تحتاج أكثر من عينين وعقل لتقرأ «مئة عام من العزلة»، أشهر روايات «جابرييل جارسيا ماركيز»، تحتاج قلمًا ورسمًا تخطيطيًا لتتمكن من متابعة الأجيال، في طبعاتها الجديدة ستجد رسمًا توضيحيًا في نهاية الكتاب لشجرة العائلة التي تدور حولها الرواية، تحتاج أن تفتح تلك الصفحة الأخيرة لتتأكد أنك تتابع الأحداث جيدًا لتعرف من قام بفعل ماذا بالضبط، ورغم زخم الرواية بالأحداث والأشخاص إلا أنك ستواجه عسرًا شديدًا في تتبع خيوطهم وستظل أفكارك تتمحور حول شبح الجد العجوز الذي يجلس وحيدًا تحت الشجرة، وربما تنسى الآخرين تمامًا ما عداه.

تحتاج أكثر من عينين وعقل وقلم ورسمًا توضيحيًا لتتبع حياة «جابرييل جارسيا ماركيز»، الأديب الكولومبي الحاصل على جائزة نوبل في الأدب، الرجل الذي يكتب عوالم خيالية جدًا وواقعية في نفس اللحظة، الذي يكتب عن الحب والوحشة والإنسانية والعزلة بنفس الاحترافية، هذا رجل عاش ليروي، وكأنه رغم كثرة ما عاش لم يخرج من عقله قط، فكتب عن كل الأشياء التي يعيشها البشر ويحسونها من داخل غرفة مغلقة لم يدخلها سواه، رغم أنه كان وسط الكثيرين طوال حياته.

في البدء كان الخيال

عاش «ماركيز» حياة صاخبة، قبل حتى أن يولد، فعلاقة «لويسا سانتياجو» أمه من «جابرييل إيليخيو» أبيه قوبلت بالرفض في البداية، فقد كان أبوه عامل تلغراف بسيط لا يليق بابنة أحد ضباط الجيش المحافظين، فأبعدها أبوها ليقطع علاقتهما، واستمر الحب بينهما على هيئة رسائل تلغراف وخطابات ثم استسلمت عائلتها للأمر الواقع وتم تزويجهما.

كانت تلك القصة هي النواة التي بنى عليها ماركيز روايته الشهيرة «الحب في زمن الكوليرا» -رغم أنها لم تكن أول أعماله-، وفي الوقت الذي رضخت فيه عائلة أمه لهذه الزيجة لم يرضخ ماركيز لها وأصر أن يستكملها في خياله، فكتب عن شابين مثل أبويه تمامًا، أحبا بعضهما مثل أبويه تمامًا، وأبعدت الفتاة عن عشيقها مثل أبويه تمامًا، واستكمل الأسطورة في خياله ليصنع قصة مذهلة لا تأتي الحياة الواقعية بمثلها.

ربما كانت تلك القصة هي ما يميز «ماركيز» في الأساس، خلطه للعوالم الحقيقية والخيالية ليصنع شيئًا مختلفًا تمامًا، لا هو خيالي جدًا ولا هو واقعي بدرجة كاملة، هو يأخذ من كل حادث خيط، ويربط الخيوط جميعها في خياله ليصنع كتلة متشابكة لا يمكن لأحد أن يفكها بسهولة، يرفض النهايات الواقعية والأحداث العادية فيستكمل أحداث الحياة التي عاشها أو عايشها بأخرى من خياله لا تمت للواقع المعاش ولا الواقع الذي يمكن أن يحدث بصلة، ولذلك فقد استحق «ماركيز» المولود في مارس 1927 أن يبتكر أدبًا جديدًا يسمى «الواقعية السحرية»، ثم يعتمد العالم هذا المصطلح وهذا النوع من الأدب.

ثم كانت العزلة

لم يكن «ماركيز» معزولاً قط، بل كان متواجدًا في الحياة وبقوة، صحفي وكاتب ونشاط سياسي وصديق شخصي لرئيس كوبا «فيديل كاسترو»، وراغب في تغيير العالم، ولكنه في الوقت ذاته كان أفضل من يكتب عن العزلة ومنها.

عندما داهمت «ماركيز» فكرة عن كتابة رواية «مئة عام من العزلة» ظل معتكفًا في حجرته ثمانية عشر شهرًا، ثم خرج بعد أن انتهى منها، كان يعرف تمامًا أنه لو خرج للعالم ربما تضيع الخيوط من يديه، لن تستطيع قبضته أن تحافظ على كل حبات الرمال تلك وسط صخب العالم.

حتى عندما كان يتسلم أرفع جائزة أدبية على الإطلاق «نوبل» قال في خطابه إن العزلة هي ما يحصل عليه الإنسان عندما يحاول تفسير واقعه ونمط حياته. ورغم أن المعلومات عن «ماركيز» متاحة لكل من يريد أن يقرأ عنه، إلا أنك يجب أن تفكر كثيرًا حتى يمكنك أن تتوصل إلى الكيفية التي كان يعمل بها عقل الرجل، الرجل الذي رغم كل ما عاشه وكل ما نجح فيه إلا أنه كان يرى أن الكتابة هي الشيء الوحيد الذي يستطيع أن يفعله عندما أشيعت أخبار عن إصابته بالخرف.

كانت فكرة العزلة تسيطر على شخوص «ماركيز» الروائي، ربما تسيطر على «ماركيز» الإنسان أيضًا، ففي روايته «ذاكرة غانياتي الحزينات» مثلاً لا يمكنك إلا أن تشعر أنه لو كان الإنسان ليس معزولاً فعلاً ربما اختلفت مصائر الكثيرين، وكأن العزلة قدر محتوم في كل خطوط الحياة والحب والغواية وحتى السياسة.

عاش ليروي

لم تكن مذكرات «ماركيز» التي صدرت تحت عنوان «عشت لأروي» هي فقط التوثيق الوحيد للعالم الذي عاشه الأديب الكولومبي، فقد وثق «ماركيز» الكثير من الأحداث في رواياته حتى لو لم يسمّي الأشخاص بأسمائهم الحقيقية وحتى لو خلع عباءة الواقعية السحرية على الأحداث، تظل كل كتاباته تتضمن عالماً حقيقيًا مشحونًا بالصراعات السياسية والطبقية لوطنه ولأمريكا الجنوبية بشكل عام، هو بالفعل عاش ليروي كل شيء، بدءًا من قصص الحب مرورًا بالكولونيلات المتزمتين وصولاً لأوضاع البلاد المزرية ككل.

روايات «ماركيز» ليست أدبًا فقط، بل تاريخًا كاملاً، صادقًا جدًا لأنه لا يهتم باتهام أشخاص وتبرئة آخرين، هو يهتم بالإنسان فقط، قلوب البشر الذين يطحنون في خضم كل ما يحدث حولهم، وحتى بعد انتهاء عصر رواياته بأزمنة يمكنك أن تجد أشباهًا لك ولمن حولك يعيشون داخل كتبه، فالإنسان لا يتغير مهما تغيرت الأوضاع والأماكن، والعزلة لا تنقطع حتى لو أصبح العالم كله في حجم قبضة اليد.

توفي «جابرييل جارسيا ماركيز» في إبريل/نيسان 2014، وقد أعلن الرئيس الكولومبي الحداد عليه. ورغم أنه عاش سبعة وثمانين عامًا من الصخب والأحداث والنجاحات والألم، إلا أنه عاش كل تلك الفترة عزلة عجيبة في قلبه جعلته أول من يتحدث بكل هذا السحر رغم كم الواقعية المدهش الذي خاضه.