في مقالنا السابق تناولنا المفهوم الفلسفي للديمقراطية وتاريخها ومبرراتها الأخلاقية، وأوضحنا زيف الديمقراطية الغربية، وشرحنا خدعة حكم الشعب لنفسه. في هذا المقال نستفيض في كشف كذب الساسة الذين يُعتبرون أهم عوائق الديمقراطية، كما سنلقي الضوء على العلاقة بين الديمقراطية الغربية وتغول الشركات متعددة الجنسيات، وسوف ننتهي إلى حيث دخول أوروبا مرحلة ما بعد الديمقراطية.


ديمقراطية الكذب

الديمقراطية كما أرادها المفكرون، والتي تعني أن يكون الشعب مصدر السلطات، وأن يحكم نفسه بنفسه، لا وجود لها، إذا بقيت هذه الكلمات خالية من أي معنى حقيقي. إن عدم احترام المجتمعات الغربية لمفهوم الديمقراطية كما وصفها الفلاسفة، ليس هو الإشكالية الوحيدة، إنما الطامة هي الكذب والتزييف الذي تقوم به هذه الأنظمة على شعوبها كونها تدّعي أنها دول ديمقراطية، وأنها تحترم تطبيق الديمقراطية.

إنهم يكذبون لأنهم لا يكشفون الحقيقة أن مفهوم الديمقراطية وهم غير قابل للتطبيق كما ورد نظريًا، وأنه لا يمكن للحكم إلا أن يكون فرديًا. وهذا لا يتعارض مع تشكيل هيئات استشارية لتزويد الحاكم الفرد بالبيانات والمعلومات ونصوص الدستور التي تجعله يتخذ قرارات مفيدة وقابلة للتحقق.

دور الفرد هنا أهم كثيرًا من دور الجماعة، والقيادة ومركز اتخاذ القرارات لا يمكن إلا أن يكونا من صلاحية فرد واحد هو رأس السلطة السياسية. لكن هذا لا يعني بأي حال أنها سلطة ديكتاتورية، لأن الرئيس تم انتخابه عن طريق ممثلي الأمة، ويلتزم بدستور البلاد، هذا الالتزام تحميه المحكمة الدستورية العليا.


عوائق الديمقراطية

أهم العقبات التي تحول دون أن ننعم بديمقراطية حقيقية هي وجود الحكام المستبدين الذين يحولون دون تشكل معارضة حقيقية لأنهم سوف يكون مصيرهم إما السجون وإما المطاردة، حكام ظالمون يفرضون رأيهم على الجميع بقوة السلطة، وتفشي آفة الفقر بين الشعوب وارتفاع مستويات البطالة، تجعل الناس تستسلم للقهر للحصول على لقمة العيش، وكذلك انتشار مستويات مرتفعة من الجهل تحول الناس إلى فريسة سهلة الانقياد للأكاذيب، ثم وسائل الإعلام التي يتم توظيفها في خداع الناس والكذب على الجمهور، وتضليل الناخبين بواسطة الدعاية المركزة، التي تقوم بغسل أدمغة البشر وتكييفها مع الواقع.

اختفت صورة الحاكم المستبد -تقريبًا- في الدول الغربية، واختفى أيضًا نموذج الرئيس «الزعيم» الذي يتمتع بالجاذبية الجماهيرية، والمقدرة الخطابية التي تلهب حماس الناس مثل «ونستون تشرشل»، «شارل ديغول»، «جون كينيدي». كما تراجعت كثيرًا مستويات الفقر والجهل في الغرب خلال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، لأسباب متعددة منها انتشار التعليم وتحسن مستوى المعيشة. مع ذلك تراجع دور المجالس النيابية في هذه البلدان، وانخفضت نسبة المشاركين في التصويت بالانتخابات، وتمادت السلطة السياسية في اتخاذ قرارات كبرى لا تحظى بدعم شعبي.


تحالفات عابرة للقارات

في سبعينيات القرن العشرين ظهرت ما باتت تعرف بـ «الشركات متعددة الجنسيات»، شركات عملاقة يمتد إنتاجها وتسويقها ونشاطها الصناعي إلى مختلف بقاع الأرض، تمتلكها مراكز الأموال في العديد من الدول، لذلك هي ليست منسوبة لدولة بعينها. لقد تطورت هذه الشركات الضخمة تطورًا سريعًا، ونمت حركة التصنيع والتسويق فيها بحيث أصبحت تنافس في نشاطها دولًا كبرى.

ماذا يعني هذا؟

يعني أن هذه الشركات العظيمة لم تعد خاضعة للسياسات الاقتصادية التي تحددها الدولة الوطنية أي دولة المنشأ، وأصبحت تهرول نحو مصالحها وتتجاهل المصلحة الوطنية، وهكذا انحسرت سلطة الدولة وتضخمت سلطة هذه الشركات، بل وصلت سلطة الشركات عابرة للقارات أن تحول العديد من الموظفين العموميين للدول الغربية، وأهمهم الدبلوماسيون، إلى موظفين يحافظون على مصالح هذه الشركات. فأصبحت الدولة تضعف وهذه الشركات تقوى أكثر فأكثر، وهذا يؤدي إلى ضعف الولاء للدولة الوطنية في مواجهة تيار العولمة.

ولنا أن نتخيل ما الذي حدث للديمقراطية الغربية؟ نعم ما زال في المشهد العام أن الناس ينتخبون أعضاء المجالس التشريعية البرلمانية، ولا زالت الأحزاب السياسية تتنافس فيما بينها للفوز في الانتخابات. لكن الحقيقة التي لا يراها الناس أنه تجري حوارات ومباحثات في الغرف المغلقة بين الزعماء السياسيين وبين ممثلي الشركات الضخمة، وداخل هذه الغرف يتم اتخاذ عدة قرارات تحدد اتجاهات الأحزاب، وتتحكم بكل خيوط اللعبة الديمقراطية.

النتيجة انخفاض واضح في نسبة المشاركين في التصويت، وغابت القضايا الخلافية الكبرى بين الأحزاب بسبب التوافقات غير المعلنة. ثم حصل تطور آخر ترافق مع تضخم الشركات العملاقة، إذ تصاعد السلوك الاستهلاكي في المجتمعات الغربية مترافقًا مع ارتفاع مستويات الدخل، وكذلك التطور السريع في وسائل الاتصال الذي جعل التسوق أكثر سهولة.

ونتيجة التنافس الشديد بين الشركات والجهات المصنعة، أصبح الشغل الشاغل لها هو توظيف البيانات التي تحصل عليها لزيادة الاستهلاك، وتراجع الاهتمام بالقضايا السياسية والاجتماعية والأخلاقية، الأمر الذي يجعل المواطن يقع تحت تأثير وسائل الإعلام التي توجهه نحو السلع التي تحقق الربح الأكبر للشركات، وهذا يكشف زيف الادعاء بأن للمستهلك الحق في اختيار المنتج الأفضل. وهكذا احتل هذا المستبد الجديد – الشركات العملاقة- مكان المستبد القديم.


ماذا عن الضوابط الأخلاقية

خلال السنوات الأخيرة تبدو القارة الأوروبية للمتابعين أكثر توترًا وقلقًا وانشغالًا بمتابعة الموجات المتتالية من الشعبوية الساخطة، ومن تصاعد خطاب الكراهية ضد الآخر، لذلك تظهر الديمقراطية الغربية في أضعف حالاتها، لأنه ببساطة يجري تفريغها من محتواها عن طريق توسع الأفكار اليمينية المتشددة.

إن التطرف في أوروبا قد أصاب اليمين واليسار على حد سواء، فعلى سبيل الذكر لا الحصر، الحكومات القومية في بولندا وهنغاريا تهدد حكم القانون الدستوري، ونلاحظ أن الأحزاب المتطرفة من اليمين واليسار في كل من إيطاليا والنمسا واليونان وألمانيا والسويد في تصاعد. ففي الوقت الذي تشيخ فيه الديمقراطية الغربية، علينا أن نلاحظ أن عمرها لا يتجاوز ربع قرن في دول شرق أوروبا.

في استطلاع للرأي أجرته مؤخراً مؤسسة «بيو» الأمريكية للأبحاث، أظهر أن 20% من المواطنين اليونانيين والإسبان يعتقدون أن الديمقراطية التمثيلية طريقة سيئة لإدارة الحكم. فيما عبر 29% من الإيطاليين موافقتهم على وجود قائد قوي يتخذ قرارات دون تدخل السلطات التشريعية. وأن 26% من البريطانيين لديهم موقف ناعم من الحكم الفردي. وفي دراسة مختلفة أجرتها في العام 2016 مجلة الديمقراطية، قال 40% من الشباب البريطاني إن الديمقراطية لم تعد حيوية، و44% قالوا إنهم لم يصوتوا أبدًا.


هل فشلت الديمقراطية الغربية؟

ألم يحكم هتلر ألمانيا النازية بانتخابات ديمقراطية؟ والفاشية الإيطالية ألم تنجب موسوليني بواسطة انتخابات ديمقراطية؟ نتنياهو الصهيوني قاتل الأطفال يحكم باسم الديمقراطية ووصل إلى سدة السلطة بواسطة انتخابات ديمقراطية كذلك!

إنها الديمقراطية الغربية التي وصفها الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر بأنها «فخ الحمقى». واعتبرها الزعيم البريطاني ونستون تشرشل أسوأ نظام. ديمقراطية تعتمد التكييف الاجتماعي للبشر مما أوجد الغالبية الصامتة. إنها ديمقراطية الحرية والمساواة والعدالة ومنح السلطة للشعب غير المخول بممارستها أصلًا. لهذا قال عنها الفيلسوف السويسري «جان جاك روسو» إن الديمقراطية الحقيقية بمعناها الدقيق لم توجد أبدًا ولن توجد أبدًا.

ديمقراطية هلامية يشن الغرب باسمها الحروب على الدول النامية، ويحاول فرضها على دول أخرى. هي ذاتها الديمقراطية التي تضج بها الوسائل الإعلامية الغربية وتحاول تعميمها، في وقت يرفضها الكثير من المفكرين الغربيين وعلماء الاجتماع، وغالبًا لا نسمع أصواتهم. ومن المستغرب أنه رغم فشل الديمقراطية بنموذجها الغربي، إلا أننا نجد محاولات الغرب لا تتوقف عن نشرها وتعميمها بالترغيب أو الترهيب.

إن الديمقراطية في العصر التنويري الغربي تتشابه مع تلك الديمقراطية اليونانية. حيث كان الحكم للنبلاء في العصر الإغريقي، وأصبح الحكم للطبقة البرجوازية بعد الثورة الفرنسية، وفي كلا المرحلتين كان حق التصويت حكرًا على الأحرار والملاك. أما الديمقراطية في العصر الحديث فهي تفرض الوصاية على الشعب؛ لأن الأحزاب السياسية لا ثقة لها بقدرة الشعب على حكم نفسه بنفسه.


ما بعد الديمقراطية

يتسم القرن الواحد والعشرين بسقوط الأيديولوجيات والنظريات، والنظام السياسي العالمي لم يعد يخضع للتصنيف المألوف، فهو لم يعد لا يساريًا ولا يمينيًا ولا ديمقراطيًا. إنه قرن المصالح الكبرى، حيث تتصارع فيه قوى عظمى تبحث عن آليات لتحقيق مصالحها، في ميدان يعتبر أن القوة الحقيقية هي القوة الاقتصادية التي تتمكن من الاستحواذ على الأسواق لتلبية الاحتياجات البشرية المتزايدة.

دخلت المجتمعات الغربية -معظمها- عصر الشعبوية ما بعد الديمقراطية، التي أظهرت الانتخابات الأخيرة التي نُظِّمت في العديد من الدول الأوروبية خلال العامين الأخيرين الوجه الصريح الواضح لها، إذ حققت الأحزاب اليمينية المتطرفة توسعًا جماهيريًا وصعودًا انتخابيًا. واعتبرت الأحزاب العنصرية أن هذا الفوز بداية ما أسماه رئيس الوزراء الهنغاري «فيكتور أوربان» بالديمقراطية غير البرلمانية، وكان يقصد فصل النظام الانتخابي عن القيم الحداثية الغربية. فيما دعت أحزاب أخرى إلى العودة للهوية المسيحية التقليدية التي كانت محور الخصوصية الأوروبية.

وهذا ما ذكره عالم الاجتماع الفرنسي «إيمانويل تود»، حيث حدد خمس سمات للظرف الراهن في بلد مثل فرنسا اليوم، وهي عدم اتساق الفكر والتواضع الثقافي والعدوانية والحب المرضي للمال وعدم الاستقرار العاطفي والعائلي. ويقابل هذه السمات برأيه انحسار في الديمقراطية وخلل في التربية وفراغ روحاني وزيادة في فقر الشرائح الشعبية.

إن عالم ما بعد الديمقراطية هو عالم تتراجع فيه السياسة لمصلحة الاقتصاد والأمن والثقافة الخاصة. إنه أيضًا عالم تتقوض فيه الأسس المعرفية للعلوم الاجتماعية، بفعل القوة الناعمة للنظام الجديد. فهل يتحول النظام السياسي العالمي، إلى نظام ليس شيوعيًا ولا ديمقراطيًا ولا ليبراليًا ولا رأسماليًا، ويتحول الكون إلى مدن بلا أسوار؟

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.