هل ازداد الوعي العالمي لترك النزاع والتنافس على الاقتصاد والتسلح المؤدي إلى الحرب العالمية كما هو الحال في العقود المنصرمة؟ وهل لجؤوا إلى حل لتفريغ طاقاتهم على شكل حرب بالوكالة؟ وهل الدول والمليشيات صاحبة الدور الوظيفي سيكون لها مكاسب من هذه الحرب الاستنزافية؟ فبالنظر إلى التوازنات الدولية، لا يُستشف منها وجود قوى تنتج توازنًا كافيًا لإقامة حرب كهذه، عوضًا أن يكون الوعي – المذكور آنفًا – موجودًا!

فالاتفاق الأخير بين روسيا وتركيا – على سبيل المثال – يطرح علينا هذا التساؤل المتشعب؛ ما هو المغنم الذي ستحصل عليه أمريكا من اتفاق الأستانة؟ أو هل ستترك أمريكا روسيا لتظفر بسوريا؟ وبلغة أخرى هل تشكل تفرعات PKK المدعومة من أمريكا حجر عثرة على طريق الاتفاق التركي الروسي؟ وما هو دور إيران ضمن هذه القضية؟

تساؤلات نحاول الإجابة عليها في سياق الحديث.


إيران: التوازي بين العسكري والسياسي

قامت إيران الخميني ضمن مفاهيم ثورية، وهذا لا يعني أن العلاقات الخارجية التي صنعها الخميني لإيران كانت كالداخلية تُبنى على الثورية، إنما كان الخميني سياسيًّا من الطراز الأول، وتخطى حرب الثماني سنوات بتطوير البلاد مقابل الاحتلال الذي حل على جاره العراق – كإحدى نتائج حنق الغرب عليها – والذي جعل إيران تتعدى أهم الخطوات حساسية في مراحلها السياسية.

لذلك فإننا نفترض أن الأصل في نشوء العلاقات الخارجية الإيرانية مع الغرب هو المبدأ السياسي، ولكن إيران في السنوات الأخيرة بدأت تنتهج سياسة مختلفة تجاه مصالحها في الشرق الأوسط، ألا وهو استخدام القوة العسكرية في الوصول إلى تحقيق هذه المصالح، أي أن العلاقة بين السياسي والعسكري عندها هو التوازي. وهذا التغير في لون السياسة جعل القوى العالمية تنظر إليها أنها ذات دور وظيفي آني غير مستدام لتحقيق هدفها في المنطقة، أي أن إيران تنتقل بهذا التغيّر إلى الخطوط الأمامية من الحرب الاستنزافية.

وما يشبه إيران كذلك، الدور الوظيفي للجماعات المتفرعة عن تنظيم PKK، وكذلك تنظيم داعش، فكان الهدف الأكبر من وجود التنظيمات التابعة للعمال الكردستاني هو المناكفة العسكرية للسياسة الإقليمية بالدرجة الأولى ضد تركيا، والثانية لتهديد وحدة الأراضي السورية، والتي تضر بطبيعة الحال بنسب متفاوتة شركاء النظام السوري.

وأمّا داعش فكان له دورٌ وظيفيٌّ – سكتت عنه أمريكا – في تخريب الثورة السورية، والتوحيد النسبي لجبهة الحشد الشعبي، الذي يحتوي على عشرات الرايات، والتي قد تتفرق على مصالحها، لولا وجود تنظيم داعش – الذي لطالما تم استعماله إعلاميًّا في سبيل هذا التوحيد – الذي يعتبر مفتاح اتفاق القوى العراقية الشيعية، والمعرض للسقوط بلحظة تحرير الموصل، والذي سيرمي العراق عندها لمزيد من مستنقعات الدمار.


العراق نموذجًا

http://gty.im/474833830

وجود الجنرالات الإيرانيين علامة «عدم ثقة» بالقيادات العراقية، لتوحيد جبهتهم، ولا ننسى الحركة المضادة غير المرضية لإيران في سوريا، ألا وهي إعلان التنسيق الجوي بين القوة التركية والروسية، وهذه القضية مهمة لإيران، وقد تكون مستفزة؛ بسبب أن إيران لم تحثّ روسيا لتتدخل في سوريا، حتى تأتي لتنسق طلعاتها الجوية مع تركيا، فنقطة الضعف العملاقة لإيران هي وجود طائرات قد تهدد جمعها – الحشد صاحب المصالح المختلفة – في سوريا!

ولا يجب كذلك أن نتخيل أن الوضع العراقي الداخلي منتظم في صالح إيران، فالوضع في العراق متأزم وهش، وهذا يؤثر على تقدمها على الجبهة السورية، وعلى سبيل المثال؛ ما تواجهه إيران من وجود حكومة عراقية مشتتة بين طمع المالكي الذي يحاول الصعود مرة أخرى إلى سدة حكم العراق، وعناد رئيس الوزراء العبادي.

فنزول مستوى إيران كدولة إقليمية، إلى مستوى المليشيات المسلحة، والتي تستغل سياسيًّا وعسكريًّا، كداعش، والتنظيمات PYD \ YPG، وبروز ضرورة وجود دولة إقليمية لا تنتهج هذا المستوى من الدور الوظيفي، جعل روسيا – صاحبة الدور الكبير في سوريا -، تبحث عن أخرى ذات سياسة متوازنة، ألا وهي تركيا، وهذا قد يفسر الاتفاق بينهما، والذي يوحي لإيران أن ترجع عن طريقها بحيث تجعل القوة العسكرية تابعة للسياسية، لا أن تحركها بالتوازي مع السياسة.

اقرأ أيضًا:غزو العراق: هدية أمريكا لملالي إيران

تركيا كانت قد بدأت مشوارها في الصعود على نحو السياسيّ، ولم يكن يحركها العسكري وفق أجندة غير مشروعة، إنما ضمن الهدف المشترك العام في الحرب على تنظيم داعش، وحماية الأمن القومي الخاص بها دونما تقرير لأي هدف استعماري، وبالتالي يعتبر الأساس التركي في تكوين مصلحتها هو الأساس السياسي، وهو المحرك الرئيس للقوة العسكرية، فالعسكري تابع للسياسي على التوالي.

ولعل تركيا حققت جزءًا من التحدي الأول ضمن إطار عملية درع الفرات، ألا وهو الأمن القومي، في تحرير حوالي ألفين كم مربع، بالإضافة إلى استمرار التحدي الثاني، وهو منع تأسيس كيان في الشمال السوري، والذي جعل أمريكا لا تقدم مزيدًا من الدعم لتركيا في تحرير الباب، ذلك أنها ستشكل مدخلًا إلى منبج، والتي تقبع بها المليشيات الكردية التي تريد أمريكا استعمالها في الرقة، ومن هنا تبرز مصلحة أمريكا التي لا يمكن إهمالها في الاتفاق الروسي – التركي، ولذلك فتركيا ستوازن الآن بين عملية درع الفرات، واتفاق الأستانة، كطرفي ميزان، ضمن المساومات السياسية مع أمريكا، وهنا عقدة الأمر بالنسبة لأمريكا.

اقرأ أيضًا:درع الفرات: قراءة شاملة من جرابلس إلى الباب

ولعل الخطاب الأخير للجماعات الكردية الذي يبين استعدادهم للتفاوض مع الحكومة التركية، ناشئ من الضغوطات الأمريكية عليهم، هو أحد أصابع المصالح الأمريكية لاستباق قطعة من سوريا، ويدل كذلك على عدم التأثير الكبير لهم على الأرض السورية، أي أنهم الآخرون وظيفيون يُستخدمون للضغط، ومن غير المحتمل أن يصلوا إلى تحقيق غايتهم في صناعة حلمهم، وأن أمريكا ستستخدمهم في «أستانة»، إن لم يكونوا طرفًا في الحوار، فسيكون لهم عمل على الأرض.

فالإعلان اﻷخير الذي أفاد بمشاركة أمريكا في «أستانة» قد يؤدي إلى إعطائها نوعًا من الثقل في المفاوضات، ولكن ورقة المنظمات الكردية ستبقى في يد أمريكا لتضمن الضغط بها، وقد نقوم بإحصاء عدة مصالح مستفادة للولايات المتحدة الأمريكية، قد تحاول التحرك عليها ضمن اجتماعها في مؤتمر الأستانة، تتلخص في؛ كشف عورات التحالف الروسي – الإيراني، ومحاولة الزج بالمزيد من البلدان إلى الخطوط الأمامية من الاستنزاف، وعدم تقديم إطار واضح لمحاربة تنظيم داعش، بحيث يحقق نوعًا من الاستنزاف في هذه الحرب، وكذلك المحافظة على وجود التنظيمات الكردية لكي يبقى الجرح ملتهبًا، والأهم من ذلك سعي أمريكا لعدم نيل كل من الدول الوظيفية – كأولوية – على أيّ من أهدافها في هذه الحرب، وهذا ما قد نراه من الإدارة الأمريكية الجديدة.