على مدار عامين من 1996 إلى 1998 نُشرت حلقات «مانجا» يابانية بعنوان «Oldboy»، من تأليف «Garon Tsuchiya» ورسوم «Nobuaki Minegishi»، والمانجا هو ما يطلق على القصص المصورة اليابانية، أو القصص المصورة في دول أخرى ولكنها مستوحاة من نمط الرسوم اليابانية.

ومع ظهور ما يسمى «الموجة السينمائية الجديدة» التي بدأت عام 1998 في كورية الجنوبية، والتي ظهرت على خلفية موجة «الهاليو» التي بدأت في بداية التسعينات من القرن الماضي، وأعطت العديد من الشباب الكوري المتابع للسينما العالمية الفرصة لصنع أفلامهم الخاصة وتقديم رؤيتهم وفلسفتهم. ومن بين هؤلاء المخرجين الشباب الذين احتلوا مكانة مميزة المخرج «تشان ووك بارك»، الذي اشتهر بأفلامه ذات الطابع العنيف والدموي حيث المزج بين السرد والصورة الدموية، وخصوصًا في ثلاثيته المسماة بثلاثية الانتقام «Sympathy for Mr. Vengeance, Oldboy, Lady Vengeance».

يُعد الجزء الثاني من ثلاثية الانتقام أشهر أفلامه على الإطلاق والذي اقتبسه «بارك» من سلسلة المانجا اليابانية وسماه بنفس الاسم oldboy. فعلى المستوى الجماهيري فالفيلم في قائمة أفضل 250 فيلمًا على imdb، وعلى المستوى النقدي حصل على جائزة لجنة التحكيم الخاصة في مهرجان «كان» السينمائي واختير ضمن قائمة ال «bbc» لأفضل 100 فيلم في القرن الحالي.


العقدة الغامضة

السياق «sequence» الاستهلالي للفيلم يدور حول شخصية «أوه دايسو» التافه السكير، فهو دائم الضحك بهستيريا ودائمًا يقع في أخطاء تجاه الآخرين بسبب سكره. فهو شخص مثير للنفور من اللحظة الأولى. والمشهد الأول يدور في أحد مقرات الشرطة، حيث يحاول رجال الشرطة وصديقه إفاقته من السكر والضحك الهستيري. بعد إفاقته وخروجه من المقر الشرطي، يتصل بزوجته ويطمئن على ابنته، وتعرف من انفعالاته أثناء تحدثه أنه أب وزوج غير محبوب بالمرة؛ بسبب حالة فقدان العقل والسكر والضحك الدائمة. وبعد انتهاء المكالمة يتم اختطافه من مجهولين.

السياق الثاني يعرض التحول التدريجي في شخصية «أوه دايسو» وهو مختطف، فالحيرة وعدم الفهم يسيطران عليه؛ من خطفه؟، ولماذا؟، وماهي نهاية خطفه؟. مكان الاختطاف مريح، ينظف بشكل دوري، لكن يتم تخديره قبل التنظيف، لا يوجد به وسائل للانتحار ولا وسائل للاتصال الخارجي سوى تلفزيون. ومع مرور الوقت يتحول لرجل صلب منحته جدية الموقف فرصة لمساءلة نفسه ومحاولة فهم ماضيه، واكتشف أنه آذى الكثيرين بدون وعي، ثم اشتد ساعده بالتدريج فأصبح يقوم بتدريبات رياضية عنيفة في مكان اختطافه. وبعد 15 عامًا من الاختطاف يجد نفسه خارج محبسه حرًا طليقًا.

الفيلم يضعك موضع أوه دايسو، فالسؤال المطروح هو: من يهتم بإيصال رسالة لهذا الرجل السكير؟، وحتى لو تسبب في إيذاء بعض الأشخاص فما هو الأذى الذي يجعله مستحقًا لهذا العقاب المريع؟، والسؤال الأكثر صعوبة: لماذا مُنح الراحة في محبسه؟، ولماذا أفرج عنه بعد 15 عامًا؟

أوه دايسو في أول لحظات حريته تحول لرجل أكثر عقلاً وذكاءً، شديد الجدية والسوداوية، ويزيد من قوة جسده طاقة الغضب والحيرة والرغبة العارمة في الانتقام من خاطفه.


الإنسان بين مفردتين

يمزج «بارك» بين مفردتين هما؛ الوحدة والانتقام، فالإنسان في حالة سعيه للانتقام يتملكه الشعور بالوحدة وأحلام المشاركة الإنسانية. هذه الحالة التي عبرت عنها «مي دو» وهي أول من لاقاها «أوه دايسو» وشعر نحوها بالقرب والشك في ذات الوقت بتلك العبارات «النمل هل ما زلت تراه؟، نعم، إذا كنت وحيدًا ترى النمل. أناس وحيدون جدًا الذين قابلتهم، إنهم جميعًا نمل مهلوس في وقت ما. بعد أن فكرت في الأمر النمل يتحرك في مجموعات لذا كثيرًا ما يفكر الوحيدون في النمل».

فمن منظور بارك تعتبر نزعة المشاركة لدى الإنسان مفضلة عن نزعة الوحدة، فالإنسان يلفظ الوحدة في أحلامه أو هلوسته، المشاركة هي المراد الدائم، لذلك انجذب أوه دايسو لـ«مي دو» لكسر وحدته والعكس.

ولكن نزعة الانتقام لم تترك أوه دايسو، ومع الإشارت التي كانت تأتي له في التليفون أو عن طريق متسولين، علم أن هناك شخصًا وراء كل هذا، ويفعل ذلك لسبب ما ولا يقول غير هذه العبارة: «ذرة رمل أو صخرة كبيرة، الاثنان يغرقان بنفس الكيفية».


عندما تجسد السينما الغريزة

ننتقل لمشهد القتال الشهير الذي يعتبر أحد أكثر المشاهد عنفًا وأكثره إتقانًا وواقعية وتمكنًا في التنفيذ. جميع عناصر هذا المشهد تجمعت لهدف واحد؛ وهو إظهار الرغبة في الانتقام التي ستتجاوز الألم وفرق العدد والعتاد. استخدم بارك لقطة «long shot» مع حركة «crabbing right and left» على «dolly»، ولم يحدث أي قطع «cut» طوال مشهد صعب التنفيذ.

وبالتالي نرى المزج والتناغم الدقيق فيما يطلق عليه «ميزانسيه» الكاميرا والممثلين، وهو مصطلح في تكنيك الإخراج يدل على تصور المخرج لحركة الكاميرا والممثلين في مشهد بدون قطع، انعدام القطع ورؤية جميع حركات الأجساد وردود الفعل، بالإضافة للرؤية الخطية للصورة التي لا تُحدث تكثيفًا مصطنعًا لعنصر الزمان والمكان كما قال «جون أور» في كتابه «السينما والحداثة»، منحنا هذا المشهد الجميل والعنيف والصامت والمتقن والذي سيخلد طويلاً في ذاكرة السينما الآسيوية.

ساهم في مكانة الفيلم أداء الممثلين، فالثلاثي «شواي مين سيك» و «كانغ هاي جو»، و«يو جي تي»، الذين قدموا أداءً استثنائيًا، فمشاعر الشخصيات لم تكن تدور في حزمة شعورية واحدة، بل في حزم شعورية مختلفة ومتنافرة أحيانًا، فكل شخصية تشعر بالغضب والانتقام والحب والضعف والخوف والطيبة والعطف والشر والكره. شخصية «أوه دايسو» تعتبر واحدة من أندر وأعقد الشخصيات ربما في تاريخ السينما، فهي لا تكتفي بالجمع بين المشاعر السابق ذكرها فقط، بل تمتلك الجانب الأكثر تطرفًا في كل شعور، ولذلك «شواي مين سيك» كان مطالبًا في كل مشهد بتمثيل مشاعر كثيرة في صورتها المتطرفة في الآن نفسه.


أوديب القرن الحادي والعشرين

بسبب ابتذال مصطلح «فيلم هادف» يسود نوع من الحرص في استخدامه، خصوصًا في التقارير والمقالات النقدية التي تحاول تقديم رؤية غير سطحية، ولكن الذي لا يمكن تلافي قوله؛ هو أن «oldboy» فيلم هادف، بل كثف هدفه في عبارة واحدة «ذرة رمل أو صخرة كبيرة، الاثنان يغرقان بنفس الكيفية»، وقد وضح الفيلم معناها في النهاية، فأفعالنا التي قد نظنها صغيرة مثل النميمة والضحك والسخرية وغيرها من الأفعال التي قد نظنها غير مؤذية قد تنهي حياة آخرين.

الأطفال تقدم لهم الحكم والأهداف في صورة حدوتة جميلة خالية من العنف مليئة بالعظة، كقصة الحمل الذي لم يستمع لنصيحة أمه، فهاجمه الذئب. ولكن هل الكبار ستصل إليهم الأهداف بهذه البساطة؟، يجيبنا «بارك» بـ«لا»، فمن أجل إيصال هدف بسيط قدم لنا وجبة متطرفة في العنف، مليئة بالهستيريا والصراخ والصدمات والجنس والرمزيات وكثير من الأسئلة عن الحياة والوجود، بالإضافة لواحدة من أصعب وأكثر النهايات قسوة. يقدم لنا بارك أوديب القرن الحادي والعشرين، فمثلما فقأ أوديب عينه ندمًا وحسرة وصدمة، قطع أوه دايسو لسانه حينما كشف أن حبيبته هي ابنته.

ولكن الإنسان يولد ومعه غريزة البقاء، كلما أثقلته الهموم والكوارث، حاول النجاة بطريقة أو بأخرى. أوه دايسو المقطوع لسانه يمسح ذاكرته ويبدأ حياة جديدة مع الحب الوحيد الذي أدركه طوال حياته، حتى لو كان حبه هذا هو ابنته. فيلم «oldboy» مثال لا تشوبه شائبة لكيف تكون السردية متناغمة مع الصورة البصرية، وربما هذا هو أكبر إنجازات بارك وسبب تقدير النقاد والجماهير في حدث نادر لفيلم مغرق في العنف.


بعيدًا عن هوليوود

«بعيدًا عن هوليوود» هي سلسلة من المقالات نتناول فيها السينما العالمية غير الأمريكية، نركز فيها على العناصر الفنية المختلفة التي تميز صناعة السينما خارج إستوديوهات هوليود العملاقة، نتناول فيها حالات فنية متفردة، وتجارب إخراجية وثقافية مغايرة.