إن كانت هناك علامة بارزة لعقد التسعينيات الجاف، فهي بكل تأكيد المسلسل الكوميدي «Friends». المسلسل الكوميدي الأشهر على مستوى العالم، الذي حقق مستويات من النجاح أعجزت الكثيرين عن مجاراتها أو حتى الاقتراب منها. العمل الذي اقترن بوعي ومشاعر أجيال كاملة ما يربو على العقدين من الزمان. المسلسل الذي يتبارى عشاقه في عدد مرات مشاهدته بتجاوزها الرقم العشري.

قبل خمسة أعوام كتبت الكلمات السابقة في مقدمة مقالي عن مسلسل «Friends». كنت في ذلك الوقت – ولا أزال – أحد أكبر معجبي المسلسل، وكان عدد مشاهداتي للمواسم العشرة قد تجاوز بالفعل الرقم العشري، قبل أن أتوقف عن العد وإن لم أتوقف عن إعادة المشاهدة.

ينتمي مسلسل الأصدقاء إلى عالم مغاير بالكلية، فهو القادم من عوالم ما قبل الهواتف الذكية، ومواقع التواصل الاجتماعي، والمنصات الإلكترونية، عالم يسيطر عليه التلفزيون، وتعتبر الوحدة الحسابية في أبحاث التسويق التلفزيوني هي الأسرة الكاملة الملتفة حول هذا التلفزيون، وليس المستخدم الفرد لإحدى تلك المنصات الإلكترونية. عقدان ونيف تفصلنا عن بداية عرض المسلسل الأيقوني، ولكنه تحول إلى عمل كلاسيكي بامتياز.

بالأمس، وبعد 17 عاماً على الموسم العاشر والأخير من المسلسل، عرضت منصة HBO Max، الذراع الإلكترونية للشبكة التلفزيونية الشهيرة، حلقة خاصة امتدت قرابة الساعتين، جمعت كل نجوم المسلسل الستة، وجاءت تحت عنوان «الأصدقاء: لم الشمل». للمرة الأولى منذ سنوات طويلة تجتمع على الشاشة الوجوه الستة الأكثر شهرة على مستوى العالم، بعد أن اعتلتها بعض التجاعيد، وأصاب الشيب رؤوس أصحابها، ولكن رغم ذلك، بدا وكأنها استعادت سمتاً سحرياً لا يتوفر إلا باجتماعها، وتحولت الحلقة بالكامل إلى كبسولة زمنية سافرت بالملايين حول العالم إلى النصف الثاني من التسعينيات والنصف الأول من الألفية.

بين الحميمية والنوستالجيا

أول الأسئلة التي تتبادر إلى الذهن لدى مشاهدة الحلقة الخاصة، من أين اكتسبت هذه الحلقة كل هذا الزخم الجماهيري على مستوى العالم؟ ما الذي يميز عودة أبطال أحد العروض التلفزيونية إلى الشاشة مرة أخرى؟ وما الذي يميز عودة أبطال Friends عن غيره من الأعمال الشهيرة التي تنتمى إلى الحقبة نفسها؟

فلننظر مثلاً إلى مسلسل «ساينفيلد» أحد الأيقونات التلفزيونية، والذي ينتمى إلى نفس الفترة الزمنية، والذي شهد هو الآخر عودة لأبطاله من خلال مسلسل آخر هو «Curb Your Enthusiasm» عبر موسمه السابع الذي عرض عام 2009، وخلال مجموعة من الحلقات ظهر فيها الأبطال الأربعة للمسلسل في حبكة تتمركز حول عودة الأبطال إلى تصوير حلقة خاصة من المسلسل. بالطبع أحدثت هذه الحلقات صدى جماهيرياً كبيراً، لكنها لا تقارن بأي حال بتلك الضجة الكبيرة التي صاحبت عودة الأصدقاء.

اقرأ أيضا: كيف غيَّر مسلسل «Seinfeld» وجه الكوميديا الهزلية؟

ربما تكون الإجابة السهلة والسريعة هي في هذا الكم من مشاعر النوستالجيا والحنين إلى الماضي التي تسيطر على أجواء الحلقة، ولا نبالغ إن قلنا إن عملية الإنتاج بالكامل اعتمدت على هذه التيمة. تبدأ الحلقة من لحظة نهاية المسلسل، عندما تتوقف الكاميرا على لقطة للإطار الفارغ المعلق على باب شقة مونيكا ورايتشل. تظهر على الشاشة كلمات «بعد 17 عاماً» ثم تتراجع الكاميرا إلى الخلف فيظهر الجانب الخفي من الاستديو، ويدخل أول الأبطال ديفيد شويمر (قام بدور روس).

يتوافد الأبطال تباعاً، ونتجول معهم داخل الاستوديو الشهير، ونراقب ردة فعلهم تجاه كل ما حولهم. نسمعهم يتبادلون حواراً عاطفياً عن ذكرياتهم مع المكان. نشاهد من جديد الجلسة الشهيرة لجوي وتشاندلر على كرسي «الولد الكسول». تداهمنا الكثير والكثير من الذكريات وما التصق بها من مشاعر المشاهدات المتفرقة لأكثر من 200 حلقة تلفزيونية، فتتحول الحلقة من لم شمل الأبطال إلى لم شملهم بالمعجبين حول العالم.

لنذهب إلى سؤال أكثر تأسيساً قد يساعدنا أكثر على الفهم. ما الذي ميز هذا المسلسل عن غيره الكثير؟ ما الذي جمع كل هؤلاء المعجبين من مختلف الثقافات والجنسيات ممن استعرضت الحلقة الخاصة بعضهم على الشاشة، هذا من غانا، وذاك من الهند، وتلك من فرنسا، وهؤلاء من كوريا الجنوبية، ما الذي جمع كل هؤلاء الأشخاص المختلفين على حب مسلسل أمريكي؟

يدور المسلسل حول ستة من الأصدقاء يعيشون في مدينة نيويورك في منتصف التسعينيات. بعضهم يتشارك السكن نفسه، ويقضون الكثير من الوقت بإحدى المقاهي، يتقاسمون الأفراح والأتراح والأحلام والمخاوف، وشيئاً فشيئاً تتطور علاقتهم من الصداقة إلى الأخوة، ويصيرون كأنهم عائلة واحدة. تدور جميع الأحداث في سياق أسلوب الحياة الأمريكي إلى الحد الذي تصبح فيه حياتهم هي المعادل الموضوعي للحلم الأمريكي على حد وصف إحدى المعجبات في الحلقة الخاصة.

في إحدى الحوارات تقول مارتا كوفمان، مبدعة المسلسل، إن الفكرة الرئيسية تمركزت حول تقاسم البطولة بين مجموعة كبيرة نسبياً من الأبطال، وليس بطلاً واحداً، وهو ما مثل أحد عوامل التجديد التي يشهدها هذا النوع من الأعمال التلفزيونية للمرة الأولى، وهو ما سارت عليه مجموعة كبيرة من الأعمال اللاحقة مثل HIMYM، وThe Big Bang Theory.

يضاف إلى ذلك التوفيق الكبير في اختيار أبطال المسلسل الستة، وملاءمة كل منهم للشخصية التي يؤديها. ستة من الممثلين ذوي الجاذبية المفرطة، على قدر كبير من القبول وخفة الدم، وعلى قدر أكبر من التفاني في أداء المشاهد الكوميدية لا سيما الجسدية منها، كلها عوامل كفيلة بنجاح أي عمل، ولكن حين يضاف إليها الوصفة السحرية المتمثلة في التوافق الشديد بين الممثلين الستة، يتجاوز هذا النجاح حدوده المحلية إلى أخرى عالمية، ويتضاعف أثره إلى الحد الذي يجعل من العمل نفسه ظاهرة ثقافية عالمية.

على مدى سنوات طويلة عكف الجميع على الإشارة إلى ذلك التوافق النادر بين أبطال المسلسل بـ«الكيمياء الخاصة» التي جمعت بين شخصياتهم المختلفة في الواقع وعلى الشاشة. علاقة الصداقة الحميمية التي جمعت بين الأبطال الستة في الواقع أضفت مصداقية نادرة على شخصياتهم التلفزيونية. نعرف خلال الحلقة الخاصة أن الأبطال الستة اعتادوا تناول الوجبات الغذائية معاً أثناء التصوير، وفي مناسبة أخرى يحكي مات لو بلانك (قام بدور جوي) أنه في أي مناسبة لاحقة على المسلسل جمعت أياً من الأبطال الستة في مكان واحد كان ذلك يعني أن ينفردوا بعضهم ببعض حتى نهاية السهرة أو المناسبة. ولكن ليس هناك أدل على قوة العلاقة التي جمعت الأبطال الستة من اتفاقهم الجماعي على الرواتب.

في سابقة أولى من نوعها، اجتمع الأبطال الستة على توحيد الاتفاق المادي مع شبكة NBC بداية من الموسم الثالث، وهو ما يعني أن يتنازل اثنان منهم عن فارق الراتب، وهما جينفر أنيستون وديفيد شويمر، بل إن الأمر بلغ إلى حد التفاوض على أكبر أجر أسبوعي شهده التلفزيون حتى حينه، عندما اتفق الأبطال الستة على راتب ضخم بلغ مليون دولار أمريكي في الحلقة الواحدة بداية من الموسم السابع للمسلسل، وهي السابقة التي تكررت مرة وحيدة منذ ذلك الحين حينما اتفق الأبطال الثلاثة الرئيسيون بمسلسل The Big Bang Theory على توحيد اتفاقهم المالي مع شبكة CBS المنتجة للمسلسل.

حلقة متوسطة ونجاح عظيم

كل هذه العوامل التي كفلت لمسلسل الأصدقاء نجاحاً عالمياً غير مسبوق، وحشدت له المزيد من الجماهير والمعجبين مع كل عرض جديد، إذ تجاوز مجموع مشاهدات المسلسل على المنصات المختلفة 100 مليار مشاهدة كما جاء على لسان الممثل الإنجليزي جيمس كوردن في الحلقة الخاصة. هذا النجاح العظيم هو ما كان سبباً وراء طرح فكرة العودة مرة أخرى لسنوات عديدة، وهو الإغراء الشديد الذي قاومه أبطال المسلسل لسنوات اعتقاداً منهم أن أي محاولة لإعادة الشخصيات إلى الشاشة ستفسد ولا شك من النهاية الجميلة والسعيدة للمسلسل قبل 17 عاماً، ولهذا جاءت العودة في صورة حلقة خاصة جمعت بين الشكل الوثائقي وشكل البرامج الترفيهية الأمريكية.

يمكننا القول إن الحلقة خرجت بشكل يقل كثيراً عن توقعات الملايين من المعجبين حول العالم، وإن لم تصل في الوقت نفسه إلى درجة الإحباط. عودة الأبطال الستة للاجتماع للمرة الثانية فقط خلال 17 عاماً كما قررت الكلمات المطبوعة على الشاشة في بداية الحلقة، كانت كفيلة بسبر أغوار الجمهور. رؤيتهم داخل الاستديو الشهير، وحديثهم الخاص حول مشاعرهم وذكرياتهم وعلاقة الصداقة التي جمعتهم خلف الكواليس، وكذا رؤية عدد من الشخصيات الثانوية المحبوبة مثل الأبوين جيللر، وجانيس، ومستر هيكلز، وجانثر، وريتشارد، جلسات القراءة التي أعادت إحياء عدد من أشهر المشاهد في تاريخ المسلسل، كلها لاقت استحسان الجمهور الوفي. الجانب الوثائقي أيضاً، وإن لم يحمل الجديد لعشاق المسلسل ممن يحفظون كل أخباره عن ظهر قلب، كان موفقاً إلى حد كبير.

أما الجانب الآخر من الحلقة والذي استمد الشكل التقليدي للبرامج الترفيهية الأمريكية على شاكلة برامج جيمي كيميل، وجيمي فالون، وإيلين ديجنريز، فلم يكن على نفس القدر من التوفيق. بداية من الاختيار الغريب للممثل الإنجليزي جيمس كوردن للقيام بدور المحاور، والذي مالت أسئلته إلى التقليدية والابتذال في كثير من الأحيان. أسئلة من نوعية: ما هي حلقتكم المفضلة؟ ما هو رأيكم في انفصال روس ورايتشل؟ ومن هو صاحب الضحكة الأعلى صوتاً؟ كلها أسئلة لم تكن بأي حال على قدر الحدث. كذلك ظهور المطربة الشهيرة ليدي جاجا واشتراكها مع الممثلة ليسا كودرو في أداء الأغنية الأيقونية Smelly Cat، أو عرض الأزياء المصغر لأشهر الأزياء التي ظهرت بالمسلسل، كانت من أضعف فقرات الحلقة على الإطلاق.

ربما كان من الأفضل أن تتناول الحلقة جانباً من حياة الأبطال بعد المسلسل، أو أن يكون هناك تناول جاد للأثر الثقافي الهائل الذي مثله المسلسل على المستوى العالمي، والذي شاهدنا إحدى مظاهره في لقطات قصيرة لعدد من معجبي المسلسل حول العالم، ومدى الأثر الذي تركه المسلسل الشهير في نفوسهم، والعلاقة الحميمية التي ربطتهم بأبطاله.

على الرغم من كل المآخذ التي قد نراها في الحلقة الخاصة، فإننا لا ننكر بأي حال أنها مثلت حدثاً استثنائياً وفريداً من نوعه، وكانت حلقة عاطفية في المقام الأول، غلفتها النوستالجيا والحميمية والمشاعر الصادقة التي ربطت الملايين حول العالم بستة شخصيات تلفزيونية وأصحابها، وأعادت إلى الأذهان أحد أكبر رموز العولمة في عصر ما قبل ثورة الهواتف الذكية والمنصات الإلكترونية، وجددت العهد بأحد أهم الأعمال التلفزيونية في التاريخ الإنساني كله.