أؤمن بقدرات الموسيقى على الإتيان بكل حالات الشعور الإنساني الممكنة؟ في التسجيل الشهير لحفل مهرجان الموسيقى العربية 2013 وقفت أنغام بفستانها الأزرق تغني مستعطفة: «سأل عليا.. بكلامه ولا عينيه؟» تلك اللحظة أصاب فيها بنشوة حقيقية كرجل تجاه تلك الأنثى، كذلك نفس الأمر حين أستمع إلى روبي وهي تتمايل: «يا حبيب قلبي يا غالي علي.. عيني وقلبي»، وهذا شعور طبيعي بالتأكيد يتكرر مع الكثيرين، الغريب في الأمر أنه تسلل إليَّ نفس الشعور حين سمعت فضل شاكر: «لو على قلبي داب في هواك»!

هذان العاشقان الساهران الليل يفكر كل منهما في الآخر، هي تشعر بإحساس من النشوة الحقيقية حين تسمع هذا الصوت الرجولي الذي يحنو عليها: «يا مسهرني ليالي وانت على بالي»، وهو الآخر يصاب بانتشاء حقيقي حين يتخيل نفسه مقدمًا كلامه إليها: «وحياتي معاك يا حياة الروح».

فضل هو الصوت المثالي، هو صوت الربابة التي يتجول بها بائع الربابات في الشارع تسمعها وتطرب لها وحدها دون باقي الربابات المعروضة للبيع.

فضل هو صوت المياه التي تسكبها فتجري على الأرض ولا تعرف أين ستقف، حالة من التدفق البسيط الذي لا ينتهي، فيغزل لك من المياه خيوطًا تنساب وتنساب، «روح حبيبي روح شو بدك فيا انساني اتركني بحالي»، بتلك البساطة وهذه الانسيابية.

يتجه إلى فضل أولئك الوسطيين محبو البساطة بلا تفاهة والعمق بلا تعقيد، فلا تراهم يمرون بأغانيه مرور الكرام المنتشي للحظة، ولا تراهم يخرجون من أغانيه كلمات عن بواطن الأمور وخباياها، بل حالة من العشق اليسير، وكأنما نبضات قلوبهم هي تلك الطبلة الخفيفة التي تضبط الإيقاع: «على عيني تبكي عليك عيني وانت كده سايبها».

غنى فضل لكثير من المطربات، وحين تستمع إليه يغني أغنية لم تعهدها إلا بصوت أنثوي ستدرك مرادي بمثالية صوته، هو الذي لا يشعرك إطلاقًا أنها أغنية نسائية، ليس من باب الكاريزما وصوته الذي يسكن روح كل الأغاني، بل فقط لأنه صوت مثالي فأيًّا ما غنى ستجده مثاليًّا ملائمًا، هو الصوت الرجولي الذي لا يصيبني بأي ضجر حين يغني لأم كلثوم أو وردة أو ليلى، بل أنسى وأردد معه، مع فضل لا وردة: «قد اللي فات من عمري بحبك.. وقد اللي جاي من عمري بحبك».

وكلما زاد الاختلاف زاد العجب، تتضح المثالية حين تسمعه يغني الأكثر اختلافًا، فيغني جورج وسوف، حين تسمعه يغني من نظن فيهم عدم قابلية التكرار، «لو نويت تنسى اللي فات»، فبكل تأكيد اللي فات واللي كان والذكريات مع فضل هي ذكريات أخرى غير التي يقصدها جورج.

تراه في أي دويتو نسائي وكأنما ما اجتمعا إلا ليتحدا، في جو من التناسق لا يشبه تطابق سميرة سعيد والشاب مامي في «يوم ورا يوم»، بل تناسق تميز فيه بكل وضوح بين الصوت الرجولي والصوت الأنثوي، وتشعر مع كل منهما أنك في انتظار الآخر ليكمله، فضل هو الألف التي تنتظر كل لام ليكتمل الحرف.

«انتي بقلبي وجوه الروح حاسس بغرامك وين ما بروح ضميني وقوليلي حبيبي بحبك أنا..»

ونفس هذا التناسق يتحقق مع فضل حين يغني مع الكورال، لست ممن يفضلون الكورال كثيرًا لكن مع فضل الأمر يختلف، فهو لا يغني ووراءه كورال، بل فضل يغني مع الكورال، تسمع صوت الكورال وكأنه صوت فضل والعكس، حين يغني: «تنسيني جروحي وأحزاني أنا مشتاق لعينيك»، يوصل الكورال بعدها: «يااا حبيبي»، لا تُسمع إلا هكذا، هو ليس كورال، هو فضل وإن اختلف صوته!

حتى حين اتجه في فترة ما للسياسة وتبعاتها وتقلباته وعودته مرة أخرى، كلها لا أراها إلا من باب مثاليته، الفنان المثالي الذي تأبى مثاليته الاستقرار وتدعوه دائمًا للثورة حتى ولو على نفسه، الرغبة الفنية الدائمة لاستمرار حالة القلق لخلق جو مناسب للإبداع، الإبداع النابع من مخاطر وأمواج قادرة على الخلق لا الاستهلاك؛ لذلك ومنذ عودته أنتظر فضل آخر بعلامة إبداعية ما أثق في قدومها ولو بعد حين.


متى تستمع إلى فضل شاكر؟

حين تجلس في القهوة معاتبًا صديقًا قديمًا غاب منذ فترة وأهمل في السؤال، تسمعه بعد يومين من العمل الشاق دفعاك إلى التطبيق، تسمعه وأنت مكتئب وحدك في الغرفة ويصاحب صوته صوت مروحة السقف، تسمعه في خروجة عائلية في مركبة في النيل، تسمعه تمهيدًا للكلام الذي ستلقيه على الفتاة التي ترتب مع نفسك أن تلتقي بها صدفة، أو تمهيدًا لقُبلة خاطفة، مناسب لحبّيبة الجامعات الذين يتبادلون تراكات أغانيه على الواتس آب، مناسب لفرح متوسط المستوى لاثنين من مواليد التسعينيات، كذلك تسمعه في الإذاعة الداخلية لمترو الخط الثالث، وتسمع فقط موسيقى أغانيه في الإذاعة الداخلية لمول راقٍ.

فضل شاكر ليس فنانًا مثاليًا لكن هو الصوت المثالي لأغانيه، الصوت الذي يشعرني بمثالية صاحبه وتعدد مواهبه، هو الصوت المثالي الذي يغني لأم كلثوم وحليم، هو الصوت المثالي في الأكثر اختلافًا؛ فيغني لجورج وسوف، مثالي في أي ديو غنائي، يسحر مع الكورال، يتألق في تترات المسلسلات، لكن تبقى ذروة المثالية أنه (الرجل) الذي يصيبني بنشوة!

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.