في العام 1974، دفع الصحفي بوب وودورد الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون إلى الاستقالة. فجّر بوب وقتها فضيحة ووترجيت التي صارت أم الفضائح، وإليها تُنسب أي فضيحة في أي مكان في العالم. اليوم، بعد 44 عامًا، بوب على وشك أن يدفع الرئيس الحالي دونالد ترامب إلى الاستقالة، ولكن هذه المرة عبر كتابه «الخوف: ترامب في البيت الأبيض». بين نيكسون وترامب، لم يَسْلم رئيسٌ من تقييم بوب، وصارت شهادة بوب على الفترة الرئاسية هاجسًا لكل رئيس، ومادةً دسمةً لكل إعلامي ومؤرخ.

اقرأ أيضًا:من نيكسون إلى ترامب: كيف تتحول المأساة إلى مهزلة؟

ألّف بوب كتاب «القادة: أسرار ما قبل وما بعد حرب الخليج». ثم انتقل إلى إدارة بوش الابن بكتابه «حروب بوش». وثالث كتبه كان «الحروب السرية لوكالة الاستخبارات المركزية بين 1981 و1987». وبعد حكم أوباما، كتب بوب «حروب أوباما». بوب المتربص الدائم بالرؤساء المتعاقبين استطاع الوصول إلى معلومات موثّقة وسرية في ظل حكومات متشددة وأكثر عقلانية وتماسكًا من حكومة ترامب الآن، لذا فمن الطبيعي أن نصدّق أن كتابه الجديد حول ترامب يعتمد على شهادات ووثائق سرية.

الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول.. إذا أتبعتها بالعام 2001، فأنت تتحدث عن ضربة موجعة لبرج التجارة العالمي تغير على إثرها وجه العالم. وإذا أردفتها بالعام 2018، فأنت تتحدث عما يوشك أن يكون ضربةً قاضيةً للرئاسة الأمريكية، لكن هذه الضربة ستكون بالكلمات لا الطائرات. اختار بوب ذلك الموعد لصدور كتابه الجديد عن ترامب، ولا يمكن في حالة صحفي مخضرم كبوب أن يكون الأمر من قبيل المصادفة.

يروي بوب في 420 صفحة أحداثًا من الداخل يقول إنه استند فيها على كبار المسئولين والمساعدين، وأنه استمع إلى مئات الساعات من التسجيلات لمقابلات سرية دارت بين الرئيس وبين من اعتمد عليهم بوب في كتابه. كذلك يقول إنه يمتلك وثائق وملفات ومذكرات، منها مذكرة مكتوبة بخط يد ترامب نفسه.


بيت الزواحف والمجانين

لا ينتظر بوب كثيرًا ليخبرك بمضمون كتابه، ولا يترك لك الفرصة لتئول ما يرويه من أحداث، الرجل يخبرك صراحةً أن البيت الأبيض بعد عام ونصف من إدارة ترامب صار أشبه بسرايا المجانين. يُؤكد ذلك بقوله إن ترامب سريع الدخول في نوبات غضب، مندفع في اتخاذ قراراته، كثير التفوه بعبارات بذيئة أثناء حديثه العادي.

يصف بوب ما يحدث داخل البيت الأبيض بأنه انقلاب إداري، إذ يُدرك الموظفون أن تنفيذ جميع أوامر ترامب سيؤدي إلى كوارث دبلوماسية؛ لذا فهم يفضلون التريث أحيانًا لإعطائه مهلةً للتفكير، كما ينفذون أشياء مختلفة تمامًا عما يطلبه أحيانًا. يروي بوب أن مسئولين أخفوا وثائق من مكتبه لكي لا يوقّعها ترامب، مثل مذكرة باغتيال الرئيس السوري بشار الأسد.

تكرّر الأمر كثيرًا إلى حد تسمية ترامب لرينس بريبوس، أول كبير موظفين له، بالفأر الصغير لكثرة ما أخفى أوراقًا من مكتبه.الإهانات المتبادلة لم يسلم منها أحد، فقد وصف ترامب المدّعي العام جيف سيشنز بأنه متخلف عقليًا. كما وصف ماكماستر، مستشار الأمن القومي السابق، بأنه يلبس مثل بائعي البيرة.

قام غاري كوهن، مدير المجلس الاقتصادي الوطني السابق، غاري كوهن، كذلك بإخفاء أمر تنفيذي كان ترامب على وشك توقيعه. الأمر كان سيلغي اتفاقية منطقة التجارة الحرة بين الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية. كوهن قال إنه فعل ذلك حفاظًا على مصالح الولايات المتحدة، وأضاف أن ترامب لم يلاحظ غياب الوثيقة قط.

كرّر كوهن فعلته مع أمر الرئيس بإلغاء منطقة التجارة الحرة لأمريكا الشمالية، الولايات المتحدة وكندا والمكسيك. أمر ترامب سكرتير البيت الأبيض آنذاك، روبرت بورتر، بإعداد مذكرة بهذا الصدد، لكن بورتر كان قلقًا من عواقب هذا القرار فاستشار كوهن. أخبره كوهن بالحيلة السحرية لمنع هذا الأمر، ببساطة قم بإخفاء الورقة من طاولة الرئيس.


السيسي قلق

يشرح بوب الدافع وراء قيامهم بهذه الأفعال بدلًا من محاولة إقناع الرئيس بالعدول عن رأيه عبر اقتباسٍ من جون كيلي، كبير موظفي البيت الأبيض، يقول فيه بأن ترامب أحمق. واستطرد كيلي بأنه من غير المجدي إقناع ترامب بأي شيء. واقتبس أيضًا عن جون دود، محامي ترامب السابق، قوله بأن ترامب كاذب، وأن نهايته ستكون بالبدلة البرتقالية إذا وقف أمام روبرت مولر، المحقق الخاص في التدخل الروسي؛ لذا لا داعي لتصديقه أو إقناعه.

هذه الحيل دفعت ترامب إلى ممارسة ضغوط هيسترية على موظفيه من أجل ضمان تنفيذهم لأوامره، لكن كلما زاد إصرار ترامب زاد تجاهل الموظفين له. لكي يُقرّب بوب حالة الفوضى التي تملأ البيت الأبيض، اقتبس على لسان بريبوس قوله:

إذا وضعت ثعبانًا وفأرًا وصقرًا وأرنبًا وسمكة قرش في حديقة حيوانات بدون جدران، تصبح الأمور بشعة ودموية.

ربما كان بريبوس يقصد نفسه هنا بالفأر. يتطرّق بوب إلى موقف ترامب من الأزمات المختلفة التي تواجهها الولايات المتحدة، مثل أزمة كوريا الشمالية. يروي بوب أنه بعد شهر واحد من رئاسة ترامب طلب من جوزيف دانفورد، رئيس هيئة الأركان المشتركة الأمريكية، إجراء ضربة عسكرية وقائية ضد كوريا الشمالية. وسأل ترامب جيمس ماتيس، وزيره للدفاع، عن ضرورة الوجود العسكري الباهظ في شبه الجزيرة الكورية، فأجاب ماتيس بأن ذلك لمنع حدوث حرب عالمية ثالثة.

وروى بوب عن ماتيس قوله بعد هذا السؤال أن عقلية ترامب تساوي عقلية طالب في الصف الخامس أو السادس. هذه المقولة نفاها ماتيس تمامًا في الساعات الماضية. كما بادره ترامب بطلب توضيح عاجل وصريح عن موقفه، فرد ماتيس بأن ذلك لم يصدر منه قط. ولا يبدو ترامب ميّالًا إلى تصديق بوب على حساب ماتيس، لذا أعلن أن ماتيس باقٍ في منصبه، وأنهما سعيدان للغاية بالعمل معًا.

لكن ماتيس لم يتطرق إلى ما ورد على لسانه في موضع آخر يقول فيه إن الرئيس لم يفهم أهمية حلفاء الولايات المتحدة في الخارج، ولم يستوعب العلاقة بين الجيش والاقتصاد، ولم يدرك حيوية الشراكات الاستخباراتية مع الحكومات المختلفة حول العالم.

وبرق اسم الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في الكتاب، إذ نقل بوب تفريغًا لتسجيل هاتفي دار بين الرئيسين. فاجأ السيسي ترامب بإخباره بمدى قلقه من التحقيقات التي تدور حول التدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية. كما تساءل السيسي حول احتمالية استمرار ترامب في مكانه. رد ترامب جاء بعد ذلك على لسان محاميه بأن هذه المحادثة كانت موجعة لترامب.


ترامب يطبع تغريداته

وكعادة كل ما صدر عن ترامب، لا بد من التطرق إلى حياة عائلته. هنا ينقل لنا بوب حادثةً تظهر للمرة الأولى تلاسنًا بين ستيف بانون، كبير المستشارين الاستراتيجيين السابق، وبين إيفانكا، نجلة الرئيس. يروي بوب أن بانون صرخ في وجه إيفانكا بأنها موظفة ملعونة، وأن عليها ألا تتجاوز بريبوس، كبير الموظفين، إذا أرادت الوصول إلى الرئيس. كما استطرد بانون قائلًا:

إنك تتجولين في المكان كمسئولة هنا، لكن الحقيقة أنك موظفة يسري عليك ما على الباقين.
من جانبها ردت إيفانكا:
أنا لست موظفةً، أنا الابنة الأولى.

روى لنا بوب تفاصيل أكثر فكاهةً عن حياة ترامب الخاصة. حين زاد موقع التواصل الاجتماعي تويتر عدد حروف التغريدة من 140 حرفًا إلى 280 حرفًا، أبدى ترامب ضيقه قائلًا:

وعلى ذكر تويتر، جاء في موقع آخر من الكتاب أن ترامب يأمر بطباعة تغريداته التي تحصل على أكثر عدد من الإعجابات وإعادة التغريد ليقوم بدراستها. وذكر بوب أن النتيجة التي توصّل إليها ترامب من هذه الدراسة كانت أن التغريدات الأكثر انتشارًا هي الأكثر غموضًا.

كما ينقل لنا وصف بريبوس لغرفة نوم ترامب التي اختصها بنشر تغريداته منها، بأنها ورشة عمل للشيطان. ويصف أيام إجازات ترامب بأنها أشبه بأفعال السحرة.


يجب أن يخاف؟

لقد كنت كإرنست همنجواي في كتابة الـ 140 حرفًا، والآن لا أدري ما أصنع.

لا جديد هنا في رد ترامب والبيت الأبيض على «الخوف». ترامب نفى ما جاء فيه، واتهم بوب بفقدان المصداقية في الطرح. ووصف ترامب الكتاب بأنه كتاب آخر سيئ، وأنه كان يفضل الحديث مع مؤلّف الكتاب، لكن يبدو أن المؤلف أراد أن يضع حقائق معينة في كتابه ويتجاهل أخرى.

وفي تسجيل هاتفي لحوار بين ترامب وبوب، أبدى ترامب اعتراضه على الكتاب بشكل ودود، لكن جاء في المكالمة أيضًا إعلان بوب عن خيبة أمله من أن ترامب لم يجرِ معه مقابلة رغم تقدّم بوب بالعديد من الطلبات لهذا الغرض.

المتحدثون باسم البيت الأبيض نفوْا كل ما جاء في الكتاب جملةً وتفصيلًا، ووصفوها بالقصص المفبركة الهادفة إلى تشويه سمعة الرئيس. ونفوْا ما رُوي عن إخفاء كوهن أوراقًا من مكتب الرئيس. وأصدر ماتيس بيانًا ينفي فيه تمامًا ما ورد عن وصفه عقلية الرئيس بعقلية طالب في الصف السادس. كما تبعه كيلي بنفي ما ورد على لسانه بنعت الرئيس بالأحمق.

لا يبدو شيئًا مما قاله بوب غريبًا على القارئ العربي أو المواطن الأمريكي، فكثيرًا ما سُرّبت قصص عن ترامب بعضها صادق والآخر كاذب. لكن الجديد هنا أن الكتاب صادر عن بوب وودورد المشهور بمصداقيته وبثقل مصادره. فحتى لو ثبت لاحقًا أن ما أورده بوب هو خيال، فقد فات الأوان على محو أثره في نفوس الناخبين وعلى استطلاعات الرأي. وستؤكد انتخابات الكونجرس القادمة، بعد شهرين من الآن، تلك الحقيقة.

بوب معروف في أروقة السياسة الأمريكية بامتلاكه قنوات اتصال لا تُضاهى. بل يتواتر القول بين الساسة إنك إذا أردت الوصول إلى معلومة فعليك بالتحدث إلى بوب وودورد لأن جميع المسئولين يخبرونه بكل شيء. والرجل فائز بجائزتي بوليتزر، وهي جائزة مرموقة في مجال الصحافة، ولحامليها شأن خاص للغاية في الصحافة الأمريكية.

اقرأ أيضًا:مذكرات كومي: قذيفة أخرى ينجو منها ترامب

كُتب بوب السابقة اشتهرت بأنها مملة لاستغراقه في التفاصيل، وتقصيه للمعلومات حتى الوصول إلى منبعها. لكن في حالة ترامب اختفى الملل، وتحول أسلوب بوب الخشبي إلى شيء شيق للقراء وجاذب للمبيعات. لعل هذا هو المختلف بشأن هذا الكتاب، أنك في «الخوف» تجد المعلومة ومصدرها، ربما ينفي المصدر بعد ذلك نسبة الكلام إليه، لكن هذا هو ما اعتاده القراء بعد العديد من الكتب والمقالات التي روت مواقف وآراء ووجهات نظر شخصية حول ترامب وإدارته.