لا يشغل الحياة متى تعلمت المشي، لكنها تحفظ آثار أقدامك، تريك حين تصل في أي طريق سـرت.

بهذه الكلمات يلخص محمد العدوي أحداث روايته الأولى «إشراق» والتي تم نشرها في عام 2009. العدوي هو طبيب عيون مصري، تربى ونشأ في الخليج العربي حيث عمل والده لسنوات، ثم عاد لمدينة المنصورة في بداية دراسته الجامعية للطب.

تبدو رحلة العدوي بين المدينة المنورة التي ولدت في الصحراء، والمنصورة المدينة التي يحتضنها نيل مصر، مؤثرة بشكل كبير على رحلته. رحلته التي يبحث فيها عن هويته، كما يبحث فيها أيضاً عن إجابات كثيرة لأسئلته عن الحب والإله.

رحلة كهذه تكفي بالطبع لصنع رواية، لكن السؤال يبقى دوماً عن طريقة سرد الحكاية، فهل نجح العدوي في هذا؟ والأهم كيف يمكننا تقييم هذا العمل حينما ننظر له اليوم بعد مرور 10 سنوات على نشره.


الحوار الداخلي: حديث مع النفس

يعتمد العدوي في غالبية أحداث روايته على «المونولوج الداخلي» بحيث نجد أنفسنا أمام راو يحدثنا عن دواخل نفسه، أفكاره وأحلامه ومخاوفه.

يبدو الأمر كما لو أننا أمام خواطر شخصية، تبدأ في الطفولة بأسئلة عن ماهية الجنة والنار، خصوصًا حينما يجد الطفل إجابات الكبار متغيرة وغير منطقية. ثم تمتد الخواطر شيئًا فشيئاً لتصبح أكثر عمقًا وفلسفية كلما تقدم بطلنا في العمر وهم بمغادرة أسراب الطفولة.

جدي لم يذهب إلى النار كما تقول أمي، مع إنه كان يدخن، وأنا سألحق به، مع أني أحكي لأمي حكايات لم تقع، وأتخلص من شطائري التي لا أحبها.

هكذا إذن يفتح الطفل الصغير عينيه على حقيقة الحياة والموت، لتبدأ تساؤلات أعمق عن الإيمان والكفر، وعن حكمة الإله في خلق الثواب والعقاب، وقبل ذلك كله عن حقيقة ما يصل لنا من الدين.

يستمر الأمر هكذا طوال صفحات الرواية، إلا في فصل صغير ينتقل فيه الحوار الداخلي لبطلة أخرى، فتاة فلسطينية تنتمي عائلتها إلى نابلس لكنها ولدت في عمان بالأردن وانتقلت للمنصورة لدراسة الطب في مصر. «ميس» هو اسمها، وفيها نجد وجهًا آخر للحكاية، وجه تشترك فيه مع بطلنا المصري.


الحب: الكلمة والوطن

الحب في رحلة بطلنا ليس ارتباطاً عاطفياً وفقط، ولكنه يمثل علامة مهمة جداً على الطريق، الطريق الذي يبحث فيه بطلنا عن هويته وعن علاقته بالدين. في البداية يحدثنا عن رانيا، ثم ينتقل الحديث إلى ميس، وينتهي بحديث مطول عن ليلى. تخونه الكلمات في بعض الأحيان ولا يجدها في أحيان أخرى، ويجد ضالته في الكتابة أخيرًا ليكتشف قوة الكلمة وأثرها الخالد في نفوسنا.

يختبر البطل في كل مرة حبًا مختلفًا، فهو الحب الأول الذي يخشى الاعتراف به مع رانيا، ذكريات الطفولة الأولى التي تختلط بأغاني فيروز، وهو حب الغربة المشتركة مع ميس، كل منهما يشعر بأنه غريب عن المنصورة، كل منهما تربى خارج وطن أهله، وكل منهما شاهد «سالي» و«ريمي» في طفولتهما، مسلسلات الأطفال المدبلجة التي يذكرها أطفال الثمانينيات والتسعينيات، وفي النهاية هو حب المشتاقين مع ليلي، العاطفة التي تتملكك والأسئلة الكثيرة التي يدفعك قلبك لتخطيها ويستمر عقلك في طرحها.


أزمة الهوية: أبناؤنا العائدون من صحراء الخليج

إن حبًا لا تستطيع الكلمات التعبير عنه، حب خديج ناقص لا يتحمل البقاء. إننا نتزوج بكلمة ونؤمن بكلمة وحينما نذنب مهما أذنبنا فإن الاستغفار لم يزل كلمة.

يمكننا قراءة رواية «إشراق» إذن ضمن سياق أكبر من خواطر كاتبها عن طفولته وشبابه، سياق يجمع أبناء المصريين العائدين من صحراء الخليج، تلك الصحراء التي سافر لها آلاف المصريين بحثًا عن لقمة العيش، فعادوا منها وهم يحملون نسخة أخرى من الإسلام، وبالطبع نسخة أخرى من الثقافة الحياتية، شكلتهم مدن الصحراء وتركت فيهم أثرًا لا يمكن محوه بسهولة.

لا يمكن لمدينة أن تقبلك إلا إن صنعتك هي، إن أعلمت يدها فيك، إن أخذت منك، أو اعطيتها أنت شيئا كبيرا كحياتك مثلا.

يبدو بطل روايتنا مشتتًا طوال الوقت بين الدين والحياة، وكأن كلًا منهما مضاد للآخر، التدخين قد ينتهي بك إلى النار، سرد حكايات لم تقع قد يقودك في نفس الطريق أيضًا، حبك لفتاة غير مسلمة قد ينتهى بك أيضًا للحشر يوم القيامة مع الكفار. كل هذه الهواجس لا تتقبلها نفس البطل لكنه يظل معلقًا بتدين يمثل ذكرياته الأولى، وهكذا تنتهى الرواية في النهاية دون إجابة.

هي أزمة الهوية إذن، أزمة تجعل البطل قريبًا جدًا من طلاب التيار الإسلامي في فترة دراسته الجامعية، لكنها أيضًا تترك عشرات الأسئلة بلا إجابة فيما يخص رؤيته لنفسه وللبشر والحياة بشكل عام.

قد تكون لغة محمد العدوي بسيطة وسهلة لدرجة يمكن معها ترشيح هذا الكتاب لطفل في المرحلة الإعدادية لقراءته، ولكنها أيضًا تحمل أفكارًا ربما لا تزال تطارد من تربى في الخليج من أبناء المصريين حتى ولو تخطى الثلاثين من عمره اليوم.

هذا الأثر تحديدًا هو ما يصنع أهمية هذه الرواية، وهو ما يدفعنا للتساؤل عن أفكار بطلها إذا ما أتيحت لنا الفرصة لمعاينتها اليوم، خصوصًا بعد ما حدث في مصر في يناير 2011 ويونيو 2013.