أكثر من 5500 تونسي منضمون لصفوف داعش بسوريا والعراق وليبيا خلال 2015 فقط، و50 ألفا من السلفيين الجهاديين داخل تونس منضمون لتنظيم «أنصار الشريعة» الإسلامي، هذا ما رصده مركز كارنيغى في تقرير له، وفي الوقت نفسه تؤكد دراسة أن 80% من التونسيين لا يثقون في السلفيين.

تيارات الإسلام السياسي ما زالت تمثل أهم الفاعلين على الساحة السياسة التونسية، بالرغم من حداثة المشروع الإسلامي لتلك التيارات، حيث تعود جذور الحركة الإسلامية في تونس إلى ستينات القرن الماضي، متأثرة بالعديد من المتغيرات السياسية والاجتماعية والفكرية، وعلى رأسها سياسات العلمنة والتغريب التونسية المتبعة من قبل نظام بورقيبه، كما كان للإنتاج الفكري والتنظيري لعديد من المفكرين أمثال مالك بن نبي وسيد قطب وأبو الأعلى المودودي تأثير كبير على كثير من قيادات الحركة الإسلامية، بالإضافة إلى التأثر بتنظيم جماعة الإخوان المسلمين في مصر، وتنامي الحركة الإسلامية في الجزائر في ثمانينات القرن نفسه .

كان من بين تلك التيارات الإسلامية التي ظهرت نتيجة تضافر العديد من العوامل الداخلية والخارجية في تونس تنظيمات الحركة السلفية التي لعبت دورا بارزا عقب الإطاحة بنظام بن علي في يناير 2011، كما شهدت تلك الحركة تحولا مهما في تنظيمها وأيديولوجيتها وخطابها الفكري والديني، الأمر الذي كان له التأثير الأكبر على عملية التحول الديمقراطي التونسية. فما هي تلك الجماعات، وما هي أهم التحولات الفكرية والتنظيمية التي مرت بها؟ وما هو تأثيرها على عملية التحول الديمقراطي؟


خريطة الجماعات السلفية في تونس

يشير كتاب «السلفية الجهادية في تونس الواقع والمآلات» إلى أنه لا يمكن الحديث عن وجود حركة سلفية بالمعنى السوسيولوجي والتنظيمي في تونس، حيث لا يوجد هيكل معلن ومنظم وله أطروحات فكرية ينتمي له انصار ولهم دور واضح في الحياة السياسية والعامة، الأمر الذي يدعي إلى اعتبار النشأة التاريخية للسلفية في أواخر القرن الماض حركة ذات بعد اجتماعي وديني وعقائدي.

وخلال حكم نظام بن علي الاستبدادي عمل النظام على استئصال الحركات المقاومة لسياسته وخاصة تيارات الإسلام السياسي، ولقد اتبع بن علي العديد من الاستراتيجيات المختلفة في التعامل مع الإسلامين من حيث المهادنة حينا والتضييق الأمني حينا، ولم يفرق بين تيارات إسلامية معتدلة أو تيارات أصولية متشددة، الأمر الذي أدى إلى محدودية نشاط الحركات الإسلامية بشكل عام والسلفية وتطورها بشكل خاص.

وظل التيار السلفي محدود التأثير في الساحة السياسية التونسية نتيجة التضييق الأمني الخانق له ولقياداته، حتى قامت الثورة التونسية في يناير 2011.

مثل الزخم الثوري في تونس ودول الربيع العربي سندا كبيرا لخروج تلك التنظيمات للعمل بشكل علني وتنظيمي تباينت درجات تأثيره السياسي والاجتماعي، كذلك مثل تصاعد دور الجماعات الإسلامية الجهادية في سوريا والعراق وليبيا، ذلك المتغير الأكثر تأثيرا على إحداث تحول جذري في تطور ونمو الحركة السلفية التونسية، بالإضافة إلى أن التصحر الديني الذي أصاب المجتمع التونسي وأدى إلى ضعف منظومة وبنية التدين التقليدي كان له الدور الأعظم في تغذية مراحل التطور الفكري لتلك التنظيمات، وبشكل عام يمكن رصد ثلاث مراحل تطورت خلالهم السلفية التونسية وفقا للخطاب الفكري لها كالآتي:

دعوية تربوية: وهي ما يسمى تيار السلفية العلمية ويبنى خطابه الفكري على الأساس الديني الدعوي والتثيقفي وصراع الهوية الإسلامية والعربية، ويرى أن الخروج على الحكام غير شرعي فهو دائما مهادنا للنظام، وبالتالي لم يشارك هذا التيار في الثورة التونسية لأنه لا يجيز الخروج على الحاكم تخوفا من إحداث الفتنة، واتخذ هذا التيار المساجد منابرا له لنشر الدعوة، وتطور وتنامى في ظل حكم «الترويكا» الذرى قادته النهضة، ومن أبرز قيادات هذا التيار الشيخ بشير بن حسن.

حركية سياسية : ويمثل الرافد الثاني من الحركة السلفية والتي ظهر في ثمانينات القرن الماضي، وهو يميل إلى المشاركة السياسية وضرورة تحقيق الحكم الإسلامي وتطبيق الشريعة الإسلامية.

وكانت أول حركة سلفية تشهدها تونس بالمعنى التنظيمي والحركي هي «الجبهة الإسلامية التونسية» في عام 1988 وترأسها محمد خواجه وعبدلله الحاجي ومحمد علي حراث، ويذكر أن عبدالله الحاجي قد شارك في الجهاد الأفغاني واعتقل بعض أحداث سبتمبر 2001، واقتيد إلى غوانتانمو، فيما واجهت قيادات الحركة المزيد من الاعتقالات السياسية في تونس وهرب بعض منها إلى الجزائر وباكستان.

ولكن مع الإطاحة بنظام بن علي سعت تلك الحركة إلى اعادة تنظيمها ورفضت بعض قياداتها العنف، واتجهت إلى قبول اللعبة السياسية والديمقراطية ولذلك شرعت في تأسيس أحزاب سياسية ذات مرجعية دينية ومثلها ثلاث أحزاب هي حزب جبهة الإصلاح والأصالة والرحمة.

جهادية : وهو التيار الأكثر تأثيرا وشعبوية في تونس نتيجة لنشاطه المتنامي العنيف ضد الدولة التونسية حيث كان له نشاط محدود في تونس ولم يكن له تنظيم واضح المعالم،فقد ارتبط هذا التيار بتنظيم القاعدة القاعدة ببلاد المغرب، ومثل المجاهدون التونسيون الذين شاركوا في معسكرات الأفغان العرب أهم أنصاره ، وكانت أولى تلك التنظيات هي الجماعة التونسية المقاتلة والتي تأسس في عام 2000 بقيادة أبو عياض التونسي والذي اعتقل في 2003 في تركيا وتم تسليمه إلى تونس، وكانت أبرز العمليات التي قامت بها السلفية الجهادية في تونس في عام 2002 بتفجير المعبد اليهودي في جربه والذي قام به نزار نوار وهو أحد مجاهدين القادمين من أفغانستان، ثم أعقبه هجوم في عام 2007 على مواجهة مباشرة مع السلطات التونسية في جبل برنق في عام 2007 .

ولكن بعد أحداث الربيع العربي ازداد قوة السلفية الجهادية اقليميا ودوليا وكذلك محليا، الامر الذي دفع إلى تطوير السلفية الجهادية في تونس أدواتها وآلياتها في التأثير على الرأي العام التونسي.


صعود السلفية الجهادية بعد الياسمين

يأتي صعود السلفية الجهادية نتيجة التسابق بين تنظيم القاعدة في بلاد المغرب وتنظيم الدولة الإسلامية على قيادة الحركة الجهادية العالمية. ويتسم البناء التنظيمي له بالتشتت وعدم الانسجام، وأدواؤه مضطرب

اتجهت السلفية الجهادية في تونس إلى تطوير أدواتها المتفاعلة مع الأحداث المحلية والدولية المتسارعة، وتطوير خطابها الفكري والتنظيمي، فكان للربيع العربي الفضل الأكبر لبدايات التنظيم الحركي وبناء هياكل تنظيمية لتلك الجماعات، حيث شهدت تونس تنظيمان هما كتيبة عقبة بن نافع وأنصار الشريعة الإسلامية.

وفي ظل السباق بين الدولة الإسلامية وتنظيم القاعدة على الحصول على أكبر قدر من مبايعات التنظيمات المحلية لهما فقد ارتبطت كتيبة عقبة بن نافع بما يسمى بتنظيم تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، صدر بيان في سبتمبر 2014 يعلن فيه التنظيم مبايعته لتنظيم الدولة الإسلامية في الشام والعراق.

بينما ارتبط تنظيم أنصار الشريعة الإسلامية بعناصر تنظيم انصار الشريعة الليبي وقد حصل أنصار التنظيم التونسي تدريبا في ليبيا، وكذلك فإن الخطوط الفاصلة بين ولاء التنظيم للقاعدة أو داعش غير واضحة.

وقد بدأ الخطاب الفكري والأيديولوجي لهذا التيار بالدعوة إلى رفض العنف في تونس حيث اعتبرت تونس ” أرض دعوة لا دار حرب” وأنه لا توجد حاجة للجهاد في تونس، متأثر بذلك بخطاب تنظيم القاعدة، وكان التنظيم قد دعا أنصاره في بدايات الفترة الانتقالية إلى العمل المدني المتضامن، ولكن تطور هذا الخطاب واتجه إلى تبني العنف كوسيلة للتغيير وهو ما شهدته تونس خلال الأعوام الخمس الماضية من اغتيالات لشخصيات سياسية واستهداف لعناصر الجيش والشرطة وقطاع السياحة التونسية.


لماذا فشلت الأحزاب السلفية بتونس؟

بالرغم من قبول الأحزاب السلفية لقواعد العمل السياسي الديمقراطي، لم تستطع تحقيق أي مكاسب سياسية لها تذكر خلال الخمس أعوام التي عقبت الثورة.

اتجهت بعض قيادات السلفية الذين رأو منطقة وسط بين السلفية العلمية والسلفية الجهادية ضرورة تشكيل أحزاب سياسية على غرار الأحزاب السياسية السلفية في مصر التي ظهرت عقب ثورة 25 يناير 2011، وساعد مناخ الفترة الانتقالية والحراك الثوري التونسي على الحصول على تصاريح قانونية للتنظيم الحزبي لتيار السلفية الحركية في عام 2012، وبذلك تكون تلك القوى قد قبلت بقواعد اللعبة السياسية وآليات التحول الديمقراطي، ولكن ظلت مرجعيتها الشريعة الإسلامية.

نجحت تونس في تخطي مرحلتها الانتقالية بعد أن انتخبت مجلس النواب وأقرت دستورها في عام 2014 وانتهت بانتخاب رئيس الجمهورية في اواخر العام نفسه، وخلال هذه التجربة لم تحقق الأحزاب السلفية نجاحات تذك، حيث تحالف حزب جبهة الإصلاح وحزب الاستقلال الوطني في انتخابات مجلس النواب ولكنه لم يحقق أي مكاسب بها.

وفي انتخابات الرئاسة راهنت الأحزاب السلفية التونسية على الحصان الخاسر، حيث عملت على دعم المنصف المرزوقي، وذلك لأنها رأت فيه توافقا مع الهوية العربية الإسلامية لتونس، وتشير نتائج انتخابات مجلس النواب والرئاسة إلى أن القاعدة الجماهيرية لهذا التيار ضعيفة جدا ولن تمكنه من تحقيق أي انتصار سياسي على الأرض، كذلك يشير إلى ضعف بنية تلك الأحزاب وغياب البرنامج السياسي ، وهشاشة بنيتها الفكرية والتنظيرية، وضعف هيكلها التنظيمي.

وفي ظل تنامي المد الجهادي، أضرّت العمليات الإرهابية التي تقوم بها جماعات السلفية الجهادية بتيارات الإسلام السياسي، حتى أن حكومة الترويكا قد تعرّضت إلى هزّات عنيفة أفضت إلى تصدّعها وانهيارها بالكامل، جرّاء بعض الاتهامات التي وجهت لها بدعمها للإرهاب بعد سلسلة الاغتيالات التي طالت قيادات المعارضة في 2013. كما أدّت تلك العمليات إلى انحسار شعبية الأحزاب السلفية في تونس لارتباطها الفكري بها، وتقليص هامش الحرية الذي نعِمت به تلك التنظيمات، خاصة بعد هجمات سوسة، حيث فرض قانون الطوارئ، وتم إحكام السيطرة على المساجد وإبعاد أئمة المساجد السلفية التي مثّلت منابر هامة وأساسية للخطاب السلفي.

وبالتالي، فإن تراجع شعبية الأحزاب السلفية والسلفيين بشكل عام لهو أمر طبيعي في ظل تلك الأحداث الدامية والصراع بين المشروع الحداثي والأصولية الراديكالية. وعليه، فإن السلفية الحركية اليوم في تونس تجد نفسها حيال مهمة تقديم مشروع فكري قادر على التعاطي مع الواقع الحداثي، مؤكدة بذلك ابتعادها عن التنظير السلفي للعنف، وكذلك إعادة هيكلة برامجها السياسية ولوائحها التنظيمية.