لقراءة الحلقة الأولىالحلقة الثانية


تلكم أغرب مجموعة من البشر يمكن للمرء أن يمضي أمسيته معها. كان نجاتي يفكر في قلق … في البدء هذا الأخ جابر غريب الأطوار، ثم يأتي الفتى والفتاة الرشيقان اللذان يكرهان النار .. بعد قليل ظهر ضيف آخر .. رجل طويل القامة له جلد مجدور غريب .. شدقان طويلان .. يمكنك برغم الظلام الدامس أن ترى هذا كله وتشعر بالغصة في حلقك ..

رباه!.. لماذا لا تشعر بالراحة؟

الإجابة سهلة .. لأن وجود بشر في حديقة الحيوان ليلاً أمر غير معتاد. والأدهى أنه لا تفسير لوجودهم، لكن إسماعيل يتعامل كأنه قديم العهد بهم ..

لكن تظل هناك إجابة أخرى… ثمة شيء غير مطمئن في هؤلاء القوم، حتى لو قابلتهم جالسين على المقهى في شبرا في وضح النهار.

للمرة الأولى يشعر نجاتي بأنه يفضل لو كان في داره مع زوجته التي تشبه الشمبانزي عديلة.

تقول درية في تقزز:

-ـالطعام يزداد قذارة وسوءًا .. نحن نعيش في زمن أسود فعلاً. في الماضي كان الطعام رائعًا وكنت تشم رائحة اللحم من على بعد مائتي متر.

يقول عم إسماعيل في الظلام:

-ـ السبب هو الغلاء .. الغلاء يحاصر كل شيء، لهذا لم نعد نشتري نفس نوعية الطعام.

يقول الرجل طويل القامة الذي جاء مؤخرًا:

-ـ الأسماك كذلك لم تعد طازجة كما كانت. من الجلي أنها تالفة .. لم أستطع قط أن أحب مذاق هذه الوجبات.

برغم الظلام يدرك نجاتي أن إسماعيل يختلس نظرة له من حين لآخر ليرى رد فعله .. الواقع أنه بلا رد فعل، هو فقط يتعامل مع كل شيء بمزيج من الصمت والبلاهة ..

ازداد الأمر سوءًا عندما ظهر خمسة أشخاص قادمين في الظلام الكثيف. يمكنك أن تتبين أن بينهم امرأتين .. ثمة شيء غريب في هذه المجموعة هي أنهم ضخام الجثة فعلاً، ولهم صوت غليظ مميز .. كلهم كذلك. يمكنك سماع العشب الجاف يتهشم تحت أرجلهم.

النقطة التي تتكرر دائمًا هي أن كل هؤلاء يلبسون الأسمال ..

وجد نجاتي أنه يجلس وسط عدد كبير من هؤلاء القوم، وقد قدر منذ اللحظة الأولى أنهم ليسوا بشرًا .. هؤلاء من الجان بلا شك. إسماعيل ذو الخبرة العتيدة قال له من قبل:

-ـ هذه الحديقة موحشة .. كبيرة جدًا … وصدقني أن هناك أشياء غريبة تحدث من وقت لآخر. ما كانت العفاريت والشياطين لتجد مكانًا أفضل ليلاً.

وقال:

-ـ رشدي يرحمه الله سخر من كلامي في البداية ..

لكني لن أسخر يا عم إسماعيل. ما نحن فيه هو موقف (عفاريتي) بامتياز .. شيء غامض يدور هنا ..

قال لإسماعيل وهو ينهض:

– هلا تكلمنا بعيدًا؟

يا لرائحة العشب الليلي !. رائحة الحديقة في الليل، ومعها رائحة أخرى لا يعرف كيف يصفها ..

قال إسماعيل ضاحكًا:

– هم يسمعون كل شيء .. آذانهم مرهفة جدًا. قل ما تريد.

– لا أستطيع .. يجب أن أبتعد.

صدع إسماعيل بالطلب وهو غير مقتنع. هناك متحف الحديقة المظلم الخالي. يمكنك أن تدخله لو أردت .. هناك في الرواق وقفا وسط حشد من الصور الفوتوغرافية لفلان باشا وفلان باشا المطربشين مؤسسي الحديقة. عند نهاية الممر مومياء منتصبة لأسد يزأر .. لابد أنها هنا منذ كان الملك فؤاد هو ملك مصر والسودان، وقد تم اصطيادها جنوبي السودان.

أضاء نجاتي المصباح الكهربي فتوهج الرواق بضوء خافت كئيب من مصباح واحد، لكنه يبدد الظلام الذي خنقه .. سأل إسماعيل همسًا بصوت كالفحيح:

– من هؤلاء؟

حك عم إسماعيل رأسه مفكرًا ثم قال:

– لا تبحث عن إجابة .. هم هنا فحسب .. تقبل وجودهم

-وأنت تعرف بوجودهم هذا؟

-ـ أعرف هذا منذ أعوام، لكني لا أضايقهم وهم لا يضايقونني.. كلانا يفهم الآخر. نمضي ساعات طيبة في الليل ثم نفترق قرب الفجر.

-ـ وهذا الحفل يتكرر كل ليلة؟

-ـ بالطبع لا .. أنت سهرت مرارًا ولم تر شيئًا كهذا، وكذلك بسيوني لم ير شيئًا قط .. من الواضح أنهم مرتاحون لك.

مرتاحون لي؟ لم نتبادل جملة حوار واحدة، لكنهم يشعرون براحة معي .. لم يرد أن يثب السؤال التالي إلى فمه لكن السؤال انزلق برغمه:

-ـ ورشدي، هل كان يعرف؟ ربما لم يصدق كما قلت أنت، لكن هل كان يعرف؟

في غموض قال عم إسماعيل:

– ثمة أشياء لا تسأل عنها .. فقط اجلس معهم وأصغ لكلامهم.. وعند الفجر ينتهي كل شيء. دعك من أن هذا لا يتكرر كل ليلة.

هنا دوى صوت مرعب كأنه زئير أسد .. ارتجت الحديقة للصوت، وكان نجاتي يعرف أن الأسود تزأر ثلاث مرات قرب الفجر .. ذلك الصوت المميز الشبيه بهدير محرك. هذا هو نفس الصوت تقريبًا ..

قال إسماعيل في شيء من الارتباك:

-ـ عائلة الزناتي قد جاءت .. أنصحك أن تؤجل هذا الحديث لما بعد.

وقبل أن يفسر شيئًا كان قد أطفأ مفتاح الكهرباء وغادر قاعة المتحف متجهًا إلى فرجة الأشجار التي شهدت الاجتماع. خرج نجاتي لاحقًا به وقلبه يتواثب.

هناك في موقع الاجتماع وقف خمسة أشخاص منهم من له شعر كثيف منكوش ثائر .. هناك اثنان قصيرا شعر الرأس. بعبارة أدق هناك أنثيان. بدا غريبًا بعض الشيء أن يكون شعر الرجال ثائرًا طويلاً وشعر النساء عكس ذلك .. المخيف أن صوتهم غريب يذكرك فعلاً بالزئير.

كان إسماعيل يرحب بالقادمين في توتر:

-ـ مرحبًا (بأجدع ناس).. كنا ننتظركم في شغف.

قال أحد الذكور من طويلي الشعر:

– صار لك تابع جديد بعد من مات.

قال إسماعيل بصوت مبحوح:

-ـ ليس تابعًا .. هو زميل شاب ..اسمه نجاتي .. وهو شاب شهم من كفر الشيخ .. له زوجة وطفلان بالمناسبة.

لماذا يذكر أنه متزوج؟ بدا شيء من التوسل في لهجته. يذكرك بمن يحكم عليه بالإعدام وهو يتوسل كي يرحموه لأن لديه أسرة ..

-ـ مرحبًا نجاتي!

هز نجاتي رأسه محييًا وازداد توترًا ..

كان قد كوّن نظريته المتكاملة عن الموضوع. هذه الحديقة (بسم الله الرحمن الرحيم) كما قال إسماعيل .. مكان مسحور أو ملعون. واضح تمامًا أن هؤلاء حيوانات!.. نعم حيوانات اتخذت صورة البشر وغادرت أقفاصها. جابر يذكرك بالضباع جدًا .. درية وسامح قريبان من الفهود .. هناك رجل له شدق طويل يذكرك بالتمساح .. وماذا عن المجموعة الضخمة التي تذكرك بالخراتيت؟.. أسرة الزناتي .. من الغبي الذي لا يتخيل أنهم أسرة من السباع غادرت أقفاصها؟ ..

أنت في مأزق يا نجاتي .. مأزق حقيقي ..

رشدي – بلا شك – واجه هذا الموقف من قبل، ولم يستسلم لنصائح إسماعيل. لقد استبد به الذعر فلقي عقابه. وأنت؟ هل تتحمل؟

يتبع