«التكثيف المستمر» هي عبارة من إبداع ناقد نظرية الفيلم «ديفيد بوردويل» واصفاً سينما هوليوود. حيث الأفلام ذات الوتيرة السريعة، وفي نفس الوقت، تستخدم أسلوب سرد معقد، مع الكثير من اللقطات وبالتالي القطعات المونتاجية التي تعطي وتيرة أسرع. مع الالتزام بقواعد الاستمرارية overlapping . بين كل مخرجي السينما الأمريكية يضع بوردويل اسم وحيد كاستثناء وهو «ديفيد لينش».

سينما «كرستوفر نولان» كمثال على هذه السينما. فمن ناحية السرد لا يحبذ نولان السرد التقليدي ويرغب في تعقيده قدر الإمكان، حتى في فيلمه الأبسط من حيث السرد والأحداث «Dunkirk» استخدم أسلوب القطع المتوازي، وعرض القصة من ثلاثة مناظير. وفي نفس الوقت لا يحبذ نولان اللقطة المشهدية (حيث يكون المشهد عبارة عن لقطة وحيدة دون قطع) بل يسرف في قطعاته وانتقالاته المكانية في نفس الزمن.

وعلي جانب آخر، في فيلم «loveless» للروسي «أندري زفياغنسيف» والذي عرض هذا العام، تبدو الأحداث أكثر تباطؤًا، وأقل في منح المعلومات، وأغلب اللقطات مشهدية وتأملية قدر الإمكان. وينتهي الفيلم بمشهد تأملي بحت للشجرة والشريط الملتصق بها وهي لعبة الابن المفقود المفضلة. إنه مشهد تأملي يمنح المشاهد الفرصة للتفكير في كل مكونات الصورة ويعكسها على ذاته وأفكاره. هذه هي الفروق الجوهرية بين الشائع عن الأفلام الأوروبية والأمريكية في نفس الوقت.


معضلة هيتشكوك

قاعدة «ألفريد هيتشكوك» الأشهر والتي ربما تتكرر في معظم ورش الإخراج والسيناريو والتي تتبع الشكل الفيلمي الهوليوودي؛ إذ يجلس شخصان على طاولة وأسفلهما قنبلة ستنفجر بعد خمس دقائق، وهما لا يعلمان بوجودها. ولصنع الإثارة للمشاهد لابد أن يسبق الأبطال بخطوة. يجب أن يعلم مكان القنبلة ووقت انفجارها. وبينما يتحدث الأبطال بأمان. يكون المشاهد في قمة تساؤله كيف سيُنقَذ الأبطال. ما العامل الخارجي الذي سيستغله المخرج؟ هنا تكون اللعبة بين المشاهد والمخرج وكيف سيتصرف بطريقة مقنعة وفي نفس الوقت لا تقلل من الإثارة.

ولكن مع تطور السينما، وزيادة معلوماتية المشاهد نتيجة الميراث السينمائي الطويل. أصبح أكثر ذكاء في توقع الأحداث. كما تطورت أدوات المخرجين وأصبحوا يتلاعبون بتلك القاعدة. فالمخرجة «كاثرين بيغلو» على سبيل المثال تعكس القاعدة تمامًا. في فيلمها «zero dark thirty» تجلس البطلة مع صديقتها على الطاولة. ودون علم المشاهد أو الشخصيات تنفجر القنبلة بجانبهما. عندها تنقل بيغلو الصدمة الحقيقة والتي تكون إثارتها أكثر من لو علم المشاهد بوجود القنبلة. كما أنها تنقل شعور أحداث العمليات الإرهابية للمشاهدين كالشخصيات.

ولكن مهما خولفت قواعد هيتشكوك في فيلم بيغلو أو غيره، فيمكن وصف هذه الأفلام بأنها تنويعات في التكثيف المستمر طبقًا لمصطلح بورديل.


تأملية أوروبا

الانطباع العام على السينما الأوروبية أنها سينما بطيئة، وهذا الأنطباع صحيح على الأغلب رغم وجود الكثير من الأفلام الأوروبية ذات الوتيرة السريعة والتي استخدمت التكثيف المستمر. لا يستخدم الكثير من الأوروبيين الجريمة أو الحدث الضخم لخلق إثارة ومتعة. بل عادة يستخدمونه للتأمل.

في فيلم المخرج السويدي روبن اوستلوند« force majeure» يظهر مجموعة مشاهد لأسرة في رحلة ترفيهية. لا يعطي أي معلومات عن صفات الزوج والزوجة مجرد مشاهد روتينية لأحداثهم اليومية غير المثيرة. وفي مشهد الانهيار الجليدي، لايقوم أوستلوند بأي نوع من القطع أو التكثيف. المشهد من لقطة واحدة حيث تجلس الأسرة في المطعم المطل على الجبل. يحدث الانهيار ويهرب الزوج ويترك أولاده مع زوجته. الكاميرا ثابتة لا يوجد معلومات أو تقييم أخلاقي لتصرف الزوج. أو حتي بروزة ما فعله. كلها متروكة لتأمل المشاهد. الذي قد يندمج في الانهيار ولا يرى تصرف الزوج أو الزوجة أساسًا. أو قد لا يرى في تصرف الزوج شيئًا خطأ.

وفي فيلم «cache» لمايكل هانيكا. تكون أغلب اللقطات مشهدية. ويبدأ الفيلم بمشهد لكاميرا تنظر لمنزل. لا يوجد تغير في الأحداث. يأتي رجل ويدخل المنزل ويتجه للسيارة. ثم لا يقدم أي تفسير عن مرسل الشرائط. المشاهد في هذه الحالة يكتشف الشخصية الرئيسية. ويتأمل في حياة الأسرة وموضوع الابن والزوجه والزوج منها. تستمر الحالة التأملية إلى مشهد النهاية. فبعد الكثير من الأحداث المأساوية يعرض هانيكا مشهدًا لمدرسة الابن. والتي يظهر على أحد أطرافها الابن وصديقه. لتترك النهاية والأحداث لتأملات المشاهد.

ربما تتهم سينما هانيكا والكثير من المبدعين الأوروبين بالتعالي على المشاهد، أو عدم اهتمامها به. ولكن هذا غير صحيح على الإطلاق. فهانيكا في هذه الحالة يخاطب عقل المشاهد الناضج، يراهن على تأملاته للحدث. فالعقل إذا نجح في الوصول لحالة التأمل فهذه هي الغاية من أي فن. حيث يصبح المشاهد متورطًا عقليًا مع الفيلم. عكس الكثير من الأفلام الأمريكية التي تفترض عدم نضج المشاهد وتحاول إرضاء مشاعره السيئة وجنوحه للملل ورغبته الزائفة في متعة مصطنعة.

يأخذ المجري «بيلا تار» التأملية والواقعية لمرحلة متطرفة. حيث يعرض الزمن والأحداث كما هي بتكرارها ومللها ولا جدواها. إنه يتحدى كل قواعد التكثيف. وربما أغلب قواعد السيناريو بضرورة تقديم كل مشهد عن المعلومة أو إحساس جديد. فيلم the Turin horse كله يعتبر تكرارًا لنفس الأحداث والوتيرة عدا مشهد البداية ومشهد في وسط الفيلم.

يمكن القول إن السينما الأمريكية والأوروبية يخاطبون عقل المشاهد ومشاعره بطرق مختلفة. ولكن التكثيف المستمر يجعل السينما التجارية دائمًا في هوليوود. لأنه أنسب للترفيه. وهذا لا ينفي أن الكثير من المخرجين العظماء يستخدمون هذا التكثيف.

ولكن كلتا المدرستين يواجهان تحديًا دائمًا وهو تطور عقل مشاهديهم، ولذلك أصبح على كل مخرج تطوير أسلوبه وقواعده. وزيادة تعقيد أفلامه عن المعتاد أو تجريب طرق جديدة لعرض وتعقيد الأحداث أو زيادة التأملية.

المراجع
  1. السينما الاوربية الأن-ترجمة ممدوح شلبي
  2. السينما الأمريكية الحالية-ترجمة ممدوح شلبي