لا تنتهي حكايات المآسي والكوراث التي تحل بالناس والمجتمعات عالميًا وعربيًا، بل تتفاقم وتتنوع وتختلف درجة حدتها، وطريقة تعامل الناس معها ومقاومتها فحسب. ويبقى على المبدعين من الكتّاب والروائيين مهمة خاصة ومعقدة إلى حدٍ بعيد، تتمثل في القدرة على نقل هذه المشكلات والمصائب والمآسي بأسلوبٍ أدبي شيق ورصين، يعكس صورة المأساة بصدق متجنبًا السطحية والعرض الصحفي العابر، وفي الوقت نفسه دون أن ينجرف إلى الميلودرامية التي تكون منفرة في أغلب الأحوال.

في روايتها الأولى «دفاتر فارهو»، وبعد عدد من التجارب القصصية والنثرية الناجحة، تخوض الكاتبة ليلى عبدالله تجربة الكتابة السردية في عالمٍ بعيد عنها كل البعد مختلف عنها كل الاختلاف، ولكن لا شك أنها اقتربت منه وتلمّست آثاره حولها، واستطاعت أن تعبّر عنه بعد ذلك أفضل تعبير.

تنتقل إلى الصومال، ذلك البلد الأفريقي الذي يرزح منذ عقود بين نار الحرب والفقر والجوع والمرض، ويسعى أهله ومواطنوه للحصول على فرصة للحياة في أي مكانٍ آخر في العالم، لتنقل لنا من خلال قصة حياة بطلها فارهو/فارح رحلته ورحلة عائلته القاسية المليئة بالصعاب والمخاطر والمحاطة طوال الوقت بالموت.

منذ البداية نحن مع فارهو ذي الأعوام الثلاثة والأربعين، يتذكّر ويعود إلى ذكرياته منذ كان طفلاً في السابعة من عمره، حينما بدأ وعيه يتشكل ليدرك أنه غريبٌ عن بلاده التي أتى منها، وعاش فيها طفولته، ويبدأ في سرد حكاياته ومأساته هو وعائلته، مع أخته عائشة التي تخدم في البيوت، وأمه المريضه التي لا يجدون مالاً لعلاجها، وخاله منصور الذي يستغل كل الظروف لكي يحصل على المزيد من الأموال.

بمرور الأعوام وفي أثناء عبوري الشارع نفسه كل يوم في طريق ذهابي وعودتي من المدرسة، أدركت أن الناس هنا لا يموتون مثلنا من الجوع ولا من الحروب ولا حتى من الأمراض القاتلة، إنما يموتون من السيارات المسرعة، ومن تناول الأطعمة حتى التخمة، من البلادة والوحدة والثراء، الموت هنا مغامرة مترفة، وموتنا حتميٌ وقاسٍ .. ليت موتنا يشبه موتهم!

يتعرف فارهو على حياته الجديدة ويستكشف العالم من حوله شيئًا فشيئًا، وبين مذكراته الخاصة وعلاقته بأصدقاءه تتسع مداركه ويجد طرقًا مختلفة للتعامل مع هذا العالم ومواجهته، يقابل الطفل في ذاكرته بين عالمين، ويجمع مع أصدقائه ورفاقه عوالم أخرى، لترتسم في المجمل حكايات مختلفة يجمعها تلك المأساة التي يتشاركون فيها، مأساة الباحثين عن الحياة بعد الفرار من الأوطان التي طردتهم إلى بلدٍ غريبة يعاملون فيها كمنبوذين طوال الوقت.

من جانبٍ آخر ظهرت براعة الكاتبة في نقلها أقسام روايتها وحكايتها على ثلاثة مستويات سردية مختلفة، وإن ضمّت كلها في النهاية نفس الحكاية، ولكنها تنتقل في الزمان والمكان بسلاسة وحرية، من خلال ذكريات البطل فارهو حينما ينقل لنا في جزءٍ من الرواية ما عرفه من حكاية والده حينًا أو حكايات حياتهم الأولى في المخيم وما جرى فيها، وبين صفحات الدفتر التي تروي أحداثًا أقرب زمنيًا لمرحلة حياتهم في تلك البلدة الخليجية، كل ذلك يتضافر مع حكايات أخرى لأصدقاء «فارهو» الذين يتقاسمون معه مقاعد الدراسة محاولات اللعب واستكشاف الحياة والهم المشترك.

جريت وجريت وجريت، كأن قدميّ مربوطتان على عجلة، وكان خوفي يسبقني، قلبي يرتجف، يداي ترتعشان، حلقي جاف شفتاي متيبستان، والعرق ينز من جسدي كحشود من النمل، لا رجوع، لا للتراجع، ليس سوى الاندفاع للأمام. في أثناء قطعي تلك المسافات الشاسعة أدركت أن الركض هو خياري الوحيد، لقد قلّبت الأمر في عقلي، فكرت كثيرًا فكرت مرارًا، فكرت بخوف، لكن أيضًا فكرت في الاعتراف، فكرت بأني سأكون ابنًا بارًا بأمي، لقد نهشت الحياة ما يكفي منها، أحيانًا علينا أن نمنح الحياة بسلب حياةٍ أخرى، الحياة أخذُ وعطاء، ربما يولد كائن ليموت آخر، إننا نتأرجح في ميزان الحياة والموت.

ورغم أن الرواية تزخر بحكايات مأساوية لجميع أبطالها تقريبًا، فإن القارئ يظل مدفوعًا بفضل حركة السرد الهادئة وانتقال الفقرات بين حكايات مختلفة إلى مواصلة القراءة حتى يتمكن من معرفة مصير هذا البطل/الطفل، وما الذي جعله الآن سجينًا يروي حكايته كلها وكأنه يتطهر منها أمام كارل الأجنبي الذي لم نعرف عنه شيئًا إلا أنه يعد لفيلم وثائقي عن حياة فارهو.

في حوارها مع منى أبو النصر في الشرق الأوسط، تكشف ليلى عبدالله عن أن عالم الرواية مأخوذٌ من عوالم اقتربت منها بالفعل، لكون طبيعة عملها معلمة للغة العربية لعدد من الأطفال العرب وغير العرب، مما جعلها على دراية بعوالم مختلف، ولكن الرهان الحقيقي كان في إمكانية تحويل تلك القصص والحكايات إلى رواية متماسكة، وهو ما نجحت فيه إلى حدٍ بعيد، تقول:

أؤمن أن الأدب قادر على مداواة أرواح المهشمين ما بعد الحرب، فما قبل الحرب تظل الروح رهينة الكارثة والوجع النفسي والصدمة. يوجد مثال حيّ، نستطيع أن نلمسه في الكتابات التوثيقية للروائية البيلاروسية سفيتلانا ألكسيفيتش، فقد قضت سنوات وهي توثّق حقائق واعترافات من جنود الحرب، من الأمهات، من الزوجات، من الأطفال، من ضحايا كوارث تشرنوبل، من المشّعين. نقرأ في اعترافات الجنود نوعًا من الرعب والخوف وتأنيب الضمير والخداع الذي تعرّضوا له. هم مثال لأبنائهم، للأجيال القادمة كي لا يعيدوا أخطاءهم، ويكونوا أكثر حزمًا في مواجهة ما يمليه عليه واقعهم!

في النهاية يُحسب لليلى عبدالله أنها استطاعت أن تداوي أرواح المهمشين فعلاً بحكايتها وأن تروي حكاية فارهو بكل صدق، وجعلت القارئ يتفاعل معها تمامًا ويشعر أنها قصة حقيقية حدثت بالفعل، بل ربما نكون محاطين دومًا بأكثر من فارهو وقاسم وعبد الصمد، من أطفال الشوارع والملاجئ والمشردين الذين يهربون من أوطانهم ولا يجدون في أوطانٍ بديلة غير الموت والضياع أيضًا. كل ذلك دون أن تغرق الرواية في فلسفةٍ زائدة، أو خطابية زاعقة تصرف القارئ عن الحكاية وما فيها.

ليلى عبدالله روائية عمانية، تقيم في الإمارات، كتبت «رسائل حب مفترضة بين هنري ميلر وأناييس نن»، كما أصدرت مجموعتها القصصية «كائناتي السردية» التي لاقت حفاوة نقدية كبيرة وحازت بها على جائزة أفضل كتاب قصصي في مسقط عام 2016، و«هواجس غرفة العالم» ورصدت عددًا من قراءاتها وعوالمها الخاصة في «أريكة وكتاب وكوب من القهوة» .. تعد رواية «دفاتر فارهو» روايتها الأولى.