بعد أكثر من عشرة أعوام من الكتابة الحرة المتنوعة، ومئات المقالات، وآلاف القراء والمعجبين، بل وبعد أن كتب للسينما أكثر من فيلم، وكتب للأغاني الكثير أيضًا، يخوض الكاتب الشهير عمر طاهر تجربة الكتابة في النوع الأدبي الأشهر عربيًا وعالميًا أيضًا ويكتب «الرواية»، تلك التي كان يؤكد في لقاءاته كثيرًا أنه لن يغامر بكتابتها ولن يقدم عليها حتى يبلغ الخمسين! ولكن ماذا يفعل الكاتب المحترف إذا جاءته الفكرة وألحّت عليه، وبدأت تتشكّل في حكاية مكتملة، وشعر أن أنسب الطرق لتقديم هذه الفكرة هي الرواية، ولا شيء غيرها.

يعرف عمر طاهر أن الكتابة مغامرة، وهو يخوضها كل مرة بنفس الروح، ويراهن بينه وبين نفسه أنه قادرٌ على الجديد والمختلف والممتع في الوقت نفسه، ويبدو أنه ينجح في ذلك الرهان إلى حدٍ بعيد، لا يوقفه النوع أو الطريقة التي يقدم بها كتابته، بل يترك نفسه لخوض التجربة بكل شروطها حريصًا على أن تكون كتابته واقعية في المقام الأول، وهو ما يؤكد عليه أيضًا في حواراته، وما يأتي واضحًا بين تفاصيل كتابته الصادقة على اختلافها وتنوعها.

لا شك أن التجربة الجديدة تحتاج لفكرة جديدة مختلفة، ولعل عمر طاهر كان موفقًا إلى حدٍ كبير حينما جعل فكرة روايته الأساسية تدور بين الطعام والروائح، وبين حاستي التذوق والشم، تلك الحواس الهامة والمؤثرة في حياة الناس والتي لا يولون لها في الكتابة الأدبية الاهتمام الأكبر.

عرف العرب الاهتمام بالطعام بشكلٍ كبير، بل أوجدوا لكل مناسبةٍ طعامًا خاصًا باسم خاص، وأفردوا لذلك عددًا من المؤلفات، ولكن في المقابل غاب الحديث عن «الطعام» بشكلٍ خاص عن الأدب العربي والكتابة الروائية التي تناولت مختلف الأفكار والموضوعات. ربما جاء الحديث عن الطعام بشكلٍ عارض في بعض الروايات، ولكن لم يحدث أن يفرد للموضوع رواية خاصة، بعكس ما حدث في عدد من الروايات الغربية، إذ يذكر في هذا السياق رواية «أفروديت» لإيزابيل الليندي بوصفها واحدة من الروايات التي تناولت الحديث عن «وصفات الطعام التي تجلب الحب»، وكذلك ما فعلته لاورا إسكيبيل في روايتها «كالماء للشيكولاته» وكيف جعلت بطلتها من الطعام وسيلة ناجحة للتعبير عن مشاعرها، ربما كان حظ الطعام أفضل في الشعر العربي من الرواية، إذ سمعنا عن كتاب وشعراء تغنوا بالمأكولات وتفننوا في وصفها والحديث عنها، ولكن الأمر لم يصل إلى الرواية.

اقرأ أيضًا: شعراء في المطبخ.. أشعار الطعام في مصر العثمانية

تحكي الرواية عن «سيسيكو/عبد الله» منذ شبابه وسنوات مراهقته حتى يكبر ويصبح رجلاً وأبًا مسؤولاً، ومن خلال السرد وعبر الانتقالات الزمنية في فقرات الرواية نتعرّف على جوانب من حياته وعلاقته بأسرته الصغيرة «والديه وخاله وجدته» وعدد من الأصدقاء والجيران، كل ذلك في الفترة (1988 ـــ وحتى 2008) وبين مدينة صغيرة بعيدة عن العاصمة والقاهرة التي ينتقل إليها للدراسة ثم للعمل.

منذ سطور الرواية الأولى يصرّح البطل بأنه يحب الطعام، ولكن الأمر يتحوّل من مجرد حب واهتمام بالطعام إلى الدخول لتفاصيل وفلسفة خاصة بالطعام يسعى لاستكشافها ونتعرف عليها معه بشكلٍ بسيط وواقعي في الوقت نفسه، إذ نجده يتحدث عن المأكولات وأثرها على الناس، وطرق تعاملنا معها من جهة وكيف تؤثر في علاقتنا بالناس من جهةٍ أخرى.

لا شيء أسوأ من أن يتناول الشخص الطعام بمفرده. الحكمة الشعبية التي تحذّر من يأكل منفردًا مِن تعثر اللقيمات في حلقه تحاول أن تلفت النظر إلى جفاف ريق المتوحدين، بينما شخصٌ تتحدّث إليه وتشاكسه على الطعام سيجعل حلقك رطبًا، وسيجعل ريقك يجري. ثمرة اليوسفي التي تقشّرها تزداد حلاوتها بالفصوص الثلاثة التي تقتطعها وتمررها لشخصٍ تحبّه. الأكل مع الآخرين يرفع مستوى الاحتفال. صرت أخاف أن أقترب من عربة الكبدة خوفًا من وقفة منزوية بائسة في مكانٍ قاعدته الأولى هي «الشلة». أمّا الأكل منفردًا في المطاعم المكيّفة فيشعرني بأنني أجلس بملابسي الداخلية. تخجلني الوحدة وتسد نفسي.

هكذا تتسرّب إلى القارئ شيئًا فشيئًا فلسفة الرواية، والحكمة أو «الوصفة» التي يسعى عمر طاهر إلى أن يبثها في نفس القارئ من خلال الطعام والروائح، وأن ثمة استئناسًا وعلاقة خاصة بالناس والأحياء تنبع وتنشأ من الأنس بالأشياء التي تكون المشاركة في الطعام واحدة منها، كما يكون منها الاستمتاع بالرائحة الطيبة، وكيف يمكن أن يؤلف ذلك بين الناس، والناس عند عمر طاهر يبدؤون من ذلك المنزل البسيط وتلك العلاقة بين الابن والأب والأم والجدة فيه وتصل إلى العلاقة بالجيران والأصدقاء.

يجيد عمر طاهر التقاط تفاصيل البيت المصري البسيطة، ويركز هذه المرة على «طرق الطهي» وأثر كل طبخة على نفس بطل روايته أولاً، ثم ما يمكن أن يصل إليه من يتناولها بعد ذلك، فيصف طريقة عمل «المسقعة»، و«المحشي»، و«الملوخية»، وحتى الأرز، والفراخ المشوية، وغيرها من الأكلات المصرية التي تفوح رائحتها ويظهر طعمها بين تلك التفاصيل الشهيّة، ليس ذلك فحسب بل ينتقل بعد ذلك ومن خلال مشكلة رمزية تحدث مع بطل الرواية تجعله يفقد حاسة الشم ليستحضر روائح عدد من الأشياء الهامة ودلالة كل رائحة، وكيف يمكن أن يكون لكلٍ منها دور في تشكيل وعي الإنسان والتأثير عليه بشكل غير مباشر.

خمسة أيام على خمسة فصول يقسِّم عمر طاهر الرواية بينها. وبين مشاهد من الماضي ومشاهد من الحاضر نتعرّف على «عبد الله» وحكاية حبه البريئة القديمة لابنة جيرانه «سحر» وكيف تتعثّر بتصرفاته الطفولية. ثم حكاية حبه الكبيرة بعد أن عركته الحياة وفوجئ «بصافية» التي تسعى لأن «تفتح نفسه على الحياة» مرة أخرى، وكيف خبر معها الحياة وتعرّف عليها كما لم يحدث له من قبل. بين هذا وذاك يدور بطل الرواية ويدور عمر طاهر بنا بين تلك العلاقة الملتبسة دومًا بين الماضي والحاضر، بين سيطرة الكبار وتمرد الشباب، ذلك الصراع الذي يبدو أن بطل الرواية قد حسمه بعد الكثير من الأطعمة والروائح والعلاقات والتعاملات بعلاقته الموزونة بين «الكحل والحبهان»

أجلس وإلى يميني جاذبية أبي وأمي، ومدينة بعيدة تبدو الآن قديمة ومعتّقة تأسر القلب كالحبهان، وإلى يساري جاذبيةٌ أبسط من القدرة على الوصف، مُغوية بلا ضوضاء، كالكُحل الذي يظلل نظرة صافية.

لن يغيب عن القارئ -ولا شك- أن صورة الفنانة الجميلة مديحة كامل تضيء غلاف الرواية بابتسامتها الرقيقة، وهي مغامرة أخرى قرر خوضها مصمم الغلاف هذه المرة كريم آدم حينما طلب منه عمر طاهر أن يستخدم صورتها كتيمة بسيطة في الغلاف، فقرر أن تكون هذه الصورة هي صورة الغلاف، ويثير بمجرد نشره والإعلان عنه عددًا من ردود الأفعال المتباينة على وسائل التواصل الاجتماعي. هل سيكتب عمر طاهر عن مديحة كامل سيرة ذاتية أو ما شابه؟ وما علاقة «كحل وحبهان» بالموضوع؟ ليكتشف القارئ في النهاية أن مديحة كامل لم تكن إلا «تيمة» بسيطة في الرواية، ورد ذكرها كصورة في مطبخ الأم، وهي في الوقت نفسه فتاة أحلام هذا الجيل «جيل الثمانيات» التي ما إن يرد ذكرها أو صورتها حتى تتداعى كل تلك الذكريات القديمة والجميلة في الوقت نفسه.

في النهاية استطاع عمر طاهر أن يقدّم رواية متماسكة جذَابة، واستطاع أن يدور بنا بين شخصية الرواية، البطل الرئيسي والشخصيات الأخرى المرسومة بكل دقّة سواء داخل عائلته الصغيرة حينما كان صغيرًا، أو العائلة الأكبر بعد سنوات، كما تنقل بشكل ذكي وبسيط بين وصفات الأطعمة المصرية الأصيلة راسمًا صورة متكاملة للبيت المصري بألوانه وطعمه ورائحته منذ الثمانينات حتى أيامنا هذه.

ولعل ما يُحسب لعمر طاهر في هذه الرواية أنه رغم القدر الكبير من الحنين للماضي «النوستالجيا» فيها فإنه لم يسقط في فخ التغني بأمجاد الماضي، ولكنه انتقل لتصوير حالة من السلم والأمان للعصر الحاضر حتى أن ثمة شعورًا بالرضا والأمل يتسرّب لنفس القارئ في آخر سطور الرواية مع ما يحدث لبطل الرواية من تغيرات.