مر خمسون عامًا على حرب السادس من أكتوبر عام 1973، أصبحت حكايات النصر جزءًا من الوعي الجمعي والفخر القومي، وبالتبعية أصبحت الصور المقترنة به جزءًا من الثقافة الشعبية، بأفلام حربية شهيرة تختلف في جودتها مثل «أيام السادات» أو «حكايات الغريب»، أو مؤخرًا «الممر»،.

بعد عام واحد من الحرب، تنوعت إنتاجات السينما المصرية في مناخ محتف بنصر بعد سنوات من الانتقاع في سرديات الهزيمة وانعدام الأمل مما انعكس على المنتجات الإعلامية والسينمائية، لم تتكون بعد سرديات متماسكة عن الحدث ولا تصورات عن كيفية نقله بشكل فوري، فلجأت بعض أفلام السينما المصرية للاستمرار على تقاليد الصناعة المحلية في صناعة الميلودراما الغنائية وأفلام الواقعية الشعبية، مع إدراج الحرب داخلها كأداة سردية تواكب الحدث الأكبر، الذي سيظل كذلك لسنوات.

في عام 1974 صدر واحد من أشهر الأفلام الحربية المصرية «الرصاصة لا تزال في جيبي»، لكن في العام نفسه  صدر فيلمان متشابهان بغرابة بينما لا تزال ذكريات الحرب طازجة، لم تكن تلك الأفلام حربية بالمعنى التقليدي، لم تمض وقت في سرد إنجازات الجنود والقيادات فتلك الأفلام التي تتخذ الحرب نوعًا والقتالات أسلوبًا سوف تصدر بعد أعوام من الحدث.

قام ببطولة الفيلمين نفس الوجوه، الثنائي نجلاء فتحي في دور البطلة المحبوبة ومحمود ياسين في دور البطل المحب وبطل الحرب، الذي ينتقل من الهزيمة إلى النصر، اختلفت جماليات الفيلمين لكن جمعتهم عديد من النقاط السردية والأجواء العامة، الوفاء العظيم من إخراج حلمي رفلة وبدور من إخراج نادر جلال هما من أوائل الأفلام التي ارتبطت بنصر أكتوبر، لكنهما منسيان  لعدم انتمائهما لنوع الحرب كما أن قصصهم الميلودرامية المتكررة في السينما المصرية جعلتهما عائمين في بحر من الأفلام المشابهة، بنى الفيلمان صيغة العلاقة بين نجلاء فتحي ومحمود ياسين على نجاحات سابقة سبقت إنتاجهما بثلاث سنوات حيث بدأت شراكة بين النجمين الرومانسيين في قصص حب متتابعة بداية من عام 1971 وحتى أتما خمسة وعشرين فيلمًا معًا.

الميلودراما والواقعية

عادة عندما يجمع فيلم «ما الحب والحرب»، فإن قصة الحب تكون على هامش الحرب، أو تظهر في صور يستدعي بها الجنود محبوبات تركن في الديار، لكن في أفلام الوفاء العظيم وبدور فإن الحرب تقع على هامش الحب، وتغذي القصص الرئيسية الحادثة قبل وقوعها.

يدور فيلمي «الوفاء العظيم» و«بدور» حول قصص حب في أطر اجتماعية يختلفان في الإطار الطبقي ويتفقان في الإطار السردي، كلاهما يدور حول شاب هائم في الحياة «محمود ياسين» بعد أن قاتل في حرب 1971، تدب به الروح مرة أخرى باستدعائه لحرب 1973، وبينما يحدث ذلك تنتظره فتاة «نجلاء فتحي» حتى يعود إليها ناصرًا بلده وناصرًا حبه لها.

يرجح ذلك الوصف وقوع الأفلام في فترة الحرب، لكن كلا الفيلمين لا يتعامل مع مساحة الحرب المكانية أو الزمانية إلا مع النصف ساعة الأخيرة من الأحداث أي ذروتها، تعمل الحرب على خصوصيتها بشكل عام كأداة تطور تسهم في نضوج الرجال عاطفيًا ونفسيًا، فينتقلوا من حال إلى حال، بخاصة مع وجود النصر كإطار عام للتغيير، لكن الحب هو الموضوع الحقيقي للأفلام مع إسقاطات عابرة تجعل من عودة الحب عودة للوطن.

نجلاء فتحي من فيلم الوفاء العظيم 1974
نجلاء فتحي من فيلم الوفاء العظيم 1974

يبدأ فيلم «الوفاء العظيم» بزفاف طويل وخطر محدق تغلفه موسيقى عمر خورشيد التي تتخذ من الجاز أسلوبًا وتقاطعها موسيقى شرقية تلائم الرقص الشرقي في الزفاف، يقاطع الزفاف جريمة قتل، يذهب حسين (محمود ياسين) الواقع في حب العروس على الرغم من كونه متزوجًا وأبًا لأطفال إلى المنزل حيث يقام العرس يشهر مسدسه في وجه العريس رؤوف (كمال الشناوي) فيصيب حبيبته بدلًا من عدوه.

تنتقل الأحداث بعد مرور الوقت لرؤوف وصديقه إبراهيم وعبد المنعم إبراهيم حيث يجدان فتاة يتيمة وينصح الصديق صديقه بتينيها لكي يجعل لحياته التي صبحت خالية من الحب معنى، تكبر الفتاة ولاء (نجلاء فتحي)  لتصبح شابة جميلة دارسة للموسيقى ومحبة لأبيها.

يقع فيلم الوفاء العظيم في حيز ميلودرامي بحت مشابه للأفلام الميورامية الأمريكية الخمسينية، حيث تلوين يشبه تقنية technicolor الساطعة والديكورات الفارهة والكاميرا الثابتة، الجميع يرتدي شعرًا مزيفًا ملونًا وكل ألوان الفيلم مشبعة مثلما تتشبع مشاعره بالإفراط.

يستخدم الفيلم الذي أخرجه حلمي رفلة المهتم بالميودراما الغنائية صيغ سينمائية كلاسيكة، يهتم بصريا بالتكوينات اللونية والمساحات الداخلية، ويعتمد سرديا على الصدف المتشابكة والمغالاة في تصاعد الأحداث.

نرى تعبيرات بصرية مثيرة مثل تفتح وردة حمراء على الشاشة لتكشف عن نضوج الفتاة بين ليلة وضحاها، ذلك الوضع الحكائي لم يتكرر كثير في قص سرديات الحرب، فالحرب هي عرض جانبي في فيلم يدور بشكل رئيسي حول صراع عائلي برجوازي في منازل ضحمة ومآس شخصية تتقاطع مع المشاكل القومية وثأر متوارث جيليًا مثل كثير من الميلودرامات المفرطة.

محمود ياسين وسمير صبري في فيلم الوفاء العظيم 1974
محمود ياسين وسمير صبري في فيلم الوفاء العظيم 1974

يسلك فيلم «بدور» الطريق نفسه فيما يخص الحرب، فهو ليس فيلمًا ميلودراميًا بالصيغة الشكلية التي يتسم بها الوفاء العظيم، بل ينطلق من مساحة أٌقل إفراطًا وأسلوبية يمكن وصفها بالسينما الواقعية، فهو على عكس الوفاء العظيم تم تصويره بإحداثيات شاشة واسعة ميزت الأفلام الأكثر واقعية بينما ظهر الوفاء العظيم في إطار مربع محدود ودقيق التصميم، كما أنه يستكشف طبقة ليست مرتفعة ماديًا ولا اجتماعيًا.

تدور أحداثه حول طبقة فقرة تفرز بدور (نجلاء فتحي) التي تعمل في النشل في عصابة تحت أرضية، تلعب نجلاء فتحي دور يختلف مبدئيًا عن دورها في الوفاء العظيم يتطور من ادعاء الذكورة لحماية نفسها في الشوارع وتبني بيرسونا خفيفة ولعوبة الى أن يجدها العامل في جهاز الصرف الصحي صابر (محمود ياسين) ويجعل منها امرأة صادقة فتتبنى وضعًا أنثويًا بالكامل تخفض صوتها وترتدي الأثواب بعدما اعتادت ارتداء الجينز سهل الحركة.

تمضي أحداث الفيلم في حارة شعبية يسكنها صابر ثم تنتقل إليها بدور الفتاة الجميلة التي تريد الحارة بأكملها الفوز بها خاصة ميمو (مجدي وهية) النشال العنيف الذي يطاردها،  ويسكن في عمارة صابر فرقة سيدات للفنون الشعبية يغنين ويرقصن مما يصبح مدخلًا للفيلم لإدراج فقرات استعراضية وغنائية تجعله أكثر خفة فهو ليس فيلم حرب هو فيلم رومانسي اجتماعي يتخلله قصص حربية. 

الحرب كمساحة لترابط الرجال

 يأتي دور الحرب في تلك الأفلام لكي يحل معضلات الرجال والحب وصراعهم عليه، ويجعلهم أشخاص أفضل وأكثر تسامحًا كما تعمل الحرب كساحة لتجميع الرجال واستكشاف حميمة رجولية لا تحدث إلا في سياق القتال لهدف واحد والاحتجاز في مساحات يصعب عدم التعاطي مع الآخر بها، يقارب ذلك التصور الكثير من أفلام الحرب والحب الأخرى لكن يستعدي للذهن فيلم «تهويدة مكسورة – broken lullaby 1932» لإرنست لوبيتش الذي تم إعادة صياغته مرة أخرى في فيلم «فرانتز – frantz» لفرانساوا اوزون 2016.

يحكِ فيلم فرانتز عن جندي فرنسي يعود من الحرب بعد أن قتل جنديًا ألمانيًا، فيقرر العودة لخطيبة ضحيته التي سمع طويلًا عنها لتقع بينهما قصة حب تتجاوز الانتماءات لأن الحرب تجعل الجميع سواسية، وتجمع الرجال مما يسمح لهم بمشاركة أسرارهم وأدق مشاعرهم، سواء بالترابط والصداقة أو باكتشاف خطابات وصور لجنود آخرين على أرض المعركة المدماة.

يمضي الفيلمان الوفاء العظيم وبدور ثلاثة أربع مدتهما في بناء قصة الحب حتى تأتي الحرب لتعطلها، ويصبح الحب انتظار للنصر الوطني والعاطفي، كما تصبح ساحة الحرب مكان للمصادفات.

في الوفاء العظيم يقع صبحي (محمود ياسين) ابن حسين الذي قتل العروس في بداية الفيلم في حب ولاء ابنة رؤوف عدو أبيه الأول، لكن بسبب ثأره القديم يرفض زواجهما ويزوجها من ابن صديقه عادل (سمير صبري) الواقع في حبها، ولاء (نجلاء فتحي) شخصية سلبية بالكامل في النصف الأول من الفيلم أو في مرحلة ما قبل الحرب، كما أنها مرغمة على تقديم التنازلات لأن ممتنة لمن آواها وصنع لها حياة فارهة ومريحة.

في الجانب الآخر، يتحد زوجها مع حبيبها في أرض الحرب، ويكوّنان علاقة صداقة وتعاضد حميمية تجعل منهما شخصين أنضج وأكثر تسامحًا، بعد العودة يتخلى عادل عن زوجته لأنه قابل من يحبها بصدق وأحبه هو بصدق كذلك كجزء من السردية الحميمية وكود الرجولة المستحدث الذي خلقته روح البطولة والنصر.

صورة من كواليس فيلم بدور 1974
صورة من كواليس فيلم بدور 1974

تصبح الحرب في ذلك السياق الميلودرامي دافعًا للتنازل والتضحية الشخصية بجانب الوطنية، ومع الوقت يرضخ الأب للحب العظيم الذي يتخطى الحروب والإصابات وتنتهي الميلودراما بشكل سعيد بعد الكثير من المصادفات والتقاطعات الحياتية.

في نفس الحرب يتقابل محمود ياسين بشخصيته صابر في فيلم «بدور» مع شخصية ميمو النشال زميل بدور المهووس بها، ذو الشخصية العنيفة المائل للشرور والقتال، يعلم قصة حبها مع صابر لكن اجتماعهما في نفس الفصيلة يكون بينما رابط يصعب كسره، ينظران لبعضهما مثل صديقين قدامى ويحميان بعضهما من العدو.

يخرج ميمو من الحرب وهو يستخدم اسمه الأصلي محمود لأنه رجل أكثر نضجًا الآن بعدما مر بكل شيء فأصبحت الحياة خارج المعركة أقل قيمة وأصبح التسامح أكثر سهولة، يتأخر صابر في العودة مما ينذر بنهاية مأسوية على بدور التي تنتظر وتنتظر لكنه يعود بعد بطولة عظيمة ليكلل انتصارها وحبهما، فهو في إطار الفيلم منقذ للفتاة المهزومة التي تتحمل بسذاجة أن تكون رمزًا للوطن، ثم يصنع لها حياة جديدة، ويصنع لنفسه حياة جديدة بعد العمل تحت الأرض يصعد فوقها بطلًا منتصرًا.

تمثل الحروب مساحة إنسانية واسعة للاستكشاف السينمائي والتأمل في ما مضى وفي ما لم يقدم بعد، لكن التناولات التي تلحق بالحرب مباشرة أو بأي حدث ضخم تمثل رؤية طازجة وربما ساذجة لاهتمامات صناع الأفلام وشركات الإنتاج بذلك الحدث الضخم، كيف يطوعونه لإثراء قصص الحب أو يستخدمونه كخلفية اجتماعية لتطوير الشخصيات، لكنها تبقى وثائق شاهدة على تمثلات الحدث المتعددة على الشاشة.