إن تكريس حياة الفرد في السعي لمعرفة الصحيح من المذاهب والملل والفرق، والسعي لطلب حقيقة الفطرة الأصلية وحقيقة العقائد، هو الطريق الذي سلكه الإمام أبو حامد الغزالي لسعيه المحتوم إلى سلوك طريق (الفرقة الناجية) والوصول إلى الصحيح من العلوم والفطرة قبيل التلوث أو التلون بثقافات ومذاهب الغير.

فمنذ عنفوان شبابه حتى أناف على الخمسين، اقتحم لجة هذا البحر العميق وخاض غمرته خوض الجسور، وتوغل في كل مظلمة، وتهجم على كل مشكلة، واقتحم كل ورطة، وتفحص عقيدة كل فرقة، واستكشف أسرار مذهب كل طائفة، كي يميز بين الغث منها والسمين.

إن سعيه الدؤوب وتعطشه إلى العلم بحقائق الأمور آل به إلى الخوض في غمار العديد والعديد من العقائد (الفكرية كانت أو الدينية) وأوضح ذلك بقوله:

لا أغادر باطنيًا إلا وأحب أن أطلع على باطنيته، ولا ظاهريًا إلا وأريد أن أعلم حاصل ظهارته، ولا فلسفيًا إلا وأقصد الوقوف على كنه فلسفته، ولا متكلمًا إلا وأجتهد في الاطلاع على غاية كلامه ومجادلته، ولا صوفيًا إلا وأحرص على العثور على سر صفوته، ولا متعبدًا إلا وأترصد ما يرجع إليه حاصل عبادته، ولا زنديقًا مُعطلًا إلا وأتجسس وراءه للتنبيه لأسباب جرأته في تعطيله وزندقته. [1]

وفيما يظهر فقد كان نهمه (أي الغزالي) إلى تحصيل هذه العلوم جميعها بغرض إدراك اليقين من بين كل هذه الحقول المعرفية المترامية الأطراف، فأصبح السعي لتكوين أنموذجه الإبستمولوجي ورؤياه للحقيقة واليقين الفعلي دأبه ودينه، مما أدى به إلى ترحال بين العلوم والحقول المعرفية المتسعة، مُفتشًا ومُتنقلًا من علم لآخر، ومن مرحلة لأخرى، سالكًا درب المُتعلِّم والناقد في آن واحد.

المرحلة الأولية: السفسطة وجحد العلوم

فيما تبين أن العلم اليقيني هو الذي ينكشف منه المعلوم انكشافًا، فلا يبقى معه ريب، فهو مقترن باليقين اقترانًا، ومن هذا المنطلق قام الإمام -في بداية رحلته- بنبذ التقليد وطرحه جانبًا للأخذ بحقيقة الأمور، لا بما تم توارثه، وابتدأ في تصنيف علومه حتى استوى على الحسيات والضروريات الجليات من الأمور.

ولم يتيقن تيقنًا تامًا من تلك الأمور إلا بإخضاعها للشك الممنهج -وهو الدرب الذي سار عليه ديكارت وصقله من بعده- فأخذ بالتأمل في المحسوسات وإخضاعها لشكه، حتى انتهى به الأمر إلى عدم التسليم بصدق الحواس والمحسوسات، فمن أين الثقة بالمحسوسات وأقوى الحواس تخطئ في إيضاح الظاهر من الأمور؟ (كرؤية الكواكب صغيرة بينما في حقيقتها أكبر من الظاهر، وذلك استدلالًا بالأدوات الهندسية العقلية الصحيحة).

ومن هنا ظن ألا سبيل إلا الثقة بالعقليات، ولكن خاب ظنه حين تساءل عن سبب ثقته بالعقليات، أليس من الممكن وجود حاكم أعلى منزلة من العقل كحكم العقل على الحواس؟ فلعل وراء إدراك حاكم العقل حاكمًا آخر إذا تجلى يكذب العقل في حكمه كما تجلى حاكم العقل فكذب حاكم الحس في حكمه، وعدم تجلي هذا الإدراك لا يدل مطلقًا على استحالته، وما زال متخبطًا (أي الغزالي) بين شكوكه في حقيقه إدراكه وواقعيتها قرابة الشهرين حتى أنار الله له ما بين جنبيه، وانتقل من حالة السفسطة المتدنية هذه إلى العودة إلى قبول العقليات، لا بنظم دليل وترتيب كلام، بل بحالة من السمو الروحاني، ومن هنا كانت نقطة الانطلاق الحقيقية لسلوكه درب التصوف، ورحلته من الشك وجحد العلوم إلى اليقين وقبول النور الإلهي. [2]

المرحلة الثانية: القول في العلوم المرغوبة

من هنا ظهرت وانحصرت لديه الحقول المعرفية في أربع من الفرق:

  • أولها المتكلمون: ويدعون أنهم أهل الرأي والنظر.
  • ثانيها الباطنية: ويزعمون أنهم أصحاب التعليم بالاقتباس عن الإمام.
  • ثالثها الفلاسفة: ويزعمون أنهم أصحاب المنطق والبرهان.
  • رابعها الصوفية: ويدعون أنهم أهل المشاهرة والمكاشفة.

حيث انطلق الإمام في رحلته ساعيًا إلى طلب الحكمة، ناشدًا الحق أينما وجد، صاقلًا روحه ومستنًا لنفسه مذهبًا، وُمشرِّعًا نهجًا مستقلًا وفريدًا بين مذاهب الفكر الإسلامي، ليكون صاحب رأي واجتهاد لا عبدًا من عُبّاد التقليد.

الحقل الأول: علم الكلام

ابتدأ الغزالي بتحصيل علم الكلام ومطالعة كتب المتقدمين واطلع على جل ما فيه فوجده علمًا وافيًا بمقصوده (أي حفظ عقائد أهل السنة وحراستها عن تشويش البدعة) لا بمقصوده (أي مقصود الغزالي)، فلم يكن هذا العلم في حقه (أي الغزالي) كافيًا ولا لدائه الذي يشكوه -وهو طلب الحق- شافيًا وافيًا.

ورأى أن كثرة الخوض في علم الكلام تؤدي إلى مجاوزة الذب والدفاع عن السنّة بالبحث عن حقائق الأمور، حيث خاض المتكلمون في البحث عن الجوهر والأعراض وأحكامها، ولم يكن ذلك مقصود علمهم، لذلك لم يبلغ كلامهم فيه غايته القصوى فلم يحصل منه ما يحمو ظلمات الحيرة بالكلية في اختلاف الخلق. [3] فقد عاب عليهم دراستهم النظرية وإسرافهم في الجدل والخصومة، وهو الأمر الذي أدى بعلم الكلام للخروج عن مقصده ومبتغاه. [4]

الحقل الثاني: الفلسفة

بعد التفرغ من علم الكلام شمر أبو حامد عن ساعد الجد وخاض خوض المجد في بحر هذا العلم (أي الفلسفة)، لتحصيله والاطلاع على كنهه، وقضى قرابة العامين لفهمه ومواظبة التفكير فيه وتفقد أغواره وغوائله، فقام بتقسيم الفلاسفة على اختلافهم وكثرة مذاهبهم إلى ثلاثة أقسام:

  • الدهريون: وهم طائفة من الأقدمين جحدوا الصانع المدبر وزعموا أن العالم موجود بنفسه والحيوان من نطفة والنطفة من حيوان وهم زنادقة.
  • الطبيعيون: وهم أناس أكثروا أبحاثهم عن عالم الطبيعة وأكثروا الخوض في علم تشريح الأعضاء مما اضطرهم إلى الاعتراف بصنع الله وبدائع حكمته، ولكنهم زعموا أن النفس تموت ولا تعود فجحدوا الآخرة وأنكروا الجنة والنار والقيامة والحساب، ولم يبق عندهم للطاعة ثواب ولا للمعصية عقاب، فانهمكوا في الشهوات انهماك الأنعام وهم كسابقيهم.
  • الإلهيون: وهم المتأخرون كسقراط وأفلاطون وأرسطو، ويقول فيهم أبو حامد وجوب تكفيرهم وتكفير متبعيهم من متفلسفي الإسلام كابن سينا والفارابي. [5]

 ويفرد أبو حامد في كتابه «المنقذ» بضع صفحات للفصل في مجموع علوم فلاسفة اليونان وما نُقِل عنهم من متفلسفي المسلمين، فقسم من علومهم وجب إنكاره وقسم آخر يجب التبديع به وقسم لا يجب إنكاره. (وهم ستة أقسام؛ رياضية ومنطقية وطبيعية وإلهية وخلقية).

أما (الرياضة) وهي المتعلقة بعلم الحساب والهندسة وليس يتعلق منها شيء بالأمور الدينية نفيًا أو إثباتًا، بل هي أمور برهانية لا سبيل إلى إنكارها بعد فهمها ومعرفتها. [6] وأمّا (المنطقيات) فلا يتعلق منها شيء بالدين نفيًا أو إثباتًا، بل هو النظر في طرق الأدلة والمقاييس وشروط مقدمات البرهان وكيفية تركيبها وشروط الحد الصحيح وكيفية ترتيبها، وأن العلم إمّا تصور وسبيل معرفته الحد وإمّا تصديق وسبيل معرفته البرهان.

وأمّا (الطبيعيات) فهو بحث عن أجسام السماوات وكواكبها وما تحتها من الأجسام المفردة كالماء والهواء والتراب والنار، ومن الأجسام المركبة كالحيوان والنبات وما تحتها، وعن أسباب تغيرها واستحالتها وامتزاجها، وليس من شروط الدين إنكار هذا العلم إلا في مسائل معينة. [7]

وأمّا (الإلهيات) فعلى قول أبي حامد فيها أكثر أغالظهم وفسادهم، وترتب على ذلك تأليفه لسفره «تهافت التهافت» للرد على العديد من مسائل الفلاسفة خاصة في هذا الصنف من العلم. وأمّا (السياسات) فكلامهم فيها يعود إلى الحكم المصلحية المتعلقة بالأمور الدنيوية السلطانية. وأمّا (الخلقية) فكلامهم فيها يرجع إلى حصر صفات النفس وأخلاقها وذكر أجناسها وأنواعها وكيفية معالجتها ومجاهدتها. [8]

 وبعد دراسة تفحصية وخوض في مسائل الفلسفة قام أبو حامد بنقدها متأثرًا (شعوريًا كان أو لا شعوريًا) بالتفلسف ذاته في كتابه «تهافت التهافت»، فكان حامي الوطيس على المنهج الفلسفي -اليوناني أو العربي المنقول من التراث اليوناني- وناقش بتمعن قصور وفساد وركاكة هذا المذهب في كتابه، مُقتصرًا حديثه على مسائل بعينها مُتشعبًا في الآن نفسه في هذه المسائل.

إن الغزالي بإظهاره فساد مذاهب الفلاسفة وقصور أدلتهم، يريد أن يقرر قلة بضاعة العقل في معرفة المسائل الربوبية، وذلك ليُمهِّد نفوس الناس إلى الإقبال على الدين وعلى التصوف، وبعبارة أدق أراد أن يوجههم إلى الرجوع إلى القلب أو الروح الذي يدرك الحقائق الإلهية بالذوق والكشف بعد تصفية النفس بالعبادات والرياضات الصوفية. على أن للعقل عند الغزالي مهمة لا شك فيها، وهي إدراك التناقض في الآراء والقضايا النظرية، واستبعاد الأحكام المتناقضة من ميدان العلم وميدان الآراء الدينية. [9]

الحقل الثالث: الباطنية

بعد انتهاء أبي حامد من دراسة الفلسفة اتجه إلى علم آخر وحقل إبستمولوجي آخر، حيث قام بدراسة مقالات الباطنية ومعارفهم للاطلاع على ما في كنههم وما في جعبتهم كدراسته للعلوم السابقة، وذلك للوقوف على حقيقة مذهبهم، وقد رأى أن تأثر بعضهم بـ «فيثاغورث» من ركاكة مذهبهم وعلمهم، فقام بمجادلتهم وأظهر فقر وضعف عقيدتهم العلمية.

الحقل الرابع: الصوفية

ثم إني لما فرغت من هذه العلوم أقبلت بهمتي على طريق الصوفية، وعلمت أن طريقهم إنما تتم بعلم وعمل، وكان حاصل علمهم قطع عقبات النفس والتنزه عن أخلاقها المذمومة وصفاتها الخبيثة حتى يتوصل بها إلى تخلية القلب عن غير الله وتحليته بذكر الله، فابتدأت بتحصيل علمهم من مطالعة كتبهم مثل «قوت القلوب» لـ «أبي طالب المكي»، وكتب الحارث المحاسبي، والمتفرقات المأثورة عن الجنيد والشبلي والبسطامي. [10]

هكذا أفرد الغزالي في مبتدأ حديثه عن دراسته للصوفية والتصوف، مُنتهيًا بـ:

أني علمت يقينًا أن الصوفية هم السالكون لطريق الله تعالى خاصةً، وأن سيرتهم أحسن السير وطريقتهم أصوب الطرق وأخلاقهم أزكى الأخلاق، بل لو جمعوا عقل العقلاء وحكمة الحكماء وعلم والواقفين على أسرار الشرع من العلماء ليعيروا شيئًا من سيرتهم وأخلاقهم ويبدلوه بما هو خير منه، لم يجدوا إليه سبيلًا، فإن جميع حركاتهم وسكناتهم في ظاهرهم وباطنهم مقتبسة من نور مشكاة النبوة وليس وراء نور النبوة على وجه الأرض نور يُستضاء به. [11]

فعلى الرغم من معارضة الغزالي لبعض نظريات الصوفية كوحدة الوجود والحلول، إلا أنه استمد منهم رسالته الأخلاقية، وهي في حقيقتها تصوف أخلاقي. وقام بمزج الشريعة بالتصوف، كما مزج العبادات بروح من التصوف أطلق فيها النور والروح إطلاقًا يبعث في القلب نشوة الإيمان، ورعشة الخوف، وفرحة الحسِّ المطمئن إلى واجبه المقدس. [12] وهكذا انتهى الغزالي من رحلته البحثية مُتممًا ما كان قد سعى له في أول الأمر فأضحى بلا شك مؤسس التصوف السني. [13]

ومن هذا المنطلق صار الدين عند الغزالي ذوق وتجربة من جانب القلب والروح، وليس مجرد أحكام شرعية أو عقائد تُلقى، بل هو أكثر من ذلك؛ هو شيء يحسه المتدين بروحه إحساسًا حيًا. فلا يحس كل إنسان بروحه ما يحسه الغزالي. والذين لا يستطيعون متابعته إذ يعرج، على أجنحة التصوف، في مدارج السالكين مُتخطيًا حدود المعارف التي يمكن اكتسابها بالتحصيل العادي، لا محيص لهم عن الإقرار بأن محاولته في الوصول إلى الله مهما كان فيها من مغامرة في ميادين المجهول، ليست أقل شأنًا في تاريخ العقل الإنساني من مسالك فلاسفة عصره، وإن بدت هذه المسالك أدنى إلى اليقين. [14]

إن رحلة أبي حامد هي رحلة زاخرة بالمصاعب والتنقلات بين الرؤى المعرفية حيث إن حياته تتراوح بين فكرتين أساسيتين -لهما الفضل الأكبر في ميراثه الثقافي- هما الشك واليقين وهما مفتاح الوصول إلى تفهم شخصيته وأساليبه ومنهجه وأفكاره، حيث إنه آمن بالشك واعتنقه صراطًا علميًا حيث «منْ لم يشك لم ينظر… ومنْ لم ينظر لم يبصر… ومنْ لم يبصر بقي في العمى والضلال». [15]

وهذه منهاجه الذي بإمكاننا بلورته في صورته العلمية والمعرفية، لتنم عن عقل فذ في التعامل مع العلوم لتكوين أيديولوجيات فردية خاصة ومتحررة من قيود التقليد، وبناء نظام إبستمولوجي حي ينم عن تشرب تام لمعارف وعلوم عصره، وتوظيفه لها في إنتاج تراث ثقافي خصب.

إن الفكر الغزالي في منهجيته فكر جوهري، حيث يتمخض عن تجربة عميقة للغوص في ظلمات الفكر الإنساني وفي ميادين المجهول -من العلوم- للبحث عن ماهية الحقيقة أو الله. فالدرب الذي سلكه يعد أنموذجًا يحتذى به في الثقافة (العربية والاسلامية خاصة) بل في تاريخ الفكر بمنتوجه الثقافي الضخم.

المراجع
  1. المنقذ من الضلال، الإمام أبي حامد الغزالي، مكتبة ومطبعة محمد علي صبيح وأولاده، ص4.
  2. المنقذ ص 5،6 بتصرف.
  3. المنقذ ص 9.
  4. في الفلسفة الإسلامية منهج وتطبيقه – الجزء الثاني، د. إبراهيم مدكور، مكتبة الأسرة، ص52.
  5. المنقذ ص 11،12.
  6. المنقذ ص13.
  7. المنقذ ص 15.
  8. المنقذ ص 17.
  9. تاريخ الفلسفة في الإسلام، ت. ج. دي بور، هامش ص318، 319.
  10. المنقذ ص27.
  11. المنقذ ص 30، 31.
  12. الغزالي – طه سرور- ص25.
  13. في الفلسفة الاسلامية منهج وتطبيقه – الجزء الاول، د. إبراهيم مدكور، ص62.
  14. تاريخ الفلسفة في الاسلام – ص348.
  15. الغزالي، طه سرور، مؤسسة هنداوي، ص25.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.