عام 1994 ترك «جورج آر مارتن» كتابة المسلسلات التلفزيونية وعاد مرة أخرى للأدب، حيث شعر بالسأم من تعامل المنتجين وطلباتهم المحددة التي تحدُّ من إبداع الكاتب وجموح خياله، وعدم تقديم ما يكتبه بالجودة المطلوبة، قرر العودة مرة أخرى للورقة والقلم، حيث لا سيد إلا قلمه، يكتب به ما يشاء ويصنع به ما يشاء، حيث يعطيه القلم حرية صناعة عالم موازٍ آخر، سأتحدث عن دور «تولكين» وتأثيره على جورج آر مارتن لاحقًا، من وجهة نظره أن الورقة والقلم هي ما يجعلك تفعل مثل ما صنعه تولكين في «سيد الخواتم»، حيث صنع عالمًا آخرَ كاملًا بجميع تصوراته وآلهته وحروبه وكائناته، أما السينما فهي لا تتيح تنفيذ هذا الجموح الخيالي بإتقان.

أول إنتاجه الأدبي بعد تركه للدراما كان رواية (لعبة العروش)، وهي الجزء الأول من ثلاثية مخطط لها بعنوان «أغنية الجليد والنار»، في بداية نشرها لم تلقَ الرواية النجاح الكافي، حيث لم يكن جورج آر مارتن معروفًا كروائي، ولكنها أعجبَت باعة الكتب المستقلين، الذين رشحوها للمشترين وشيئًا فشيئًا حققت الرواية نجاحًا باهرًا.

البدايات والجذور

سمي المقطع الموسيقي الأول من فيلم «عودة الملك» الجزء الثالث من ثلاثية سيد الخواتم ب ـ«البدايات والجذور»، حيث عرفنا كيف وقع «الخاتم» في يد «سيمجول» وكيف تحول من إنسان مسالم لهذا المسخ، ويجب علينا كذلك العودة لبدايات وجذور مارتين وكيف تحول لهذا الكاتب المغامر بأهم أبطاله، وما هي جذور رواية (أغنية الجليد والنار) المقتبس منها المسلسل التي كان سيد الخواتم أولها.كأغلب أطفال الغرب في تلك الفترة قرأ مارتن في صغره رواية سيد الخواتم، وتأثر بها تأثر شديدًا، وتحدث مارتن أكثر من مرة عن تأثره بمشهد موت «جاندالف»، وكيف صعق في لحظة موته، ثم صدمته حين عاد في المجلد الثاني من الكتاب، لم يرضَ كثيرًا عن العودة، كذلك عند الكبر شغلته فكرة كيف يظهر تأثره في كتاباته بسيد الخواتم دون تقليد أو محاولة نسخ، حيث عانى الأدب الفنتازي من محاولة نسخ دائمة لسيد الخواتم في وجهة نظر مارتن.الفكرة الثانية التي شغلت مارتن وهي فكرة كتابة التاريخ، فشغف مارتن بالتاريخ أراد ان ينقله ولكن بطريقة مختلفة، حيث من المعتاد نقل التاريخ وقصصه بصورة واقعية تاريخية بحتة، فأراد مارتين تغيير ذلك. كان مارتن شديد التأثر بحروب القرون الوسطى، خاصة ما يعرف بـ«حرب الوردتين»، فأراد نقلها في عمل أدبي ولكن دون إتاحة فرصة للمشاهد في معرفة تتابع الأحداث بالرجوع لحقائق الحرب، كذلك إبراز وجهة نظره النسبية في فكرة الخير والشر ومن صاحب الصواب الكلي ومن المجرم كليًا، وهذا أحد اختلافات مارتن عن تولكين التي أراد التميز بها عنه، فعند تولكن أطراف الخير والشر واضحة جلية، وهذا ما لا يراه مارتن حقيقيًا، أو كما يجب أن يكون، فكل الأطراف بها الشقان الخير والشر.

الفكرة الثالثة التي أثرت في مارتين رؤيته لجدار «هادريان» الواقع بين إنجلترا وأسكتلندا. عندما رآه مارتن لأول مرة تخيل كيف كان شعور البريطانيون عندما كانو ينظرون خلفه، ربما تخيلوا كائنات شيطانية وهمجًا في حين أن الحقيقة أنه لم يكن خلفه سوى الأسكتلنديين. من هذه الأفكار الثلاثة كانت البدايات والجذور لأغنية الجليد والنار.

الحكايات والأساطير

أكثر ما ميّز لعبة العروش هو قدرة صناع العمل على إقناعنا أن هذا عالم منفصل، لا يسير بقوانين عالمنا، له قوانينه الخاصة وأساطيره، في الحلقة الثانية تحكي مربية عائلة «ستارك» لـ«بران ستارك» عن أساطير الأمهات الخائفات من الحروب، وتحول الحروب السابقة لأسطورة مليئة بالوحوش، حيث يتحول الشتاء بالنسبة للأمهات لأسطورة العناكب التي تهاجم القرى وسط الثلوج، وتأكل الأطفال والكبار.

مسلسل «لعبة العروش» الذي يحكي عن شتاء قارس تمر به قارة «ويستروس»، لم يكن الشتاء الذي نره هو الشتاء الوحيد، أو الشتاء الأعنف، بل كان هناك أكثر من شتاء، أشهرهم شتاء (الليلة الطويلة) وهو الشتاء الذي استمر لجيل كامل تقريبا وقتل أغلب من عاصروه، وشتاء «رقصة التنانين» الذي حدث بين ورثة «التارغرين» ذاتهم واُستخدمت فيه التنانين وكاد أن يدمر ويستروس عن بكرة أبيها، أما الشتاء الأشهر لعشاق المسلسل، والأكثر وجودًا وتأثيرا، هو الشتاء الذي قاده «روبرت بروثيون» و«نيد ستارك» ضد «أريس المجنون»، وفي هذا الشتاء تم إنهاء حكم التارجيان، وقاد «تايون لانيستر» عملية إبادة جماعية لنسل التارجيان، مما أدى لغضب نيد ستارك وعودته للشمال، وزواج «سيرسي» ابنة تايون من «روبرت بروثين»، وأصبحت ويستروس تحت حكم عائلة بروثين وعائلة اللانستر، وإنهاء حكم التارجين منذ تأسيس قارة ويستروس على يد «أريجون الفاتح».

لم يقف الأمر عند صناعة الأسطورة بل وصل الأمر أحيانا للفن الشعبي، فأغنية «أمطار كستمير» التي حفظها الجمهور بعد عزفها في المشهد الأشهر في المسلسل وهو «الزفازف الدامي»، تلك الأغنية التي غنيت عقب إبادة تايون لانستر للثورة القائمة ضد العائلة في كستمير، حيث كان والد لانيستر ضعيف الشخصية طيب القلب فسبب ضعفًا شديدًا للانستر أمام العائلات الأخرى، ولكن عندما تولي تايون هذه الأزمة أباد الخصوم بما فيهم أطفالهم ونساءهم.


ثورة لعبة العروش

المواسم الأولى من لعبة العروش عرضت في ظل تتويج مسلسل «Breaking Bad» من قبل الجماهير والنقاد، فاعتبر المسلسل أدق وأعظم مسلسل درامي من حيث تصاعد الأحداث ونضوج الشخصيات، ودقة الخطوط الدرامية والسيناريو، كذلك التمثيل والإخراج الذين بلغوا مبلغ الكمال في بعض الأحيان. هذا ما ميّز «Breaking Bad» عند النقاد والجماهير، إتقانه للأسس الكلاسيكية للفن والكتابة والتمثيل، فهو التحفة التي سيقف عندها النقاد كثيرًا ولن يستطيعوا سوى التصفيق لها.

على العكس ظل مسلسل لعبة العروش كطلة «Pulp Fiction» في السينما، فهو الحدث الدرامي الذي طرح نفسه كنقيض للكلاسيكية، فهو نقيض الكلاسيكية بشكل حادٍ وعنيفٍ، حيث لا يتم تصاعد الخطوط الدرامية وتقدمها، وتعرضها لصعوبات ومرورهم منها وإخراج بواعث نفسيه جديدة، هذا لم يتم في لعبة العروش، ما تم هو خط درامي متقن بتمثيل متميز ثم إنهاءه بشكل عنيف في منتصفه مسببًا صدمة الجميع وتساؤلهم كيف سيتم إكمال المسلسل دون هذه الشخصيات الرئيسية.

لقد أخضع مارتن – ومن بعده صناع المسلسل – أبطاله لقواعد الحرب، فالكاتب باعتباره «إلهًا» كان يخرج أبطاله وشخصياته من ويلات الحروب سالمين، أو حين التمرد لا يخرجهم سالمين في آخر العمل الفني، أما مارتن فترك أبطاله كأي أشخاص في الواقع يدخلون في حرب، هم سائرون بقوانين الحياة والإنسانية، وعندما تحدث حرب كبرى سيقتل الكثير من الأبطال والشجعان في المنتصف، وستنزع خطوطهم الدرامية انتزاعًا، وستستمر الحياة بأبطال جدد.

التحديات والآمال

ربما يمر المسلسل بتحديات في هذا الموسم تجعله يفقد منازعته لـ «Breaking Bad» على مكانته، أو يفقد أهم ما ميّز المسلسل وهو طرحه لنفسه كمقابل للأعمال الكلاسكية، فالموسم السابق وما مر في هذا الموسم، يتصف بالتشتت الشديد وعدم الإتقان الإخراجي، مشاهد كثيرة نجد أن أبسط قواعد المراجعة للمشاهد مفتقدة، كمشهد مطاردة رجال رامزي لسانسا في الحلقة الأولى، واختفاء الكلاب المفاجئ، كمعركة «آرثر دين» سيف الصباح وظهوره بسيفين، على الرغم من شهرته بسيفه الوحيد العملاق.

كذلك اعتماده على ما يطلبه الجمهور، فمشاهد القتل لم تكن أصلية في هذا الموسم أو حتى مشهد قتل «جون سنو» في الموسم السابق، فقد ظهر هذا المشهد كأنه محاولة إنقاذ الموسم الخامس من ضعف مستواه، بإلقاء صدمة للجمهور تنسيهم نقاط ضعف المسلسل.

كذلك قرار صناع المسلسل بإنتاج المسلسل قبل نزول الرواية، وهذا سيؤدي لشرخ كبير في الأحداث، فقد أثبتت جميع التجارب أن الانفصال في الأحداث عن نصوص مارتن تؤدي لمشاكل، أو طرح نموذج أضعف بكثير، من نموذج مارتن الأصلي.