يعد «فتحي غانم» (1924-1999م) أحد رواد الرواية المصرية الحديثة، وعلى الرغم من أنه لم ينل الكثير من شهرة معاصريه (مثل نجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس) بل وتعمّد البعض أن يهمشوه ويبعدوا ذكره عن ساحة الأدب المصري لفترة، إلا أن كتابته المتميزة وقلمه الصادق استطاعا أن يقفا في مواجهة كل ذلك، وتمكّن أن يقدّم لنا ما أثرى به عالم الأدب والرواية بشكل خاص بعددٍ من الروايات التي رسم من خلالها أن بصدق صورةً لعصره وعكس فيها مشكلات مجتمعه على مستوياتٍ مختلفة ويطرقٍ سردية متعددة.


عالم «فتحي غانم» من خلال رواياته

والحقيقة أن الغوص في عالم «فتحي غانم» ورواياته أمر ممتع وشيقٌ في آنٍ واحد معًا، فهو قادر تمامًا من خلال لغته السلسلة وأسلوبه الذي جمع بين رشاقة الكتابة الصحفية وعمق الكتابة الأدبية على جذبك لعالمه، هذا بالإضافة إلى تنوّع الموضوعات والشخصيات التي يتحدث عنها ويتناولها في أعماله، ولا شك أن ذلك كله كان بأثرٍ واضح من الفترة الزمنية الثرية الحافلة بالمتغيرات والأحداث الفارقة التي عاشها.

والمطَّلع على روايات «فتحي غانم» يلحظ تنوّع أعماله بين الروايات الطويلة التي يمكن وصفها بالملحمية، لاسيما مثل رواية «زينب والعرش» (800 صفحة)، ورباعية «الرجل الذي فقد ظله» (أكثر من 800 صفحة)، ورواية «الأفيال»، وبين روايات قصيرة شديدة التكثيف مثل «حكاية تو» و«الغبي» و«قط وفار في قطار» وغيرهم. في هذا التقرير نمر مرورًا سريعًا على أهم تلك الروايات، أو التي مثّلت مراحل فارقة في مشواره الأدبي الكبير.


الجبل .. مواجهة بين المدنية والبداوة!

بذكاء شديد واقتدار استغل فتحي غانم فرصة انتقاله لعمل تحقيق عن قرية «الجرنة» في الصعيد، ورفض أهل «الجبل» ترك مساكنهم فيه والانتقال للعيش في تلك «القرية النموذجية/البنايات»، لكتابة روايته الأولى التي أصبحت بمثابة وثيقة أدبية هامة تعرض موقف سكان الجبل وموقف «المهندس» الذي أشار له بصفته، وأشار كثيرون إلى أنه يقصد المهندس (حسن فتحي) وتجربته المعمارية الرائدة التي وجهت بالتجاهل والرفض الشديدين هناك.

والرواية وإن كانت تعرض بحيادية وصدقٍ شديدين موقف أهل الجبل، وتبدو في النهاية وكأنها تدين ذلك الموقف الرافض للتمدن والحضارة، إلا أنها من جهة أخرى تعكس سيطرة ذلك «الوهم» الكبير على أهل الجبل الذين ينتظرون حلمًا بالغنى والثراء السريع يأتيهم من بين الجبال و«الآثار» فيما تضيع أعمارهم وأعمار أبنائهم بين صخور هذا الجبل! في الوقت نفسه تنطوي «المدينة» على العديد من المخاطر و«انقطاع الأرزاق» بالنسبة لهم، ولذلك يكون من المنطقي والطبيعي أن يرفضوا تلك الحياة الغريبة التي تحتوي كذلك ـ من وجهة نظرهم ـ على المحرمات!


رحلة «تلك الأيام» .. بين الواقع وقراءة التاريخ!

نُشرت هذه الرواية في البداية على متتالية في مجلة «روزا اليوسف» ثم تم نشرها في كتاب عام 1966م، ليكتشف فتحي غانم أنه تم حذف قرابة 130 صفحة منها، ولم تر الرواية كاملة النور إلا بعد ذلك في عام 1972م حينما صدرت في (كتاب الجمهورية).

وربما يكون ذلك السبب المباشر لإصرار مشروع «مكتبة الأسرة» على إصدار هذه الرواية بالذات في أكثر من ثلاث طبعات متتالية بعد وفاة فتحي غانم، بمقدمةٍ للناقد «جابر عصفور» يشرح فيها الرواية ويحللها من وجهة نظره الخاصة، ويضع فيها أفكاره الخاصة والتي تتعلق بدور المثقف في مواجهة «الإرهاب» بمفهومه الذي ظهر عليه في تسعينيات القرن الماضي، وهو بذلك يبتعد كثيرًا عن مضمون الرواية لاسيما في الوقت الذي كتبها فتحي غانم فيه في الستينيات.

يؤكد ذلك مقال الناقد السينمائي «عصام زكريا» المنشور في أخبار الأدب عام 2010م، والذي يحكي فيه واقعة نشر رواية «تلك الأيام» في «مكتبة الأسرة» بإيعاز من «د.جابر عصفور» شخصيًا، ويشير إلى (أن كلمة «إرهابي» في ذلك الوقت كانت تعني شيئا مختلفا تماما عما تعنيه اليوم، وبالتحديد كان يوصف بها الشباب المنتمين إلي الحركات اليسارية والفوضوية وكذلك الإخوان المسلمين وغيرهم من الذين يئسوا من إمكانية الحصول علي الاستقلال بالمفاوضات واعتمدوا العنف والاغتيالات كوسيلة أساسية في نضالهم ضد الإنجليز والملكية.)

الرواية التي تخوض في نفسيات أبطالها وتدور بين أستاذ الجامعة «سالم عبيد» الذي يدرس التاريخ ويشك في زوجته إلى درجة أنه يسلّط أحد الإرهابيين «عمر النجار» لقتلها، تحكي تحوّل ذلك الأستاذ الجامعي وعدم قدرته على مواجهة الحقائق والمتغيرات المجتمعية، وتمثل انعكاسًا واضحًا لحال المثقف المأزوم في فترة «عبد الناصر» بين الآمال والوعود التي قامت عليها الثورة، وبين الراهن المظلم والديكتاتورية والاستبداد التي أصبحت سمة ذلك العصر!


«الساخن والبارد»: مواجهة مختلفة بين الشرق والغرب!

سيبدو لقارئ رواية «الساخن والبارد»، التي كتبها فتحي غانم عام 1960م، أنه إزاء إعادة قراءة لعلاقة الشرق والغرب التي قدمها «يحيى حقي» من قبل في «قنديل أم هاشم» وبدا أنها هي النمط السائد لوصف تلك العلاقة حيث يظهر الشرق المتخلف والغرب صاحب العلم والتقدم والحضارة، ولكن القارئ يكتشف مع مواصلة قراءة الرواية وتتبّع حالة وشخصية بطلها «يوسف منصور» أن هناك تقارب بين العالمين ورصد للحالة الإنسانية والمتغيرات التي تحدث للمرء في مواجهة الآخر المختلف عنه في ثقافته وتفكيره وعاداته وتقاليده.

والمفارقة في تلك الرواية أن فتحي غانم يعود إليها بعد سنواتِ من كتابتها، ليقدّم شهادة مختلفة تمامًا في مقالٍ نشره بجريدة «العربي» الكويتية عام 1997م يقول فيه:

كان الصراع في رواية «الساخن والبارد» بين «جوليا» السيدة السويدية التي أحبت فاندفعت بعواطفها، لكنها سيطرت بعقلها وأدركت مصير العلاقة، وبين «يوسف منصور» رجل الأعمال العربي الذي اندفع بغرائزه فتورط في وعود وأطلق أماني وأحلاما ليكتشف أنه لم يخدع جوليا بل خدع نفسه وأنه تورط في خطيئة شائعة بيننا وهي الصدق الكاذب. إن جوليا السويدية التي كتبت عنها غير موجودة. فعلى شاطئ الميناء كانت فتاة شبه عارية مكشوفة تماما أمام ثلاثة شبان يجلسون بجوارها يتسامرون في وضح النهار. والوجوه ليس فيها حلم أو عاطفة كتلك التي دفعت جوليا إلى المغامرة الرومانتيكية مع شاب من الشرق. مثل هذه المغامرات تبدو وكأنها نوع من الثرثرة ومضيعة الوقت. أو هذا هو ما خيل إليّ، لأني على أية حال لم أشعر بذلك الشعور الرومانتيكي الذي واجهتني، به «ستوكهولم» منذ أربعين عاما. تغيرت «ستوكهولم» ولا شك أني أيضا تغيرت.

ربما تعد هذه «المراجعة الأدبية» لأفكار الرواية وأحداثها من أصدق ما يعبّر عن عالم فتحي غانم وتميزه، ومحاولاته الدؤوبة الصادقة لرصد الواقع الذي يراه ويعبّر عنه، ولذلك هو لا يجد أي غضاضة ـ بعد مرور السنوات ـ من أن يشير مثل تلك الإشارة الهامة والدالة التي يشير فيها إلى المتغيرات التي اختلفت وتغيّرت عمّا رصده وعبّر عنه في روايته.


رباعية «الرجل الذي فقد ظله»

وهذه روايةُ أخرى لهذا الرجل، ذاع صيتها، بل وتم تحويلها إلى فيلم سينمائي، واتُهم فتحي غانم بسببها بأنه يهاجم كبار الصحفيين في مصر، من خلال تلك الرواية التي تتحدث عن رحلة صعود صحفي شاب «يوسف السويفي» إلى مركزٍ مرموق في الصحافة بمساعدة أحد كبار الصحفيين، واعتبر عدد من النقاد أنه يشير إلى الكاتب الكبير «محمد حسنين هيكل» وعلاقته «بمصطفى أمين» في ذلك الوقت، بل إن ناقدًا كبيرًا مثل «شعبان يوسف» يشير إلى أن «هيكل» غضب من فتحي غانم بسبب هذه الرواية وجعله يتعرض لمضايقات كثيرة، ويرى أنه تم تجاهله في الوسط الثقافي بسبب تلك الرواية تحديدا!

إلا أن القارئ المحايد للرواية يستشعر ما فيها من صدق وخبرة على عكس واقع الصحافة والفن في مصر في ذلك الوقت من خمسينيات القرن الماضي، قبيل ثورة يوليو/تموز، وسواء كان ذلك بقصد «التلسين» على أحد الصحفيين الموجودين بالفعل أم لا، إلا أن واقعية الرواية وتصويرها للمجتمع بصدق لا يمكن أن يجادل فيه أحد. أضف إلى ذلك طريقة بناء الرواية المختلفة والمميزة، حيث كتبها فتحي غانم في أربع روايات منفصلة متصلة (مبروكة، ثم سامية، ثم يوسف، وناجي) كل جزءٍ منهم يرويه واحد من أبطال الرواية بطريقة «تعدد الأصوات».


رواية «الغبي» .. بين الواقع والخيال!

تيمة واحدة بسيطة يدور حولها فتحي غانم باحتراف، ويجعلها محور روايته، يخلط فيها الواقعي بالفانتازي، ويجعلك تفكِّر ألف مرة في شخصية «الغبي»، وهل من الممكن أن تكون واقعية، لتكتشف أنك ربما تكون قد صادفتها بالفعل، بل وصادفت الكثير منها في مراكز مرموقة، وتتعجّب قبل قراءة الرواية وبعدها من كيف وصل هذا «الغبي» إلى هنا.

رواية «الغبي» هي مغامرة سردية من نوعٍ خاص، جرّب فيها فتحي غانم بذكاء كيف يمكنه أن يتحدث عن بطلٍ مفارق ومغاير للعوالم التي اعتادها، وأرى أنه نجح كثيرًا في إكسابه الصفة الواقعية، بل واستعان في الكتابة بأفكارٍ مختلفة؛ كأن يجعل الرواية على لسان الكاتب، ويجعل أخبار هذا الغبي مذكورة في أوراق يعرضها للقارئ كما تلقاها.


دراما «فتحي غانم»

لعل اللافت للنظر أن فتحي غانم قد حالفه الحظ بتحويل بعض قصصه ورواياته إلى أفلام سينمائية ومسلسلات تلفزيونية، بل إن المُتابع للأفلام المأخوذة عنه يلحظ أن له عددا من الأفلام الشهيرة مثل فيلم «الرجل الذي فقد ظله» عام 1968م، وفيلم «قليل من الحب كثير من العنف» الذي أخرجه «رأفت الميهي» عام 1995م.

في الوقت الذي نجد له أفلامًا لم تحظ بالكثير من الشهرة وربما لم يسمع عنها الكثيرون، مثل فيلم «الجبل» المأخوذ عن روايته، والذي شارك في كتابة السيناريو له بالتعاون مع مخرجه «خليل شوقي» عام 1965م. وكذلك فيلم «حكاية تو» بطولة «فريد شوقي» و«صلاح قابيل» و«شويكار» وأخرجه «يحيى العلمي» عام 1989م

ومؤخرًا فيلم «تلك الأيام» الذي أخرجه ابنه «أحمد فتحي غانم» عام 2010م وكان من بطولة «محمود حميدة» و«أحمد الفيشاوي» والذي اختلف تمامًا عن الرواية، بل ويراه البعض قد أفسدها!

أما المسلسلات التلفزيونية التي ذاع صيته من خلالها فكانت؛ مسلسل «زينب والعرش» عام 1979م من إخراج «يحيى العلمي»، ومسلسل «بنت من شبرا» عام 2003م بطولة «ليلى علوي» وإخراج «جمال عبد الحميد». بالإضافة إلي مسلسل «الجبل» من إنتاج عام 2006م، ومن بطولة «كمال أبو رية» و«محمد رياض».


«فتحي غانم» في مرآة النقد

كانت مفارقة كبيرة أن يكون الاحتفاء في العام الماضي 2015م باسم الروائي الكبير (فتحي غانم) مقتصرًا على تسمية الدورة العاشرة لملتقى الرواية العربية بالقاهرة باسمه، في الوقت الذي لم يتم الالتفات إلى إنتاج الرجل الأدبي بشكل موسّع، بل إن كثيرًا من الحاضرين كانوا يتساءلون عن «فتحي غانم» من هو؟ وكانت التعليقات تدور كلها حول رواية أو اثنتين من رواياته الشهيرة فحسب!

ولعل أبرز الإصدارات التي واكبت هذا الملتقى كان كتاب الناقد «شعبان يوسف» الذي يعد احتفاء بالكاتب الراحل وكشف عن عدد من مواقفه ومعاركه في الساحة الأدبية، والذي حمل عنوان «وجوه أخرى لفتحي غانم» والذي يعرض فيه جوانب متعددة وشهادات هامة حول روايات فتحي غانم وأدبه وموقعه في خريطة الرواية المصرية المعاصرة.