القراءة تبدل حياة الإنسان، ولكن كيف نقرأ في ظل إتاحة هذا الكم من المعلومات بدون معرفة أي مصدر لها؟ يقدم كل شيء على أنه أدب أو شعر، وفي الوقت نفسه لا تسمح لنا سهولة الانتشار من التحقق أو تفكيك مما نقرأ أي شيء، ومع تغييب النقد وغيابه، لا يستطيع أحد فهم كيف نقرأ الشعر، أو هذا الحدث السحري الغامض كما يقول بورخيس، وهذه محاولة للكتابة عن واحد من أعظم شعراء العامية، وأكثر من يحتاج في عملية القراءة نفسها إلى تفكيك ما قدمه لإدراك ما كتبه من جمال.   

كيف تكتب عن ما تحب

حكى محمد شعير في كتابه “كتابات نوبة الحراسة_رسائل عبد الحكيم قاسم”، أن وَقْتَمَا قرأ الكاتب عبد الحكيم قاسم قصته الأولى على صديقه الكاتب شوقي خميس، انتقد الثاني الأول بشدة، قائلًا له:( يخيل إليّ أنك لا تحب الناس الذين تكتب عنهم بالقدر الكافي، إنك لا يمكن أن تفهم إنسانًا فهمًا يمكّنك من الكتابة عنه إلا إذا أحببته، إذا لم تحب الإنسان فلن تستطيع فهمه ولا الكتابة عنه).

قرأت كتاب “نوبات الحراسة” منذ سبعة أشهر أو أكثر وما زلت أشعر أن في كلام (شوقي) ما هو خاطئ بنسبة ما، ربما لأنني لا أستطيع الكتابة عن أبي إلا وأنا ناعٍ أثر فقده عليّ، لا أنعي موته هو، إنما أنعي نفسي أنا. حتى أنني أعتقد أن الكتابة دائمًا مرتبطة بالكتابة عن اللحظة الماضية لا الحالية، ربما لهذا السبب تحديدًا اعتقدت فترة أنني لا أستطيع الكتابة عن فؤاد حدّاد، إلا بعد أن أتجاوز ارتباط قراءته بمرحلة خروجي من مراهقة مضطربة، بدأت قراءة فؤاد حدّاد مع بداية مرحلة الجامعة، أشعر بالاغتراب عن أبناء جيلي، عن كل شيء من حولي، العائلة، أصدقائي، حتى نفسي منغلق عليها، ثم بالصدفة على الفيس بوك تقع أمامي قصيدة لفؤاد حدّاد، أقرأ ثم أندهش من أن وجدت من يعبر عني أخيرًا، يعبر عن هذه المرحلة الضبابية، ثم بعدها بعامين تهديني صديقة مقربة الأعمال الكاملة لفؤاد حدّاد، لتبدأ علاقة أخرى بالشعر، والقراءة الجادة له، علاقة الإعجاب بفكرة الوقوف على العدم. 

والآن أحاول الكتابة عنه وأنا أفهم كثيرًا عن كل ما يخص الشعر. 

أقرأ شعرًا بالعربية والإنجليزية، أقرأ شعرًا عباسيًا، أقرأ الشعر العمودي والنثر، لكن ثمة تفاعل غريب يحدث عند القراءة لحدّاد تحديدًا، ربما يرجع هذا إلى ارتباط لحظة القراءة بمراهقة مضطربة، أو يرجع إلى ما كان يبحث عنه القلب في لحظة مضطربة ما.

الشعر يُغير عالمك الصغير

بدأت قراءة الأعمال الكاملة خلال محاولات التعافي من الاكتئاب، لا أستطيع النوم ليلًا من الأرق، أمسك بأي مجلد من مجلدات الأعمال الكاملة وأقرأ، أرتبك أمام الصورة الشعرية، كيف كتب شعرًا يهز القلب مثل هذا. من هنا بدأت العلاقة تأخذ شكلًا آخر، أذهب لأي مكان وأنا في حقيبتي شعر فؤاد حدّاد، أبحث عن بيت من شعره كي أرتطم به، يعبر عني، أو عن تلك اللحظة الحرجة من حياتي، أحببت ما كتبه من هنا، اكتسبت العلاقة حميمية ما بيننا. 

القارئ لا يتماهى مع من يعبر عن ألمه الظاهر، بل ألمه الخفي، لا تستطيع حكي لحظة مؤلمة من حياتك بمرور السنين، قد تنسى أو تتناسى، أو تجبر نفسك على ذلك بشكل أو بآخر، لكن في لحظة ما يمس الشعر شيئًا لا يستطيع أي فن آخر أن يمسه، يمس الشعر كل هذه اللحظات التي يتجرع المرء فيها الألم وحده.

 ما زلت حتى الآن أنفر من جملة أن قراءة الشعر عملية سهلة، أو أن ليس هناك مانع عند بعض المثقفين من الاستهزاء بقراءة شعر العامية، لأنهم يرونه ركيكًا، أو سيئًا في نظير انتشار الشعر المترجم أو النثر أو العمودي، رغم أنهم ينشرون دائمًا على مواقع التواصل الاجتماعي أغاني من كتابة شعراء العامية قائلين: “إيه الابداع ده”، ويتحول النقاش حول شعر العامية إلى نقاش عصابي، لا يهدف الوصول إلى فهم منطق شعر العامية وتفكيكه، ومعرفة تاريخ نشأته ومروره بتحولات كثيرة، ربما أثرت عليه بالسلب، تحديدًا يُعامل شعر العامية على أنه له صورة واحدة وهي صورة الشعر الغاضب ابن الثورات، رغم أنه لم يبقَ من إرثه إلا الشعر الرومانسي. ولمَ يطلب من الشعر دائمٌا أن يكون سلاحًا في تغيير العالم؟ ويتم التركيز على انحداره هو فقط، رغم تراجع وانحدار أنواع أدبية أخرى؟

 الجميع يمارس على اللغة سلطوية، وتنتقل هذه السلطوية إلى قراءة الشعر والأدب. ومن يمارسون السلطوية هم نفسهم أيضًا من يغنون ليل نهار بتراجع الثقافة وتردي الذوق العام، وهم من يقولون إنه ليس لقراءة الشعر أهمية، رغم أن الأدب كله شعر، وليس هناك جدوى للأدب بدون الشعر، ليست المشكلة في الركاكة المنتشرة بل المشكلة في التركيز عليها وترك ما هو جيد في سبيل ما هو شديد الرداءة لإثبات وجهة نظر اللا شيء، في الوقت التي أتاحت فيه الميديا سهولة انتشار كل شيء، يمارس الجميع سلطوية على الشعر تذهب به إلى قاع التهميش لدوره، في الوقت الذي كان من المتاح استخدام الشعر في قلب عالم الإنسان رأسًا على عقب. 

كيف نقرأ الشعر؟

يعج الشعر بصراع دائم حول الشكل الأمثل للقصيدة، هل عمودية أم نثرية، ملتزمة بالوزن والقافية أم لا، وربما ما ميز فؤاد حدّاد أنه لم يهتم بهذا الصراع في كتابة شعره.

أرسل لي صديق رسالة، يسأل عن كيفية قراءة شعر فؤاد حدّاد، شارحًا أنه لا يفهم كل شيء فيما كتب حدّاد، شرحت له أن الشعر لا يهدف إلى شرح شيء مادي، بل لا يهدف إلى شرح شيء أصلًا، في كتاب الأعمال المختارة لبورخيس الصادر عن دار شرقيات من ترجمة حسن حلمي، يرى بورخيس: (أن الشعر ليس القصيدة، فالقصيدة قد تكون سلسلة من الرموز، الشعر هو في اعتقادي هو ذلك الفعل الذي يتحقق حين يكتبه الشاعر، حين يقرؤه القارئ، وهو دائمًا يتحقق في شكل مختلف.)

في نفس الكتاب يعرف بورخيس: (أن الشعر حدث سحري غامض غير قابل للتفسير، على أنه ليس منغلقًا على الفهم، إن لم يحس المرء عند القراءة بالحدث الشعري فإن الشاعر قد أخفق)، لذا أكدت لصديقي أن الشعر لا يهدف إلى شرح شيء، أو توصيل رسالة بعينها، بل هو اللحظة التي تشعر فيها بأنك ارتطمت بلحظة من ماضيك في سطر، أو أن تجد تعبيرًا مناسبًا يعبر عن لحظة راهنة تعيشها من شاعر ربما لا يربطك به سوى جنسيتك، أو حتى شاعر من بلد لم تزرها يومًا ما. يقول إرنستو ساباتو في كتابه “الكاتب وكوابيسه”: (الفن كالحلم يقتحم أراضي سحيقة في القدم)، لم أفهم الجملة إلا على هذا النحو، أن الشعر هو الذي كالحلم يمس أراضي للألم سحيقة في القدم.  

البساطة التي بهرت صلاح جاهين

كتب فؤاد حدّاد صورة شاعرية في النظرة الأولى يتلقاها القارئ ويراها عادية، حدّاد الذي كتب عن مصر بمختلف طوائفها، عن لبنان، عن فلسطين، يعُامل أحيانًا بأن ما كتبه بسيط، لكن في القراءة الجادة لشعره، سيندهش أي قارئ مما كتب، وكيفية تطويع وتطوير العامية لمعانٍ بهذا الدهاء، مثلًا كتب فؤاد حدّاد في “جبر الخواطر على الله المسعى والمقام”: “صلحت نفسي بأقل ما يمكن من الألم”، يبين التصليح أو كما نقول في العامية (التلصيم) بأنه ما يصلح نفسه بالألم، يكتب حدّاد عن الخوف ويختزله في سطر قائلًا: (كانت عيني طفلة وكل الدنيا غول)، كتب حدّاد عن الخوف، الألم، الحب بكل بساطة خادعة، يقول مثلًا في الحب (أنده عليك يا حبيبي كل اسم جميل… نورتي البيت الشعر يا أمورة)، وربما لذلك لا يخفق حدّاد مطلقًا، لأنه عرف نفسه بنفسه عندما قال: (البساطة بأنها في منتهى الأوبهة.)  

يصعب الكتابة عن حدّاد بدون ذكر من قدمه للجماهير، ورغم ما يربط جاهين بحدّاد عائليًا، فإن أصدق ما كُتب عن فؤاد حدّاد هو ما كتبه صلاح جاهين في مقدمة ديوانه أنغام سبتمبرية بعدما صدر لفؤاد حدّاد ديوان عن جمال عبد الناصر، (أنه أشعر مني وأكثر تدفقًا)، وفي ذكرى وفاة حدّاد كتب صاحب الرباعيات أجمل رثاء في الأهرام: (صلاح جاهين ينعي بقلب جريح صديق عمره وأستاذه فقيد الفن والأدب ومصر والعروبة الشاعر الكبير فؤاد حداد)*. 

لكن لسيطرة الميديا دور في هذه الحالة العبثية للشعر والأدب، لكن الشعر بنسبة أكبر، لأنه يسهل تقديم كل الأشياء على أنها شعر، ويسهل تأطير أن الخلاف حول الشعر مرتبط بشكل اللغة المكتوب بها سواء كانت عامية أم فصحى، لا على أن ما يقدم شعر وهو ليس شعًرا هو ما سبب نفورًا كبيرًا للمتلقي، جاهين نفسه نسب إليه ما لم يكتب ثم يلحق البيت بكلمة “عجبي”، فتصبح صورة شاعرية شديدة الرداءة منسوبة إليه.

أما حدَاد لم يحاول أحد أن يقرأ هذا الإنتاج الضخم بجدية طبعًا لأن الشعر سهل، وأنا لا أستطيع فهم أن الوقوف على مسافة من العدم يصبح أمرًا سهلاً. 

في برنامج تلفزيوني نادر جمع بين جاهين وحدّاد يرى الأول أن الثاني لا يستطيع أن يقف أمامه إلا المتنبي، وهنا ربما الأمر يكون به مبالغة للبعض لكن ربما أفهم منطق جاهين لأنه ببساطة من قرأ لحدّاد والمتنبي سيجد أن اللغة متحركة عند كليهما، لن تجد من استخدم كلمة “مشغوف” إلا المتنبي ليصف بها أن الحزن ساكن بقلبه، ولن تجد في تاريخ العامية المصرية كلها تصوير عن الإنسان الحالم مثل ما صوره حدّاد في بيت مثل” ياريتني مش راكب الخيالات وكنت بطيء.. ياريتني ماشي على عجلات مصدية” وهنا ربما أكثر ما يدل على أن الشعر ليس سهلاً بل الشعر يُغير العالم، في ديوانها (جغرافيا بديلة) تكتب إيمان مرسال: (القراءة كتذكرة مرور إلى تغييب الواقع)، لم أفهمها إلا هذا النحو أن الشعر هو التذكرة الوحيدة لتغييب الواقع، في عالم سريع لا يتمنى فيه المرء إلا أنه لا يركب الخيالات ويتمهل ويصبح بطىء. في ديوانه الأخير (ولكنّ قلبي) كتب يوسف رخا: (أن الشعر يغُير العالم) وربما ليس المقصود في هذه الجملة تغيير العالم الكبير، بل عالم الإنسان الصغير.     

تزجية الوقت بالشعر

في لسان العرب مصدر (تزجية) هو ” زجا ” أي دفع الشيء برفق و يسره، قبل ظهور فيروس الكورونا كنت أزجى أيامي بالشعر، يرافقني الشعر في المواصلات وأقرأ كي أخفف من وطأة رحلة الذهاب والضجر والألم، يلجأ البعض للاستماع والطرب كحل أو كدواء للألم، والبعض الآخر يلجأ إلى  مشاهدة الأفلام، نشأت مع أب طبيب لكنه يفضل الطرب على المشاهدة، وأم تُدرس اللغة العربية وبالنسبة لها لا يجب أن يقع بِكْرها في نطق الكلمات بشكل خاطئ، حطمت آمال أمي وأظن أني لم أحطم أبي، لأنني أحب السماع إلى الموسيقى بمختلف أنواعها، لكن أتلعثم في النطق إلى الآن من الخجل ربما أو من الخوف. 

لا ينكر أحد دور طه حسين في نشر الثقافة وتحررها من بعض الأفكار الرجعية، حتى بالرغم من الاختلاف حول هذه الأفكار، ومحاولات تفكيكها كما فعل هو مع من سبقوه، كتب الرجل عن أكثر من شيء، عن نفسه وعن العالم وعن صراع الخلافة، وعن مستقبل الثقافة في مصر، وقرأ الكثير بالعربية وبلغات أخرى وترجم من لغات إلى العربية، وبالرغم من كل هذا لم يزجى ظلام عينيه إلا بقراءة شعر أبي العلاء المعري، رغم أنه قرأ للمتنبي أيضًا، رأى طه أن المتنبي شاعر مغرور، وهذا ما أختلف معه.

كتب صاحب الأيام عن أبي علاء المعري كتابين، قضى وقتًا مع سجن أبي العلاء، وآخر مع صدى شعره، أكد لي صاحب الأيام على أن الشعر شيء ثمين ليس فقط لأنه كتب عنه، بل لأنه الشيء الوحيد في العالم الذي يهز القلب فعلًا. 

أقرأ الشعر الآن وأنا على مقربة من إتمام ربع قرن، لم أرَ شيئًا يُغير العالم مثل الموت والحب والشعر. 

المراجع
  1. *منقول الرثاء من مقال شهدى عطية على موقع باب مصر بعنوان: قصائد نثرية في معنى المحبة.