ثلاثون عامًا في مجلس الشيوخ الأمريكي، أربعة أعوام وزيرًا لخارجية الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، المرشح الديمقراطي في مواجهة جورج بوش الابن في انتخابات عام 2004، وقبل كل هذا، هو ابن البحرية الأمريكية في حرب فيتنام، ذلك هو جون كيري.

مدرسة داخلية سويسرية، عطلات صيفية في جزيرة ناوون، مدرسة داخلية أخرى في نيو هامشر، صداقة قصيرة مع الرئيس الأسبق جون كيندي، مدعٍ عام، نائب حاكم ماساتشوستس. هذا ملخص ما بدأ به كيري مذكراته. ثم تطرق بشكل شديد التفصيل إلى يومياته في حرب فيتنام. لم ينس كيري حرفًا؛ فقد اعتمد في الوصف على مذكرات كتبها بشكل يومي أثناء الحرب.

فيتنام التي حولت كيري من ضابط يقتل أولًا ثم يسأل إلى شخص لا يتوقف عن السؤال، ولا يتردد في رفض الحرب. حتى لو كان هذا الرفض هو سبب خسارته في انتخابات 2004، حين استخدم بوش ورقة أحداث 11 سبتمبر/ أيلول 2001 ضده، لذا جاء كتابه الأخير «كل يوم هو إضافي» محاولًا إحياء تلك السنة في الشعب الأمريكي بقوله إن الأمة تكون أقوى حين يقف المواطنون ويقررون أن الأمور لا تجري كما ينبغي لها أن تحدث.


الحنين يغير الحقيقة

استكمل كيري بدايته بالأسى الشخصي على ما آلت إليه أحوال الولايات المتحدة. الأمور في رأيه تغيرت للأسوأ، وأن زمن السياسة الجميل قد انتهى. فقد ولى زمنٌ يُنحي فيه الجمهوريون والديمقراطيون خلافاتهم مع بعضهم من أجل المصلحة العليا للدولة. وحل زمنٌ يطغى فيه الاستقطاب السياسي والحزبي والشخصي على أي مصلحة عليا.

لكنه يستدرك موضحًا أن الحنين يمكنه أن يجعلك تنظر إلى الماضي كأنه كان ورديًا تمامًا، وأن يزرع فيك قناعةً خاطئةً بأن الماضي كان أسهل. بينما التاريخ يخبرنا بأن الماضي لم يكن سهلًا أبدًا، ويخبرنا أيضًا أن بإمكاننا تغيير المستقبل فقد إذا كنا نملك الرغبة في ذلك.

بتلك البداية الشخصية يخبرنا كيري أنه ليس بإمكاننا قراءة الكتاب تنقيبًا عن المعلومات والأسرار دون الانتباه إلى كلماته التي يطغى عليها الحزن والندم أحايين كثيرة. فلا يبدو كيري مهتمًا كثيرًا بالحديث عن تحليلاتٍ للأحداث أو آراء فيما يجري حاليًا، بل يريد من الكتاب أن يكون شاهدًا على موقفه من الأمور.

وما يؤكد ذلك تكراره لشعوره بالندم العميق على التصويت عام 2002 من أجل الدخول في حرب العراق، التي تبين بعد ذلك أنها كانت خطأ فادحًا كما وصفها. والندم مرةً أخرى لاختياره جون إدواردز نائبًا له في انتخابات 2004، وندمه ثالثًا لعدم دفعه أوباما لاتخاذ قرارات أشد صرامة بشأن النظام السوري.


في الشرق الأوسط: يكذب الكل

معقدة، هكذا يصف كيري العلاقة بينه وبين نتنياهو في السنوات الأربع لوزارة الخارجية الأمريكية. ثم صارت علاقة فُقدت فيها الثقة الشخصية بعد حرب غزة عام 2014. الحرب التي بدأتها إسرائيل واستمرت لـ 51 يومًا، راح ضحيتها أكثر من 1850 فلسطينيًّا.

كيري روى أن نتنياهو كان مهزومًا للغاية في هذه الحرب، وأنه لم يكن أبدًا في حالته الطبيعية ولا بنفس طاقته الطبيعية. يؤكد كيري أنه لم ير من قبل أي رئيس وزراء إسرائيلي تحت الحصار بهذا الشكل، ما دفع كيري للتعاطف معه، وبدأ محاولة إخراجه من هذا الحصار.

المحاولة كانت اتفاقًا لوقف إطلاق النار أو هدنة إنسانية كما وصفها كيري. في منتصف المفاوضات انقلب الأمر على كيري وحكومته، وأدت بشكل غريب لتعكير العلاقات بين إسرائيل وواشنطن. المكيدة هنا أن من اقترح الهدنة كان نتنياهو، ومن سرّبها لوسائل الإعلام هو نتنياهو، ومن أشعل نار الداخل الأمريكي مُظهرًا كيري كشخص يحاول تعزيز موقف حماس هو نتنياهو. لذا ينقل لنا كيري غضبه عبر محادثة دارات بينهما يخبر فيها نتنياهو بأن فعلته مشينة، وأن عنصر الثقة الشخصية قد ضاع للأبد بينهما.

فسر كيري حنقه بأن أوباما كان متشككًا منذ البداية في نية نتنياهو، لكن تصريحات نتنياهو عن استعداده لتقديم تنازلات قاسية من أجل السلام أقنعت كيري، ما دفع الأخير إلى إقناع أوباما بالموافقة على عملية السلام 2013- 2014، يقول كيري بأن نتنياهو أخبرني عام 2013 في فندق الملك داوود أن الجميع في منطقة الشرق الأوسط يكذب، لكن لم يخطر في بال كيري أن يكون هو ضحية الكذب القادمة. حتى أن تسيبي ليفني زعيمة المعارضة أقرّت أمام كيري باستعدادها لعمل أي شيء من أجل السلام مع الفلسطينيين.


أوباما يعاقب إسرائيل

لكن الوقائع التي اصطدم بها كيري لاحقًا أن الجانب الإسرائيلي لا يتوقف عن خلق العقبات التي تعيق تقدم المفاوضات. مثل رفض إسرائيل الشرط الفلسطيني الأهم، وهو إطلاق سراح السجناء من عرب 48 المُحتجزين منذ ما قبل توقيع اتفاقية أوسلو 1993. كما رفض الخطة الأمريكية القاضية بانسحاب القوات الإسرائيلية من الضفة الغربية وحلول القوات الأمريكية مكانها، مع أحقية الجيش الإسرائيلي بالانتشار خلال ساعات إذا استشعر تهديدًا.

عبر هذه العراقيل أدرك كيري صواب رأي أوباما، الذي اعتبر عملية السلام منذ بدايتها إيماءة طيبة من الولايات المتحدة لإسرائيل لكنها لن تثمر عن أي شيء. حتى لم تشفع تلك الإيماءة من رد إسرائيل على القرار 2334. منذ عام 1979 لم تُعط الولايات المتحدة الأمريكية ضوءًا أخضر لمشروع قرار يدين بناء المستوطنات الإسرائيلية. لكن أوباما قرر فعلها في الأسابيع الأخيرة لحكمه بعدم استخدام حق الفيتو ضد القرار 2334.

رأيه أن استمرار إسرائيل في عنادها ليس من مصلحة الولايات المتحدة في المنطقة. ويقول كيري إن ما دفع أوباما لهذا القرار كان تمرير إسرائيل لقانون يسمح بتقنين المستوطنات، بجانب الرئيس المُنتخب آنذاك دونالد ترامب شديد المناصرة لإسرائيل، الذي أعلن أنه سيعين ديفيد فريدمان المعارض اللدود لحل الدولتين، وعاشق بناء المستوطنات.


حزب الله أهم من الجولان

يجري نقاش حاد بين كيري وأوباما بعد استخدام النظام السوري للأسلحة الكيماوية في 2013. كيري يريد الوفاء بما قطعته الولايات المتحدة على نفسها في 2012 بالرد العسكري حال استخدام الكيماوي، أما أوباما فلا. لاحقًا يؤكد كيري أن بلاده دفعت الثمن لتقاعسها في تلك اللحظة. لكن كيري يقول بأنه أنجز شيئًا حقيقيًا حين دفع الإدارة الأمريكية إلى عقد اتفاق مع النظام السوري بواسطة روسية لإزالة الأسلحة الكيماوية المعلنة من سوريا عام 2013. ثم اتخذ من سوريا مثالًا لتوضيح حقيقة جوهرية عن أوباما بأنه لم يكن ميالًا للمجازفة، ودائمًا ما يريد أكثر الحلول أمانًا حتى لو كان عكس رأي الكثير من إدارته.

كنت أتوقع أن تأتيني مكالمة هاتفية تخبرني بقرار الهجوم لكن لم يحدث ذلك. بذلت قصارى جهدي في الذهاب إلى الكونجرس وجادلت في القضية.
وزير الخارجية الأمريكي السابق- جون كيري

يعود كيري بالذاكرة إلى عام 2010 ليسلط الضوء على طلب من بشار الأسد لعقد مفاوضات جدية مع الجانب الإسرائيلي لاستعادة الجولان. يقول إنه تحدث مع الأسد ولمح فيه جديةً في المفاوضات، ما جعله يذهب إلى إسرائيل لعرض الفكرة بجانب التنازلات التي عرضها الأسد. اندهش الجانب الإسرائيلي من سخاء التنازلات السورية، لكن رُفض الطلب في النهاية من الجانب الإسرائيلي. ثم تم الضغط على الأسد لإيقاف إمداد حزب الله بالأسلحة، وحين رفض اُستخدم ذلك ذريعةً لإعلان إلغاء المفاوضات رسميًا.


ترامب يفسد كل شيء

هكذا خاطب سيرجي لافروف، وزير الخارجية الروسي، محمد جواد ظريف، نظيره الإيراني، في إحدى محادثات إتمام الاتفاق النووي في 2015. هذه المحادثات يروي عنها كيري بأنها كانت تدوم لأيام دون نوم، وفي جو مشحون بالتوتر. لكنه يرى أنها كانت إنجازًا يستحق التضحية. رغم أنه تسبب في تلقي أوباما ضربة تحت الحزام من إسرائيل أثناء خطاب نتنياهو في الكونجرس عام 2015 وإعلانه معارضة إسرائيل صراحةً لهذا الاتفاق.

وأضاف كيري أن تلك الضربة سببت له ولأوباما خيبة أمل كبيرة، وشرخًا آخر في علاقتهما مع إسرائيل. كما توجه كيري بالثناء إلى سلطنة عمان التي رعت وساعدت في إنشاء محادثات مع طهران منذ 2011.

اقرأ أيضًا:التنازلات التي قدمها أوباما للإيرانيين لإتمام الاتفاق النووي

ساوى كيري بين الاتفاق النووي وبين اتفاقية باريس للمناخ من حيث الأهمية وشعور إدارة أوباما حيالهما. ما يمكن اعتباره إشارةً ضمنيةً لقيام ترامب بإفساد كل شيء سعى له أوباما. فلقد عرض الاتفاق النووي للخطر، وانسحب فعلًا من اتفاقية باريس للمناخ. هذا التعريض يعتبر انتقادًا مهذبًا من كيري لطريقة عمل ترامب وإدارته، حتى لم يذكره بنفس تركيزه على تفاصيل شهاداته الشخصية وسرده للأحداث إبان توليه وزارة الخارجية.

في موضعٍ آخر ينتقد ترامب بصورة غير مباشرة عبر توضيح أن بول مانافورت، أبرز أعضاء حملة ترامب ويُحاكم حاليًا بتهم الفساد، كان من جماعات الضغط التي تدافع عن الرئيس الفلبيني الأسبق فيرديناند ماركوس أثناء مواجهته لتهم تتعلق بحقوق الإنسان.


تجاهل الربيع العربي

جواد، هل تملك السلطة للتوصل إلى اتفاق؟ إذا كان الأمر كذلك فالرجاء إخبارنا. أنت تضيع وقتنا.

طوال 600 صفحة من النصوص المتتابعة، و24 أخرى من الصور الفوتوغرافية، جعلنا كيري نفقد الاهتمام بكثير من حكاياته. فهو يروي الكثير عن معلميه ووالديه، ولادة طفله الأول، طلاقه من زوجته الأولى، صداقاته، انتماءاته، ورأيه في المسيحية. لكن حساسية منصب كيري والفترة التي تولى فيها وزارة الخارجية تغفر له كونه كاتبًا غير موهوب. فقد قدم لنا كتابًا غنيًا بالمعلومات لكنه بلا حياة، كأنما نُسخ من كتب متفرقة.

هذا الكتاب الغني بالمعلومات والتفاصيل لم يهتم كثيرًا بالحديث عن الربيع العربي كأنه لم يكن موجودًا، لكن كيري كان زعيم لجنة الشئون الخارجية أثناء بداية تظاهرات تونس، ووزير الخارجية في فترة حكم الرئيس السابق محمد مرسي، والموجود باستمرار أثناء تحرك الجيش المصري لنزع مرسي من السلطة.

اقرأ أيضًا:أمريكا والخليج: الدفع مقابل الحماية

اكتفى بالقول إنه كان موجودًا على الهاتف لأوقات طويلة مع القيادات. ثم أضاف أنه أراد استقرار الأحداث قبل أن تنفجر، وخشي من قتل مرسي لما سيفجره من حمامات دم، لكن الأمور انتهت إلى اعتقال مرسي. دون أن يوضح هل رضي أم رفض هذا. ثم يقارن نفسه مع العديد من دول الخليج قائلًا إنه رغب في استقرار مصر على النقيض منها، إذ كانت رغبتها في بسط نفوذها فيها أشد من رغبتها في استقرارها.