مفتتح

منذ أكثر من خمسة عشر عاماً كانت المرة الأولى التي أمتلك فيها هاتفاً يستطيع الغناء، أول ما فكرت فيه هو أن أضع أغنية مسلسل Friends نغمة لهاتفي. لم أكن وحدي، صديقتي الأقرب وقتها كانت تمتلك هاتفاً من نفس الموديل، هي الأخرى وضعت نفس الأغنية رنة لهاتفها، لم نكن نفترق، كنا نتبادل الأقراص المدمجة والكتب وقفشات المسلسل. المرة الأخيرة التي رأيت هذه الصديقة فيها كانت في حفل زفافي منذ حوالي سبع سنوات، كانت مقابلة «لم شمل» بعد فراق سنوات، يومها عرفت أن كل الأشياء الجيدة لا بد أن ننهيها بأنفسنا كي نحافظ عليها، وقد كانت تلك هي نهاية علاقتنا فعلاً.

كيف أنقذ مسلسل «Friends» حياتي؟

منذ ما يقرب من عشر سنوات جلست فتاة في النصف الأول من عشرينياتها على فراشها بعد أن تفسخت أوصال حياتها تماماً على مدى شهور طويلة، تركت عملها تواً لأجل فرصة براقة لم تتم، ناجية من مأساة إغريقية لا تعرف كيف خرجت منها قطعة واحدة ومحتفظة بعقلها، بجانبها حقيبة سفر معدة في انتظار المكالمة التي سوف تنقذ ما تبقى من حياتها، والتي لم تأتِ أبداً، ساهمة، لا تمتلك أي شيء ولا تثق في أي شخص.

تمد يديها لجهاز الكبيوتر المحمول، تبحث على الإنترنت عن موقع يمكنها من مشاهدة أي شيء، تجد موقعاً يحتوي على كل مواسم مسلسل «Friends» دون ترجمة ودون إمكانية التحميل. تظل على فراشها لمدة ثلاثة أسابيع تشاهد المسلسل دون توقف تقريباً، كانت تلك هي المرة الأولى لها في مشاهدته كاملاً وبالتتابع، كانت تحفظه تقريباً من مشاهدات متفرقة، ولكنها ظلت حبيسة الفراش طوال المدة التي استغرقتها لمشاهدته كاملاً.

بعد الثلاثة الأسابيع، نهضت الفتاة من فراشها، وبطريقة ما سحرية لا تتذكرها تماماً كانت الأمور عادت إلى نصابها. تلك الفتاة كانت أنا، أتذكر أنني بعد الثلاثة الأسابيع حصلت على عمل جديد – كان سيئاً للغاية ولكنه عمل على كل حال – وأفرغت حقيبة السفر، وغيرت خطتي تماماً. دارت عجلة حياتي التي كانت معطلة، وتركت عملي السيئ والتحقت بعمل آخر جيد جداً، وقابلت شاباً لطيفاً جداً وأصبحنا أصدقاء بسرعة، أحببته ثم تزوجته فيما يشبه للغاية قصة فيبي بوفيه، التي كانت شخصيتي المفضلة في المسلسل، والتي كنت أرى فيها نفسي بشكل ما بكل خرقها وتعقيداتها و«أفورتها».

 كانت تلك هي المرة الأولى التي أنقذ فيها «الأصدقاء» الستة حياتي، كنت أشعر وقتها أنني على وشك فقدان عقلي من الانهيارات المتلاحقة، ولكن مشاهدتهم على الشاشة كانت تبقيني على قيد الحياة، تشتت انتباهي عن مشاكلي الكبيرة التي كانت تحتاج فقط الصبر والمرونة. كنت أحتاج استراحة أقنع فيها نفسي أنني لست محور الكون، وأنني لست المتحكمة في كل شيء، وأنني يجب أن أترك الأمور تسير وحدها دون أن أهلع لأنها لا تمشي في المسار الذي خططته لها، كنت أحتاج إلى شيء ما يشتت انتباهي، ولكنه يبقي عقلي يقظاً، وقدم لي مسلسل «Friends» هذه المساعدة الكبيرة.

بعدها بعدة سنوات كنت حاملاً في شهوري الأولى، حملي لم يكن صعباً، ولكنه هوس السيطرة مرة أخرى. أغضب لأنني متعبة، أغضب لأنني لا أستطيع أن أتحكم في مشاعري، وأغضب جداً لأنني كنت في شهوري الأولى أشم رائحة كريهة لا أعرف مصدرها، والتي اكتشفت وقتها أنها ليست موجودة أصلاً، ولكنها أحد أعراض الوحم المشهورة. أغضب جداً لأنني أشعر بالاشمئزاز من الرائحة التي تحيط بي من كل الجهات، والتي تأتي من داخل عقلي، أشعر بفقدان السيطرة تماماً وأن عقلي يخدعني، أبدأ في مشاهدة «Friends» كاملاً وبالتتابع للمرة الثانية، على فراش آخر في مدينة أخرى بحياة مختلفة تماماً، ولكن نفس المسلسل ينقذني مرة أخرى.

بعد عدة سنوات أخرى تأتي جائحة كورونا لتفقد كل البشر كل التحكم في كل شيء، أظل حبيسة المنزل أنا وطفلي لشهور طويلة، يأكلني القلق حية على زوجي الذي يعمل في المجال الطبي، يذهب لعمله كل يوم وأظل أنا في المنزل أشعر أنني يجب أن أفعل شيئاً ما لأتقبل ما يحدث، أتقبل أنني لا أستطيع أن أمنعه عن الذهاب إلى عمله، وأن العالم كله يعاني نفس القلق الذي أعانيه، أتقبل أن طفلي يشعر بالاختناق من جو المنزل ويريد أن ينطلق ليرى العالم، أتقبل أنني لا أستطيع أن أطمئن على أهلي ولا أن أرى أياً ممن أهتم لأمرهم، كان هذا هو الوقت الذي فعلنا فيه اشتراكنا على منصة نتفلكس، وكان أول ما فعلته أن أمسكت بالريموت كنترول لأبحث عن الحل، ووجدته، مسلسل «Friends» كاملاً ومتاحاً على بعد كبسة زر واحدة.

لماذا كان لم الشمل ناجحاً؟

في كل عام تقريباً تسري شائعة أن الأصدقاء الستة سوف يجتمعون مرة أخرى لتقديم فيلم أو حلقة من المسلسل، في كل عام يتبادل رواد السوشيال ميديا الخبر الذي يتضح بعد ساعات أنه إشاعة، بل إشاعة قديمة يبتلعها جمهور المسلسل في كل مرة، ولكنها لم تكن تلك المرة إشاعة، اجتمع الأصدقاء الستة ليتحدثوا عن ذكرياتهم، وليسمعوا تصفيق الجمهور مرة أخرى وأخيرة. رأينا مارثا كاوفمان – التي وقعت في غرامها بالمناسبة بشعرها الفضي وعينيها الذكيتين وقوامها الممتلئ ومظهرها المريح – وديفيد كرين اللذين قدما لنا معظم ذكريات شبابنا في عشرة مواسم، وضيوفهما من الشخصيات الثانوية التي امتلأ بها المسلسل، والذين شاركوا في الحلقة بمشاركات خفيفة وقصيرة ومؤثرة.

كانت حلقة ناجحة جداً لأننا استوعبنا أخيراً أننا كبرنا للغاية. نحن نعرف المعلومة بالطبع، ولكنها أصبحت يقيناً بعد مشاهدة كورتني كوكس/مونيكا جيلر لا تستطيع التعبير بوجهها من فرط البوتوكس المحقون بداخله، ورأينا كرش مات لو بلانك/جوي يطل علينا مع ابتسامته الجميلة، وانكسر قلبنا تماماً وتفتت في كل مرة نطق فيها ماثيو بيري/تشاندلر أو توجهت الكاميرا نحوه، كبرنا فعلاً عندما استشعرنا التوتر بين جنيفر أنستون/ريتشل وديفيد شويمر/روس اللذين حكيا عنه بأريحية للمرة الأولى، وكبرنا يقيناً وللأبد عندما صرحت ليسا كوردو/فيبي بأنه لا يمكن بأي حال أن يجتمع الستة في أي ملحق بالمسلسل لأسباب كثيرة، ختمتها بأنه «لا يمكن لامرأة في مثل عمري أن تظل خرقاء.. لقد حان الوقت للنضوج.. كان يجب أن أكبر».

كان لم الشمل ناجحاً لأنه وبعد سبعة عشر عاماً من اجتماعهم للمرة الأخيرة أثبتوا لنا مرة أخرى أنهم حقيقيون جداً. جوي كبر ليصبح رجلاً متسقاً جداً مع ذاته، ابتسامته ابتسامة رجل «مرتاح»، فعل كل ما يريد أن يفعله وهو راضٍ تماماً عن نفسه رغم أنه لم يعد فاتناً للنساء. وروس حافظ على سحر الذكاء والرصانة، والفتيات كبرن ويحاولن بكل طريقة أن يحافظن على ما بقى من فتنة. أثبتوا لنا أيضاً أن أكثر من يضحك ينتهي به الأمر إلى مأساة، كان هذا حقيقياً جداً، كلهم كانوا حقيقيين أكثر من اللازم، وإذا فتش أي منا عمن شاركوه ذكرياته قديماً مع المسلسل فلا بد سيجد أحد تلك الشخصيات، ربما لو نظر في المرآة الآن بالتحديد فسيقابل أحدهم يطل عليه من الجهة الأخرى.

خاتمة

كما جمعني المسلسل بالصديقة القديمة منذ ما يقرب من عقدين من الزمن، ومثل ما حدث في حلقة لم الشمل، أعرف أنني لو قابلتها فسوف نضحك كثيراً جداً، لن نتحدث عن أي شيء سوى الفتاتين الصغيرتين اللتين كناهما، سوف نستعيد ذكريات غالية جعلتنا ما نحن عليه اليوم، ثم سنفترق دون أي وعود مستقبلية كاذبة.