عادة ما نطالب الجمهور بالفصل بين الفنان وفنه، وفي حرفة التمثيل بالذات، عادة ما نحاول قدر الإمكان الفصل بين شخصية الفنان وبين الأدوار التي يؤديها، فكم من رجل طيب حسن الخلق والسيرة، كمحمود المليجي مثلًا، عُرف بأدوار الشر وفقط، وكم من شجعان على الشاشة اكتشفنا خستهم وجبنهم في الحقيقة.

لكننا اليوم أمام حالة خاصة لفنان تشابهت شخصيته بشكل كبير مع أشهر أدواره على الشاشة، هو فاروق الفيشاوي الراحل عن عالمنا منذ ساعات، هو علي الزيبق المعارض لفساد السلطة على الشاشة، وهو الرجل الذي لم يخشَ التعبير عن رفضه لسلطة مبارك في حينها، ولحكم العسكر في أوج جبروته، هو اللص الذي أحبه الفقراء على الشاشة، وهو الرجل الذي لم يصطنع الفضيلة أمام جمهوره في الحقيقة، ظل صريحًا وواضحًا حتى رحل عن الدنيا، لهذا سنتذكره بالخير.

اليوم نتتبع معكم لحظات مضيئة في سيرة «فاروق الفيشاوي»، حاوي الدراما المصرية، أو كما يطيب لنا تسميته «روبن هود» الغلابة.


علي الزيبق: بطل الشعب في مواجهة الكلبي ودليلة

ربما يكون مسلسل «أبنائي الأعزاء شكرًا»، من إنتاج عام 1979، هو الفرصة الأولى التي تعرف من خلالها الجمهور المصري بشكل كبير على وجه فاروق الفيشاوي، لكن بطولته لمسلسل «علي الزيبق» المأخوذ من السيرة الشعبية، هو بالتأكيد لحظته الأبرز في مسيرته التلفزيونية التي استمرت عقب ذلك لما يقترب من 40 عامًا.

استلهم الكاتب يسري الجندي سيرة الزيبق من الأساطير الشعبية المصرية، وصاغ حكاية تدور في عصر الخلافة العثمانية، حول الزيبق نجل رأس الغول فارس «كتيبة العياق» التي تحاول فرض العدل. يموت رأس الغول على يد قائد الشرطة سنقر الكلبي، ويهرب علي ووالدته ثم يعود بعد أن أصبح شابًّا، يبدأ في سرقة أعوان الكلبي من الفاسدين ثم يوزع مالهم على الشعب.

سيرة «علي الزيبق» أصبحت جزءًا من الثقافة الشعبية للمشاهدين المصريين منذ ذلك الحين، ونرى هذا جليًّا من خلال استخدام المصريين وحتى يومنا هذا لأوصاف مستوحاة من شخصيات المسلسل، «الزيبق» قد أصبح عنوانًا على الذكاء والدهاء والتخفي، «الشيخ حلاوة» أصبح رمزًا للنفاق، و«الكلبي» بطبيعة الحال أصبح عنوانًا لفساد العسكر وتجبر السلطة.


الفيشاوي ضد التوريث

عقب سنوات عديدة من بطولته لسيرة الزيبق، وفي حين كان غالبية فناني جيله يسبحون بحمد مبارك ويباركون ترشح نجله جمال لخلافة والده، كان الفيشاوي مستعدًّا لخسارة كل شيء من خلال معارضته وبشكل معلن للتوريث. لم يتوقف الفيشاوي عند هذا الحد، ولكنه أيضًا عبر عن مساندته للدكتور محمد البرادعي إذا ما قرر خوض الانتخابات الرئاسية. كان الرجل داعمًا للتغيير دون حسابات، مخاطرًا بكل شيء.

لم يكن الرجل فقط معارضًا للتوريث ولم تكن مجرد لحظة انفعالية، كان في الحقيقة معارضًا باستمرار للعديد من سياسات مبارك، ويذكر له الصحفيون بشكل خاص زيارته لاعتصام جريدة الدستور وقت وقف إصدارها وتهديد رئيس تحريرها في ذلك الوقت «إبراهيم عيسي» بالسجن.


كناريا خارج القفص

في عام 2003 صنع «فاروق الفيشاوي» ما يمكننا وصفه بأنه ثاني أشهر أعماله الدرامية، وهو مسلسل «كناريا وشركاه». يدور المسلسل حول مزور تائب أنهى فترة سجنه حديثًا، ويريد العمل في هدوء كمصمم ورسام، لكنه يفاجأ بأنه مطارد من جديد، مرة أخرى يقدم لنا الفيشاوي دور لص يحبه الجمهور، وكأننا أمام محاكاة جديدة لسيرة الزيبق.

يبدو الرجل في حقيقة الأمر قريبًا جدًّا من هذه الأدوار في حياته الشخصية، فنراه يعترف دون خجل بإدمانه للمخدرات في مرحلة من عمره وكفاحه من أجل الإقلاع عنها، كما نراه أيضًا صريحًا وبشكل دائم في وصف أعماله الفنية وسلوكياته الشخصية. يكره الفيشاوي الأقفاص تمامًا كما يكرهها كناريا.


ضد العسكر .. ضد السرطان

عقب فوز المشير السيسي بانتخابات الرئاسة، وبينما كانت مصر في بداية مرحلة جديدة من تجدد حكم العسكر، ربما بوجهه الأشرس منذ يوليو/تموز 1952، كان الفيشاوي صريحًا أيضًا في تعبيره عن معارضته لاستمرار حكم العسكر، وصف الرجل ما يحدث باسمه، وعبر عن حلمه بأن يصل مدني إلى حكم مصر يومًا ما.

ربما تكون شجاعة الفيشاوي في التعبير عن رأيه هذه المرة قد مثلت تمهيدًا من نوع ما لمصارحته للجمهور بصراعه مع مرض السرطان عقب ذلك ببضع سنوات، خرجت كلمات الفيشاوي عفوية في أكتوبر 2018 ضمن فعاليات مهرجان الأسكندرية، أخبر الجميع أنه بدأ معركته مع السرطان، تمنى أن ينتصر وأن يحضر مهرجان العام التالي.

في الخامس والعشرين من يوليو/ تموز 2019 فارق الفيشاوي دنيانا، يبدو إذن أن موعد طيران الكناريا قد حان، ربما لم يكن أكثر ممثلي جيله موهبة، لكننا بالتأكيد سنتذكره كواحد من أكثر الفنانين المصريين صدقًا ومساندة لثورة يناير.