلص من كابوس.

التراك ذكرني بمقولة كنت سمعتها من المفكر العربي الأمريكي الكبير «إدوارد سعيد» بأنه لا يستسيغ سوى الموسيقى التي لها «بناء» –في معرض حديثه عن عشقه للموسيقى الغربية الكلاسيكية، هذا البناء المحكم أجده متكررًا في موسيقى «حمزة نمرة» –37 عامًا- التصاعد الدائري في «مرجيحة» الذي يأخذك لأقصى ارتفاع عاطفي ممكن، وكأنه يدور كأرجوحة حقيقية صاعدة إلى الما لا نهاية، ثم تهبط في بحيرة من الشجن مع آهات الناي البديع. هذا البناء الهندسي الموسيقي البديع ستجده تقريبًا في أغلب أعماله ظاهرًا بوضوح.

مشهد آخر استدعته ذاكرتي من مهرجان «كايرو جاز فيستيفال» العام قبل الماضي، الذي عقد في الحرم اليوناني للجامعة الأمريكية بوسط البلد، حين احتفى جمهور المهرجان بـ«حمزة» وفرقته وموسيقاهما العظيمة رغم صوت «نمرة» الذي أتى يومها متعبًا ومرهقًا وفي غير لياقته المعهودة.

شعرت يومها بدهشة، ربما لأن رواد المهرجان الذين أتوا للاستماع لموسيقى الـ«Jazz» المنبعثة من فرق قادمة من كل أنحاء العالم، اليابان والسويد وأيسلندا وغيرها، اعتقدت أنهم يمثلون شريحة ليبرالية ذات ذائقة متحررة قد لا يستسيغون بسهولة موسيقى بخلفية «إسلامية» محافظة، لكني أدركت وقتها أن تلك الشريحة تحترم في «حمزة» صورة الشاب المحترم دمث الخلق الذي هز المشاعر من قبل بموسيقى إنسانية عابرة للثقافات والانحيازات عندما غنى «احلم معايا» مثلًا عام 2009 قبل الثورة بقليل.

هذه الـ«Decency» تفسر تعاطف الكثيرين من أبناء الطبقة العليا والمتعلمة تعليمًا جيدًا مع نماذج من عينة «أبوتريكة» مثلًا أو «محمد صلاح» قادمة من الطبقات المتوسطة وتحت المتوسطة ومن خلفيات محافظة، تعاطف ينبئ عن غياب أو ندرة المثل العليا والرموز «النظيفة».

وبالتالي كان صادمًا بالنسبة لي خروج «حمزة نمرة» بأغنيته الأحدث «داري يا قلبي» بما تحمله من مرارة وانكسار عظيمين، شعرت وكأنهما يهددان تلك نظرة الاحترام التي نجح في اكتسابها من قلوب مئات الآلاف الذين ينظرون ناحيته كمثل أعلى أو ورمز لشيء جميل ما، وهو الأمر النادر الحدوث هذه الأيام، والماكينة الإعلامية والأمنية تدور بلا رحمة لتشوه جميع الرموز، تاركة مجتمعنا بلا مثل عليا ينظر إليها الشباب من أجل الإلهام والاقتداء والتحلي بقيم ما، أو على الأقل الاطمئنان أن تلك القيم لا تزال موجودة وتمارس على الأرض.

بين «احلم معايا» و«داري يا قلبي» مسافة عاطفية شاسعة تضرب في جذر إرادة أجيال الشباب، تلك المسافة يحمل مسئوليتها النظم القمعية الحالية التي تسعى جاهدة لتضييق المجال العام، وتفريغه من أي مساحات تعبير وفعل وإرادة تغيير حقيقية. لكن المسئولية التي يتحملها حمزة –كرمز ومثل- هو ما بدا استسلامًا لتلك المحاولات بدلًا من المقاومة الجادة المستمرة بفنه وموسيقاه وكلمات أغانيه.

«بتودع حلم كل يوم .. تستفرد بيك الهموم»

أظن أن سبع سنوات منذ قيام الثورة التي أشعلت داخلنا رغبة عارمة في الحلم والتغيير وحتى هذه اللحظة الكابوسية، كانت كفيلة تمامًا بإخراجنا من حالة البراءة الثورية وأحلام اليقظة المثالية، ووضعنا في مواجهة الحقائق القاسية على الأرض.

إن الحلم في حاجة لمجهود حقيقي عظيم من أجل تحقيقه، بل في حاجة أعظم لصياغته في شكل واقعي، ووضع خطط لتنفيذه على الأرض وخطط أخرى لمواجهة العقبات أو الالتفاف حولها، أما أن نظل تائهين بعد سبع سنوات كاملة‍! فهذا ذنب لا يغتفر.

«مالك مش باين ليه؟ .. قلبك تايه من مدة كبيرة خايف تتكلم ليه؟ .. في عيونك حيرة، وحكاوي كتيرة»

صباح اليوم التالي لإعلان الرئيس المعزول «حسني مبارك» عن تخليه عن السلطة للمجلس العسكري، ظننا ونحن نكنس ميادين الثورة ونطلي الشوارع والأرصفة بطلاء جديد، أن تراثًا طويلًا من الجهل والفساد والظلم سوف يمحى بجرة قلم مع الطلاء القديم، كان تفكيرًا سطحيًا رومانسيًا له ما يبرره لحظتها، بعد أن ظل نظام يوليو 52 يجرف وعي هذه الأمة وأجيالها وشبابها بلا كلل، لكن سنوات متعاقبة بعدها لم تكن لتعفينا من واجبنا في إعمال العقل فيما يدور حولنا والتصرف بنضج حقيقي.

من قال إن الثورات تنجح بضغطة زر، ودون مجهود وتضحية وعمل شاق لعقود طويلة؟ من أين جاءتنا هذه الفكرة السطحية، ومن المسئول الحقيقي عن زرعها في عقول أجيالنا العفية الشابة؟

لا يا سيدي، التاريخ لا يمضي بهذه السهولة والاستسهال، التاريخ يعلمنا مثلًا أن أغلب دول أمريكا اللاتينية بعد انتهاء حقبة الحرب العالمية الثانية (1945) تعاقبت عليها نظم عسكرية سلطوية لا تختلف عن النظام الذي يحكمنا، بل وربما أكثر عنفًا وشراسة.

البرازيل على سبيل المثال – وهي التجربة الديمقراطية التي أفرزت «لولا دي سيلفا» وتجربته الديمقراطية والاجتماعية المتألقة – ومع حلول عام 1964 كان يحكمها نظام أوليجاركي إقصائي يزاوج بين السلطة العسكرية وسطوة رأس المال، إلا أنه ومع حركة نقابية صفت نفسها بأناة وصبر، وضمت إليها رويدًا رويدًا قطاعات كبيرة من عمال المصانع وموظفي الحكومة والفلاحين الذين أضيروا من الفقر والرشوة والفساد وتزوير الانتخابات، استطاعت عبر تشكيل وعي جمعي مدرك للكوارث التي حلت بالبلاد أن تجبر الحكومة العسكرية على الاعتراف بحدوث تلاعب في الأرقام الرسمية التي كانت تصدر إلى الشعب، لتوحي إليه بازدهار خادع للوضع الاقتصادي.

نجح كل هؤلاء في خلق معارضة حقيقية على الأرض، تجلت في أبهى صورة أثناء المؤتمر الوطني لعمال الصناعة عام 1978، والذي كان شرارة متوهجة أرغمت السطلة العسكرية على كتابة دستور توافقي إصلاحي عام 1988، يضع آليات لمحاربة الرشوة، فوضع لجان تحقيق برلمان لمراقبة ورصد سلوك السياسة على المستوى الفيدرالي، وهي الإصلاحات التي أدت إلى انتخاب الرئيس الأسطوري «دي سيلفا» عام 2002، ووضع البلاد على طريق التنمية الإصلاحية الحقيقية.

مئات النماذج والأمثلة من التاريخ التي تشرح لنا تحول الأمم نحو تحقيق أحلامها، تؤكد لنا أن علينا التعلم والعمل من أجل إتمام ما بدأناه، المعافرة الحقيقية هي التي ستحقق الحلم عاجلًا أم آجلًا، وليس الاستسلام للواقع والفشل الوقتي والمرحلي الذي هو في حد ذاته طبيعي للغاية نتيجة نقص الخبرة والتجربة، لكنها ليست مسوغًا إطلاقًا للاستسلام وجلد الذات السريع، والذي يؤدي بنا إلى الاكتئاب والانسحاب.

«كم واحد ودع وساب .. من غير أسباب»
نعم الوضع صعب بكل ما يمر بنا، لكن من قال إن الثورة نزهة؟

ليست كذلك، بل رحلة شاقة علينا أن نقبل بها، علينا ألا نتوقف عن التعلم، وعن القراءة، وعن البحث، وعن تعليم الآخرين، وعن تصحيح الوعي، وعن العمل الخيري، والعمل المدني، وعن الإصلاح وحتى لو على نطاق بسيط وصغير، سنجد لاحقًا أن مئات الآلاف من الأعمال الصغيرة ستتراكم لكي تواجه بشكل عفي كل المشاكل والعقبات التي نواجهها حاليًا.

اقرأ أيضًا:«حمزة نمرة»: دفاعًا عن الحزن النبيل

لا أكتمكم سرًا عندما أعترف أني شعرت بغضب عارم من أغنية «نمرة» الجديدة؛ إذا كانت نخبتنا الشبابية المثقفة ستتصرف بهذا القدر من الإحباط، فمن إذن سيزرع داخلنا الأمل، وسيغذي الهمم من أجل استنهاضها؟

الانكسار في هذه اللحظة شيء مرعب وغاية في الخطورة، لقد بدأنا للتو أيها السادة وأمامنا طريق طويل، وإذا لم لم ننجح لنرى ثمار النجاح أثناء حياة جيلنا الحالي، فعلى الأقل لنحاول من أجل الأجيال القادمة، من أجل أن نترك شيئًا ليقوم أولادنا بالبناء عليه، وإلا فعلينا أن نستعد للحظة التي سينظر فيها أبناؤنا في عيوننا ليسألونا فيها: إذا لم تكونوا على قدر المسئولية لتستكملوا حلم الثورة، فلماذا قمتم بها ثم تخليتم عنها؟