في عهد ترامب تحولت الولايات المتحدة إلى محكمة ضخمة. جلسة اليوم صعبة، ممثل الادعاء يرخي رابطة عنقه، الانتظار جعل الجميع يشعرون بالجو أكثر حرارةً مما هو عليه. دقات الساعة المعلقة في خلفية القاعة تخبر القاضي والحضور أن المهلة على وشك الانتهاء. أنظار هيئة الدفاع متجمدة على باب المحكمة ترجو أن لا ينفتح.الدليل الذي ينتظره ممثل الادعاء هو نقطة الحسم هنا. مباراة الملاكمة التي استمرت لشهور بين الرئيس الأمريكي «دونالد ترامب» والمحقق «روبرت مولر» على وشك الانتهاء. جولات عدة دارت في تلك المباراة لكنها جميعًا انتهت إلى لا شيء. دائمًا ما تحدث ضجة إعلامية حول تحول جديد في التحقيق لكن النتيجة النهائية هي أن يبقى الوضع على ما هو عليه، مولر يُحقق وترامب يُنكر.أما الآن فالجميع بانتظار الضربة القاضية. صراخ باب القاعة المفتوح بعنف يقطع الصمت ويشغلهم عن حرارة الجو. يهرول حارس المحكمة بالدليل الجديد إلى ممثل الادعاء. يرفع الممثل الدليل في يده قائلًا هذا كتاب «ولاء أعلى: الحقيقة، الأكاذيب والقيادة»، لـ «جيمس كومي»، مدير مكتب التحقيقات الفيدرالية السابق. إما أن يحسم كومي المباراة لصالحنا أو أن يصير كتابه نقطة جديدة في دائرةِ تحقيقاتٍ لا تنتهي.


ترامب زعيم عصابة

اختار كومي أن يبدأ جولة دعائية لكتابه قبل صدوره بأسابيع. في هذه الجولة أوشك كومي على قول محتوى كتابه كاملًا، 304 صفحة تحكي حياته. أكد في جولته، وفي كتابه، أن عمله مع ترامب يذكره ببدايات عمله كمدعٍ عام يجري تحقيقات مع رجال المافيا في نيويورك. إذ يرى أن أوجه الشبه بين ترامب وحكومته من جهة والمافيا وزعمائها من جهة أخرى كثيرة.في كليهما تجد الأعضاء الصامتين الذين يؤيدون كل شيء، والزعيم المسيطر الذي يفعل كل ما يروق له. ويتشابه ترامب والمافيا في نظرة كليهما للجميع على أنهم أعداء، إضافة لاستخدام أكاذيب لا حصر لها، كبيرةً كانت أوصغيرةً. وفوق كل هذا يتقاطعان في أنهما يضعان الولاء فوق الخبرة، ويضعان المنظمة فوق الأخلاقيات والحقيقة.كومي وصف ترامب بأنه منفصل عن الحقيقة، وأنه لا يتبنى نفس القيم التي قامت عليها المؤسسات الأمريكية. كما عاد فأكد على كون ترامب رئيسًا غير أخلاقي ترتكز زعامته على الغرور والولاء لا الخبرة. وهو ما استنتجه من خلال اجتماعه مع ترامب بحضور «رينس بريبوس»، رئيس موظفي البيت الأبيض السابق. واستنتج أن التوجه داخل البيت الأبيض هو تصديق ما يقوله الرئيس دون التحقق، ومجاراة ترامب والتماشي مع أوهامه كيفما شاء.اقرأ أيضًا: شهادة كومي: ترامب قد يلقى مصيره لكن هناك ثغرة تحميه من العزل لكن كومي لم يكن كذلك. لذا في عشائه الأول مع ترامب حيث طلب منه الولاء، لم يرد كومي. وفي مذكراته يوضح ما دار في نفسه قائلًا إن الرئيس يظن أنه أعطاني المنصب مجانًا، وأن من حقه الحصول على شيء في المقابل. لهذا اكتفى بالتحديق في عيني ترامب دون الرد، فمن الواضح أن ترامب لا يدرك دور مكتب التحقيقات الفيدرالية ولا يعرف حجم كومي.نقطة الولاء دون غيرها أثارت حنق ترامب بشدة. أكد ترامب أنه لم يطلب الولاء من كومي أبدًا، وأنه بالكاد يعرفه كشخص. ثم أردف أن مذكرات كومي ما هي إلا كذبة وزيف يخدم مصلحة كومي فقط.


كومي فاقد الأهلية

«جيمس كومي» مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي المُقال

في مذكراته سخر كومي من هيئة ترامب قائلًا إنه أقصر كثيرًا مما توقع، ورغم ذلك فإنه يرتدي دائمًا ربطة عنق طويلة للغاية. وألمح إلى لون ترامب البرتقالي قائلًا إن وجهه في لقائهما الأول كان برتقاليًا مع هلالين أبيضين أسفل عينه، خمن كومي أنهما بسبب النظارات التي كان ترامب يضعها أثناء جلسات تسمير البشرة.

لا عجب أن يرى كومي، البالغ طوله 2.07 مترًا، ترامب، البالغ طوله 1.93 مترًا، قصيرًا. ولا أن يعلق كومي على حجم يد ترامب فيقول إن يد ترامب أصغر من يدي. لكن كومي توغل في حياة ترامب الخاصة قائلًا إن الأخير طلب منه التقصي وراء معلومات نشرها «كريستوفر ستيل»، ضابط الاستخبارات الروسية السابق. يقول ستيل إن الكرملين يمتلك لقطات مسجلة لترامب وهو بصحبة روسيات في أحد فنادق موسكو عام 2013. يقول كومي إنه ضحك بشدة حين أخبره ترامب بخوفه من الجراثيم، فكيف يدع نساءً يتبولن فوق بعضهن كما ذكرت تلك المعلومات. لكن يبدو أن كومي لا يثق في ترامب قدر ثقته في ستيل، إذ قال في كتابه أن ترامب يتعامل مع النساء كقطع لحم لا أكثر.كومي استطرد قائلًا إن ترامب يمكنه أن يلوث كل من حوله، وأنه مهما كنت صالحًا فإن كمية التلوث ستجعلك غير قادر على خدمة بلادك كما يجب.الحزب الجمهوري لم يسكت. موقع إلكتروني كامل باسم «كومي الكذاب». تصريحات وآراء لساسة مختلفين يكذبون كومي ويقدحون في شخصه تُنشر عليه تباعًا. الضربة الذكية جاءت من «سارة ساندرز»، المتحدثة باسم البيت الأبيض. قالت ساندرز إن أحد الأشياء القليلة التي يتفق عليها الجمهوريون والديموقراطيون أن كومي ليست له مصداقية. أرفقت مع تغريدتها مقطعًا مصورًا يظهر فيه أعضاء ديمقراطيون ينتقدون طريقة تعامل كومي مع قضية البريد الإلكتروني لهيلاري كلينتون.


الهروب من حضن الرئيس

قبل الانتخابات بأيام قام بإعادة فتح التحقيق بسبب رسائل مريبة وجدها على حاسوب «أنتوني وينر»، زوج «هوما عابدين» مساعدة كلينتون. تلك القضية لم يكن كومي لينسى الدفاع عن نفسه بخصوصها.. كومي ذكر أنه كان يتعامل مع كلينتون باعتبارها الرئيس القادم بلا شك. لذا فعدم فتح التحقيق رغم المعلومات المستجدة كان سيجعل منها رئيسًا غير شرعي.

ترامب اقتنص تلك الكلمات وقال في تغريدةٍ له إن كومي فتح التحقيق لظنه أن كلينتون ستكون الرئيس بلا شك. فهو إذن كان يريد منها وظيفة لتسكته بها، ثم احتد فوصف كومي بأنه «كتلة قذارة».ثم تطرق الكتاب إلى «وريتا لينش»، المدعي العام الأميركي السابق، التي انتقدت طريقته في التعامل في القضية. ليتش قالت إن كومي تعامل مع القضية كأنه يناقش موضوعًا لا كمن يجري تحقيقًا. رد كومي كان أن الـ «إف بي آي» لا يتعامل مع المواضيع، إنما يجري التحقيقات.

ليتش جاء ذكرها في ملاحظة غريبة يصف فيها كومي أنها احتضتنه، فاحتضنها هو الآخر وضغط بيديه على ساعديها ثم ظهرها. تلك الملاحظة الغريبة ليست الوحيدة في الكتاب، ذكر أيضًا أنه يوم تنصيب ترامب ارتدى ملابس زرقاء ووقف بجوار الستارة الزرقاء كي يتجنب احتضان ترامب له. كذلك في حديثه عن لقائه مع «جيم كلابر»، مدير الاستخبارات ورئيس كومي السابق، ذكر أن كلابر عدّل ربطة العنق التي أعطاها له أخو زوجته.لا ضير من بعض المديح في الذات. كومي ذكر أنه تلقى اتصالًا عند توليه المنصب وآخر عند خروجه منه. الأول كان من الرئيس الأمريكي السابق «باراك أوباما» حين اتخذه ترامب مديرًا للمكتب الفيدرالي، أعلن فيه أوباما دعمه ومساندته لتوليه هذا المنصب، وأخبره أوباما أنه يرى فيه نزاهةً وقدراتٍ تؤهله لهذا المنصب.

ليست تلك الفقرة الوحيدة التي ذكر فيها أوباما، إذ عاد فذكر أنه كان يجتمع بأوباما بجوار مدفأة المكتب البيضاوي بانفتاح وتلقائية. ليس كما اعتاد أن يلتقيه ترامب من خلف مكتبه مرتديًا معطفه، سامحًا لهذه الكتلة الخشبية أن تفصل بينهما، ولمعطفه أن يقلل من ودية اللقاء.أما الاتصال الأخير فمن جون كيلي، رئيس موظفي البيت الأبيض. أبلغه كيلي أسفه الشديد لقيام ترامب بإقالته، وأعلن أنه ينوي الاستقالة من منصبه. فـ «كيلي» لا يريد العمل مع أناس غير جديرين بالاحترام يعاملون شخصًا بحجم كومي بهذه الصورة. إلا أن كومي شكره على مشاعره وأخبره أنه لا داعي للاستقالة، فالوطن بحاجة لأناس مخلصين أمثاله.وقد عمل كيلي بنصيحة كومي وظل في منصبه حتى الآن ولم يستقل. لم ينكر كيلي المكالمة لكنه أنكر بشدة استخدام كلمة «غير جديرين بالاحترام» في هذه المحادثة. على كل حال بعد صدور الكتاب قد يُقيله ترامب ليلحقه بمن سبقوه.اقرأ أيضًا: ماذا لو كان ترامب قائدًا للسفينة تيتانك؟

حظ سعيد المرة القادمة

أخيرًا يتطرق كومي إلى ما يرغبه ممثلو الادعاء في أرجاء الولايات المتحدة، التدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية. لكن الفقرة لم تكن واضحة كما يجب على الضربة القاضية أن تكون. قال كومي إنه رغم التدخل الروسي المستمر في البلدان المجاورة إلا أن ترامب رفض دائمًا إدانة هذا الغزو. يستنتج كومي أن هذا الرفض ربما كان نابعًا من رغبة ترامب في معارضة الآخرين لأجل المعارضة فحسب، أو ربما أن عدم الإدانة والخوف من بوتين يرجع إلى أمر أكثر تعقيدًا من ذلك. يلمح كومي بكلماته الأخيرة إلى احتمالية أن يكون ترامب مدينًا بالفضل لبوتين.صحيح أن ترامب يفرض وجوده بشكل خفي في كامل الكتاب من بدايته إلا أن كومي اكتفى بذكر ترامب والتدخل الروسي صراحةً في الصفحات الأخيرة من كتابه فقط. ربما سكت كومي عن ذلك عامدًا لسببين؛ أولهما أن كومي شهد تحت القسم منذ عام بما يعرف بخصوص التدخل الروسي. لو أعلن اليوم في كتابه شيئًا صريحًا كفيلًا بعزل ترامب لتعرض كومي نفسه للمقاضاة بسبب الكذب تحت القسم أو إخفاء معلومات عن العدالة. السبب الثاني الذي ربما دفع كومي إلى الصمت، إذا اعتبرنا أنه يمتلك معلومات حقيقية حول القضية، هو سبب فلسفي. في أحد لقاءاته قال كومي إنه يتمنى أن لا يعزل القضاء الأمريكي ترامب، إذ إن ذلك سيعفي الشعب الأمريكي من المسئولية. فكومي يرى أن عزل ترامب يجب أن يقوم به الشعب الأمريكي بشكل مباشر عبر الخروج لعزل ترامب، بدلًا من القيام به بشكل غير مباشر عبر القضاء الأمريكي. لذا حين سُئل كومي بشكل مباشر حول رأيه بخصوص امتلاك روسيا لشيء خطير تهدد به ترامب أجاب أن هذا ممكن، لكنه عاد فاستدرك كلماته معقبًا أن هذه كلمات لم يفكر يومًا أن يصف بها رئيسًا للولايات المتحدة.

وفاة الابن لا تشفع

جيمس كومي
جيمس كومي
كتاب كومي يقارب أن يكون ثلاثة كتب في كتاب. الأول، وجهة نظر وتأمل في كيف تكون القيادة أخلاقية. الثاني، سيرة ذاتية لشخصية عامة تقلدت مناصب مهمة. الثالث، عرض وتوثيق لفترة حكم ترامب من شخص كان في قلب الإدارة. وفي المجمل لا يخرج الكتاب عن كونه تدوينًا لحوار داخلي في نفس كومي حول الرئيس ترامب. ما فات كومي أن الكتاب ينسف مصداقيته كشاهد. ببساطة يقف محامي الدفاع ليطلب من القاضي استبعاد شهادة كومي من تحقيق مولر لأن الشاهد لديه مصلحة حال ثبوت التهمة على ترامب، الشاهد يريد أن يُباع كتابه. كلماته المؤثرة حول هدفه من الكتاب لن تشفع له. هدفه الاستفادة من الدرس الذي علمته إياه زوجته بضرورة استخلاص الأمور الجيدة من رحم الأحداث السيئة، مستشهدًا بوفاة طفله الصغير بعدوى كان من الممكن الوقاية منها. الحدث السيئ هنا هو طرده من مكتب الـ «إف بي آي» الذي أحبه، الأمر الجيد الذي يريد استخلاصه هو تقديم رؤية للشباب حول القيادة الأخلاقية كيف تكون. إلا أن تناقضًا ظاهرًا قد ينسف هذه الحجة البريئة. توقيت نشر كتاب يحوي هذه المعلومات المُسربة غير أخلاقي في خضم تحقيق جارٍ بقيادة مولر. دافع كومي عن هذه النقطة بأنه لم يستطع أن يقف مكتوف الأيدي بينما يتولى السلطة رئيس يحاول تقويض مؤسسات الدولة.على كلٍ فإن استخلاص الخير ربما كان متعجلًا بعض الشيء. الكتاب غير مترابط المحتوى بصورة كبيرة، إضافة إلى وجود أخطاء مطبعية كثيرة، وغلطات في ترقيم الصفحات. هذا التعجل يظهر في تبريرات كومي لقراراته المختلفة، لم تكن مقنعةً ولم يعتمد فيها على توضيح الأمر للقارئ قدر اعتماده على استجلاب كراهية القارئ لترامب. ترامب الغائب الحاضر هو كلمة السر وراء شهرة الكتاب، فلم يلتفت أحد إلى ما ذكره كومي عن نفسه أو عن حياته أو آرائه في كيفية القيادة.

الآن يطوي ممثل الادعاء آخر صفحات الكتاب بخيبة أمل، بينما يسند محامي الدفاع ظهره إلى كرسيه مبتسمًا، ويستعد القاضي والحضور لجولة أخرى من جولات التحقيق الذي يبدو أن نهاية الفترة الرئاسية لترامب ستكون أقرب من نهايته.