كمخرج سينمائي، يبرز اسم فاتح اكين كأحد أبرز أسماء المخرجين الألمان المعاصرين، أو الألمان ذوي الخصوصية الإثنية الذين ينحدرون من أصل تركي، وبالنسبة للسينما الأوروبية وليست الألمانية بشكل خاص، يعد من أهم المخرجين الذين يعرضون بصفة مستمرة أفلام تركز على إشكالية العلاقة بين الشرق والغرب، ومقاربات تلك العلاقة على المستوى الفن والإنساني بعيداً عن الأيديولوجية السياسية، بأفلام تنبض الآمال رغم عكسها لإحباطات الواقع.

ولد أكين في عام 1973م لعائلة حلمت بالهجرة إلى ألمانيا حتى حققتها، كان شغفه واضحاً منذ حداثة سنه حيث شاهد الكثير من الأفلام في المدرسة، ومن خلال تلك المشاهدات استطاع أن يحدق تحديقته الأولى على هذا العالم الساحر، ويحث الخطى في سبيل تكوين ذاكرة مكتظة بالمشاهد واللغة البصرية، حتى خلق لغته البصرية الخاصة به في سينماه.

درس أكين السينما في كلية الفنون الجميلة في هامبورغ، وبدأ بإخراج أول أفلامه القصيرة الذي حاز جائزة أفضل فيلم قصير بمهرجان هامبورغ الدولي للأفلام القصيرة، وهو فيلم «Sensin – Du bist es!» الذي قدمه عام 1995م.

تمتاز سينما أكين بأصالتها الشرقية التي تعكس عادات الشرق وسيرته ورؤيته مع المعاصرة الغربية وتقنياتها وشخصياتها، حيث صنع دراما سينماه على طول المحور الثقافي بين هامبورغ وإسطنبول. وهي سينما ما بعد حداثية بامتياز تتجاوز فيها شخوصها الجغرافيا والتاريخ وتلتحم في عالم معولم وسائل، منذ أن قدم فيلمه الروائي الأول «Short Sharp Shock» والذي بدا كفيلم يعكس ملامح سينماه التي سيركز عليها في مسيرته في عكس قضايا المهاجرين وانخراطاتهم داخل السينما الألمانية.

امتازت الرؤية الإخراجية لدى أكين بواقعيتها وبساطتها وبعدها عن التكلف وتحميل الشخصيات فوق ما تحتمل مشاعرها الإنسانية في الواقع مع الحفاظ على عمقها وصدقها وتناقضها، وهي أفلام في الأساس عن شخصيات هامشية، وأحياناً شديدة الهامشية بالنسبة للمجتمع، وأحياناً تعبر أفلامه عن صراع ثقافي بين الأجيال، حين يركز في أفلامه على الشباب الذين يحاولون خلق عالم مواز داخل الوطن الذي يشعرون فيه بالغربة، ويحاولون دائماً أن يبحثوا عن ذواتهم من خلال الآخرين، ومحاولين رصد مكامن القلق ونقاط التلاقي والافتراق بين الثقافات.

مخرج يتحسس طريقه

استمع العالم لصوت فاتح اكين منذ فيلمه الأول الذي عرض لحياة مركبة للأشخاص الأتراك في ألمانيا، مناقشاً قضايا أبعد من القضايا الكليشيهية في سينما المهاجرين الأتراك في ألمانيا، حيث ابتعد عن مناقشة قضايا العمل والانسحاق وتذويب الهوية المعتادة، ليقدم أفلاماً عن مشكلات شخصية نفسية أكثر.

قدم اكين في فيلمه (Kurz und Schmerzlos -بلا مشقة) قصة ثلاثة من الشباب يعيشون في هامبورغ وتتعدد أصولهم كمهاجرين بين تركيا واليونان وصربيا، في قصة ذات نسق ميلودرامي عن الصداقة والخيانة لثلاثة من الأشخاص نرجسيين وجذابين كأفلام المافيا الشهيرة عند مارتن سكورسيزي، وذلك ما جعل سينما أكين تتميز بالرشاقة الهوليوودية وجعلت الفيلم ينتقل من كونه يناقش موضوعاً عن المهاجرين، ليكون جزءًا من الثقافة الشعبية، حيث يحاول الأشخاص من خلال ارتكابهم الجريمة وعيشهم الحياة كمافيا أن يكونوا رد فعل يثبت هويتهم المضطربة داخل الحياة الحديثة التي تسحقهم.

يعري الفيلم الواقع الإجرامي بقسوة، حين تنتفي وجودية فرص أخرى للنجاة وللخروج من المستنقع، ويوظف فيه أكين الصورة التي تبدو مظلمة ومعتمة في أحيان كثيرة، كأنها تعكس الجزء المظلم من مدينة هامبورج المضيئة الحديثة المتقدمة الذي تعيش فيه شخصيات طفيلية كهؤلاء المجرمين. وقد نال التقدير عن فيلمه حين حصد جائزة مهرجان لوكارنو السينمائي.

واصل أكين نضوجه السينمائي منذ أن بدأ بصناعة أفلام قصيرة، ثم فيلم روائي كان منطلقاً لمجموعة من الأفلام الروائية التي سيثري بها السينما الألمانية، وهنا نقف عند فيلم «Solino» والذي يمكننا أن نرى من قضيته أن أكين لا يتقوقع على هويته التركية فقط، بل يتجاوزها هنا ليقدم فيلماً عن أول عائلة إيطالية هاجرت إلى ألمانيا حاملة معها البيتزا والباستا، والفيلم بسيط وتصاعدي كقصيدة شعرية، يتحدث فيه أكين بحنين نوستاليجي للماضي وللأصل ويصور لفرص النجاح المهني الممكنة داخل الحياة الجديدة، وتلك المرة في إطار كوميدي عائلي ليثبت أكين أنه قادر على ولوغ كل الألوان السينمائية.

إلى الواجهة

وصل أكين إلى واجهة الجوائز الأكاديمية الأوروبية حين حاز جائزة الدب الذهبي عام 2004 في مهرجان برلين السينمائي، عن فيلمه «Head-On» حيث ركز فيه على الحب كقيمة إنسانية وتقاطعات العلاقة بينه وبين القدر الذي يحكم مصائر الأشخاص الذين تتحطم آمالهم، أو تصطدم بالحائط كما يعني عنوان الفيلم حرفياً.

ويقدم الفيلم صورة عن الجيل الثاني من المهاجرين في ألمانيا، حيث شخصية الفيلم الرئيسية هي شخصية «جاهيت» المهاجر من أصل تركي، والذي يقع صدفة في حب «زيبل» ذات نفس الأصل.

جاهيت هو نموذج بوهيمي مأساوي للمهاجر التركي، الذي يكتسب لقمة عيشه مما يحدث على هامش الحياة اليومية في ألمانيا، كجمعه زجاجات فارغة من ملهى ليلي ويبيعها، ولكن تتحول حياته حين يقرر إنهاء حياته ويصطدم بسيارة يقودها في جدار.

إن الفيلم لا ينحاز إلى صف تقديم صورة منصفة للشرقيين، بل هو بمثابة هجاء للمنظومة القيمية والأخلاقية التي لا يستطيعون الخروج عنها، فحين تعرض زيبل على جاهيت الزواج مقابل التخلص من العيش في بيت عائلتها التقليدية، وهو الحدث المحور الذي يدفع أحداث الفيلم للأمام لتتصاعد بشكل مأساوي تعكسه النهاية. يحتوي الفيلم على كثير من المتناقضات بين الغضب والأمل، وبين الكبح والجموح الذي يعد بوصلة تحرك شخصياتها في مجتمع يحاول أن يلجمهم، وكما حاول في فيلمه الأول، فالفيلم يقدم قضايا شخصية حياتية لا يمُيز الأشخاص فيها سوى أنهم حاملو هوية مهاجرة، ولا يتميزون بكثير من الملامح الثقافية بطبيعة الحال سوى صفتهم كمهاجرين من الجيل الثاني.

طرق أكين باب السينما الوثائقية أيضاً، حين قدم فيلمه «عبر الجسر» الذي يقدم بورتريهاً عن مدينة إسطنبول، ويقوم الفيلم على إيقاع موسيقي يعكس المتناقضات التي تحدث على طرفي البوسفور، الذي يربط الشرق بالغرب، آسيا بأوروبا، وكيف يمكن للنغم الموسيقي أن يكون لغة تواصل معترف بها للتفاهم بين الثقافتين، وبخط مواز يعرض الفيلم تاريخ وحاضر المدينة الموسيقي.

في عام 2006م قدم أكين أحد أفضل أفلامه السينمائية «The Edge of Heaven» والذي سرد فيه قصص أشخاص ألمان وأتراك، تتقاطع مصائرهم وأحلامهم التي تتجاوز الجغرافيا الطبيعية والخصوصية الأخلاقية لكل بلد على حد سواء، في إطار من الحب والحنين والأحلام، ويقدم فيه رؤية مؤكدة على نظرته لوحدة المصير الإنساني، ويركز على العديد من القضايا الشعورية كالحب والوحدة والضياع والكفاح الشخصي، ولا يغفل الخصوصيات الدينية التي تميز كل شخصية عن الأخرى، ليواصل سيره على الدرب الذي رسمه لنفسه، أن يكون في صف العمق النفسي الإنساني، وقد استطاع الفيلم بالفعل أن ينال جائزة مهرجان كان كأحسن سيناريو، ورشح لجائزة الأوسكار، وحقق كثيراً من الإيرادات داخل تركيا وألمانيا.

مخرج الحب والموت والشيطان

كانت لأكين أيضاً بصمة خاصة في سينماه عبرت عنها ثلاثيته Head On-The Edge of Heaven-The Cut التي اشتبك فيها مع واقع شخصيته، حتى جاء فيلمه «In the Fade» الذي اشتبك فيه مع قضية شديدة المعاصرة يخترقها البعد الاجتماعي والصراع السياسي، حيث تظهر النازية بقناع جديد داخل المجتمع الألماني، وتلك المرة تستهدف اللاجئين، حيث إن الفيلم يناقش عن قرب قضية حزب NSU العنصري الإرهابي الذي يستهدف المهاجرين.

من خلال صراع السيدة «كاتيا» في قضيته من أجل أن تأتي بحق زوجها «نوري» يمكننا أن نرى كيف يمكن أن تقف القوانين مكتوفة الأيدي، غير قادرة على تحقيق العدل، وكيف يمكن للإنسان أن يتصدى وحيداً، بل هل يجوز للإنسان أن يتصدى وحيداً لقضيته وأن يخذ ثأره بيديه، وكيف يصبح شكل المجتمع إذا استطاع الإنسان أن يحقق ذلك من خلال الفوضى والخروج على القانون.

ينقسم فيلم أكين إلى ثلاثة أجزاء داخل الفيلم، يمنح كل جزء منها المشاهد فرصة للمزيد من التأمل والتفكير بشأن القضايا والأحداث المطروحة على طاولة مشاهدته، يحاول أكين أن يخرط المشهد في عجلة فيلمه وداخلها، ليتبنى موقفاً متعاطفاً يشارك البطلة في طريقها الطويل نحو العدالة.

يعرض أكين لزواج سعيد بين الألمانية كاتيا والكردي نوري، الذي يبدو من قصته أن هناك إيماناً بالفرص الأخرى، حيث إن نوري كان تاجر مخدرات وقد اعتقل أربع سنوات، وتعرفت عليه كاتيا في الجامعة حين كانت تشتري منه المخدرات، ولكن نوري تم تأهيله داخل سجنه ليكون عضواً نافعاً للمجتمع من خلال استكماله دراسته، وتدور الأحداث في إطار عائلي سعيد يجعل المشاهد يريد أن يكون جزءاً من تلك العائلة السعيدة، نوري وكاتيا، وطفلهما، إلا أن ذلك الشمل السعيد تفجره السياسة، ويموت زوجها وطفلها ضحية انفجار، وهذا هو الحدث الذي سيدفع الفيلم للأمام، لتتحول سعادة الجزء الأول، إلى مأساة كاملة في بقية أجزاء الفيلم. جاءت جودة الأداء التمثيلي في الفيلم لتكون مكملة لقصته المهمة والقوية في تعبيريتها، حيث حازت الممثلة ديان كروجر جائزة مهرجان كان السينمائي عن أدائها.

المذهل في فاتح أكين، أن كل تلك البراعة السينمائية تأتي من مخرج شاب ما زال في أواخر الأربعينيات، وها هو يفتح باباً للتوسم خيراً بشأن ما يمكن أن يقدمه من إضافات معاصرة للسينما العالمية، والقضايا الإنسانية، رغم الجدل النقدي لآخر تجربتين سينمائتين قدمهما في عام 2019.