مرة أخرى نحن على موعد مع الخيال في واحد من تجلياته النادرة التي قلما يخوض فيها الكتّاب. لسنا مع حكايات معتادة، أو قصة تقليدية، ولكننا مع رحلة مختلفة تمامًا تقوم على الخيال وحده، بل وتجمع بين خيال كاتبها وقصص وحكايات أخرى أبدعها كتاب آخرون، لتتحول كلها إلى بناء روائي محكم قائم على الخيال تنسج باجتماعها وتلاقيها ذلك واقعًا افتراضيًا جديدًا ولكنه يرسخ لوجوده ليوازي بذلك الواقع بحكاياته وأحداثه ومواقفه.

تجربة سرديّة وروائية فريدة، نخوضها مع محمد الفخراني في روايته الجديدة «مزاج حُر» واختيار ذكي وموفق جدًا للعنوان الذي يتماشى بسهولة ويسر مع حالة حكايات الرواية وبطلها «الكاتب المتجوّل» الذي يحلم بالتنقل بكل حرية وبساطة بين بلدان العالم وإذا به يحقق حلمه بين صفحات الرواية ويخلق أثناء ذلك حكاياته الخاصة، متنقلاً فيها بين الزمان والمكان بكل بساطة، بل ويمنح نفسه فرصًا للقاءات نادرة مع أبطال القصص والحكايات.

تجوّلت في شوارع المدينة. الجميع في سيرك، ربما الموتى أيضًا. سمعت صوت هارمونيكا من شارعٍ قريب، شعرت أنها تقصدني، جريت إليها، وجدت الشارع خاليًا، سمعت الهارمونيكا في شارعٍ آخر، جريت إليه لم أجد أحدًا، تكرر الأمر عدة مرات، قلت بصوتٍ مرتفع: «حسنًا أريد الخطوة التالية في اللعبة» سمعت رجلاً يضحك، ورأيت في شارعٍ عربة خشبية يجرها حصان، يقف فوقها رجلٌ يعزف الهارمونيكا، ويمشي بجوارها كلب، جريت إليهم ودخلت خلفهم، قابلني نور الشمس، غطيت عيني لثوانٍ ثم رأيت الرجل يقف بجوار عربته وبيده الهارمونيكا، قال: «هذه الخطوة التالية».

يزيح الفخراني عن الأشياء كلها أفكارنا المسبقة عنها، ويحررها من قيودها المعتادة، فالأشياء والحيوانات تتكلّم مع بطل حكايته بسهولة، والحمار يضحك له. وهو في تجواله ذلك ينتقل إلى أماكن مختلفة وأزمانٍ مختلفة، يقرأ بكل اللغات، ويسمع كل الأصوات، ويتعرّف على جميع الناس من نظرةٍ وحركة وإشارة، يتنوّع أبطاله ويتعددون بسهولة بدءًا من «عباس بن فرناس» مع محاولته الأولى الفريدة للطيران، مرورًا «بشهرزاد» وحكايتها وعالمها الخاص، حتى يصل لفتوات «نجيب محفوظ» بل وأبطال روايته السابقة أيضًا.

لا تقتصر الرحلة على الدنيا فحسب، بل ها هو ينتقل – كما انتقل أبو العلاء المعري- إلى الجنّة ليرصد لنا كيف يرى شكل الكتب والمكتبة هناك، ولا شك أن ذلك سيجعله يقابل «بورخيس» أيضًا.

هي رحلة خلاصٍ ذكيّة ومن نوعٍ خاص، تنطلق من الخيال، ولكنها تربط نفسها بروابط متنوعة في الزمان والمكان، مسرحها الكرة الأرضية كلها وأبطالها تلك الشخصيات التي قرأنا وسمعنا عنهم كثيرًا، رحلة تهدف في النهاية إلى رسم طريق للنجاة من خلال ذلك التراث الإنساني الكبير من الإبداع الحقيقي الذي لا يمكن تناسيه أو تجاهله.

ولعل أجمل ما يمنحه الفخراني لقارئه اليوم من خلال روايته هو محاولة استعادة تلك الحكايات والقصص والروايات التي قرأها وتأثّر بعالمها وشخصياتها، من أجل تخيل مصائر أخرى لأبطالها ونهايات مختلفة عن تلك التي كتبها مؤلفو هذه الروايات ورسموها. إنها دعوة مفتوحة للابتعاد عن عالمنا الواقعي المشحون بالآلام والمآسي والقتل والدماء بشكل متخيّل تمامًا إلى عالم الخيال الأكثر رحابة وثراءً وجمالاً.

مشيت أفكّر أنه إذا كانت أصوات الأشجار مختلفة، فمن المتوقع أن يكون لكل نوعٍ أو جنسٍ منها لغة مختلفة، ثم هناك لكنات مختلفة في اللغة الواحدة، مثملا هو حال البشر، الأمر نفسه مع الشوارع، الطيور، الأسماك، الحيوانات. تساءلتُ: هل تراقب الطيور البشر أحيانًا أثناء مشيهم مثلما نراقبهم في طيرانهم؟ هل يفضلون مشية شخصٍ عن آخر، ويعتبرون البشر كائناتٍ تزيّن الأرض، مثلما نعتبر الطيور في بعض أفكارنا عنها كائناتٍ تزيّن السماء؟ هل يتمنون أن يمشوا على الأرض بمهارة؟ مثلما نتمنى أن نطير؟ ويحبون أن يسموا أصواتنا مثلما نحب أن نسمع أصواتهم؟ هل لو جاءتهم الفرصة سيحبسون البعض منّا في أقفاص مثلما نفعل بهم، ويتفرجون علينا ويتسلون بنا؟

لا شك أن الرواية مع ما تضفيه من متعة خالصةٍ للقارئ من خلال تلك الرحلات القصيرة الجميلة، تضيف أيضًا بعدًا آخر في غاية الأهمية يتعلق بالتلقي وفرص إعادة اكتشاف العالم، وهو ما يبدو حرص الفخراني عليه جليًا، ليس هذه المرة فحسب، بل من خلال تجاربه القصصية السابقة على هذه الرواية، فلم تكن تلك المرة الأولى له لتحريك العالم واستعادة خلقه وتشكيله، ومخاطبة الجمادات بشاعرية، بل إن من قرأ له ولو مجموعة واحدة من مجموعاته القصصيّة ليدرك تمامًا إلى أي شيءٍ يهدف الفخراني دومًا من كتابته.

كتب الفخراني قبل هذه الرواية خمس مجموعات قصصيّة مميّزة، دار أكثرها في عوالم شديدة الشبه والقرب من عالم «مزاج حر» وخيالها شديد الخصوصية والتحرر، إذ نجد فيها قصصًا وحكايات عن المشاعر والأحاسيس كما يفعل في «قصص تلعب مع العالم» وقصصًا عن الأماكن والأشياء كما يفعل في «قبل أن يعرف البحر اسمه» وقصصًا تتجاوز الخيال وترسم عالمها الخاص في «عشرون ابنة للخيال» وغيرها من القصص والمغامرات والتجارب.

في شهادته القصيرة الهامة عن الكتابة يعبّر الفخراني عن نفسه وعن رؤيته للكتابة بشكلٍ واضح فيقول:

المغامرة هي أجمل وأقوى ما يمكن أن يفعله إنسان في حياته، هي أجمل وأقوى ما يمكن أن يفعله كاتب في كتابته، فلا يكون متوقعًا، ولا مكررًا، ولا شبيهًا لأحد، هو يبحث لنفسه عن حلوله الخاصة مع الحياة والعالم والكتابة، فيطلق بحرًا باسمه، ويبني جبله الخاص، أو يترك قصاصة ورق بها سطر واحد يخصه، لا يشبه أحدًا غيره، ولا يتوقف عن الحياة. …العالم مكان للكتابة، والكتابة مكان لاحتواء العالم، وكل الموجودات في جزء كبير ومهم من حقيقتها تجارب، والمختلف المميز منها هو ما يصنع الفارق في العالم، كذلك الكتابة في جزء كبير ومهم منها تجريب، والتجريب الجميل المختلف الذي يحمل رؤيا للعالم هو ما يصنع الفارق في الكتابة، فتسقط كل التجارب المتشابهة والمستنسخة والعادية، فقط التجارب الإبداعية التي تأتي بجديد يمثل فارقًا، ويترك كلمة، ويضع علامة، هي ما سيبقى.

فازت مجموعة محمد الفخراني «قصص تلعب مع العالم» بجائزة يوسف إدريس للقصة القصيرة عام 2012، كما حاز على جائزة الدولة التشجيعية في الأدب في نفس العام عن مجموعة «قبل أن يعرف البحر اسمه».