إذا سألتَ معظم من تعرف عن أهم المواقع الفاصلة التي حدثت في تاريخ الحروب الصليبية، ستجد الإجابة حاضرة على الفور: موقعة حطين، التي حدثت عام 1187م=583هـ، والتي ألحقتْ فيها الجيوش الإسلامية بقيادة صلاح الدين الأيوبي هزيمة ساحقة بالصليبيين، مكَّنت من استعادة بيت المقدس بعد احتلال دام لتسعين عامًا. ورغم الأهمية المُستحقّة لحطين، فإنها لم تكن الموقعة الفاصلة الوحيدة في تاريخ الجهاد ضد الاحتلال والاستيطان الصليبي في الشرق العربي الإسلامي.

سنعود في تلك الجولة إلى معركة فاصلة حملت اسم المدينة الباسلة غزة، التي جعلها موقعُها المحوري على البوابة الجنوبية للشام، والشمالية الشرقية لمصر، ملءَ السمع والبصر في عديد من اللحظات الحاسمة في تاريخ مصر والشام. دارت تلك الموقعة في عام 1244م = 642هـ بعد أكثر من قرنٍ ونصف القرن من الاحتلال الصليبي للشرق، ولم تحظَ تلك الموقعة بما تستحق من الشهرة والاحتفاء في المخيال التاريخي العربي، رغم أنها كانت حاسمة في تحديد مصير ما بقي من وجود صليبي في الساحل الشامي، وحسمت المصير السياسي والاستراتيجي لعرش القاهرة.

الصراع على مصر

في مقالٍ سابق: (القدس مقابل دمياط .. كامب ديفيد القرن السابع الهجري) رسمنا المشهد في مصر والشام في العهود الأيوبية التي تلت وفاة صلاح الدين الأيوبي عام 589هـ = 1193م. فقد احتفظ الصليبيون بعديد من المستوطنات الساحلية في الشام، من أنطاكية شمالًا إلى عكا جنوبًا، وإن تقلّص حجم وجودهم كثيرًا بعد موقعة حطّين 583هـ = 1187م، بينما شاعت الصراعات السياسية والحربية بين الأمراء الأيوبيين على النفوذ والسيطرة، وأضعفَ هذا الدولةُ الأيوبية كثيرًا.

برز في تلك الفترة اسم السلطان الكامل الأيوبي -ابن أخي صلاح الدين الأيوبي- الذي اعتلى عرش القاهرة عشرين عامًا (615هـ/1218م – 635هـ/1237م) وانتصر في بداية عهده على الحملة الصليبية الخامسة التي احتلّت ميناء دمياط المصري الحيوي، لكنه مع اقتراب الخطر المغولي من شمالي العراق وشرقي الأناضول، سارع إلى عقد صلح يافا عام 626هـ/1229م مع صديقه الإمبراطور الألماني فريدريك الثاني، الذي تضمّّن خطوة صادمة، تمثَّلت في تسليم بيت المقدس لفريدريك مقابل السلام بين الجانبيْن، لكن اشترط الكامل ألا يبني الصليبيون سورًا حولَها، وأن تظلَّ منطقة المسجد الأقصى مفتوحة للمسلمين، وقد أثارت تلك الاتفافية صدمة هائلة في العالم الإسلامي.

توفي الكامل عام 635هـ=1237م، وتولّى بعده الحكم ابنه العادل سيف الدين، الذي كان ضعيفًا مُنصرفًا إلى الملذات، فاعترض أخوه الأكبر غير الشقيق الصالح نجم الدين أيوب، والذي كان يحكم المناطق الشرقية البعيدة من دولة أبيه مرتكزًا إلى حصن كيفا جنوبي تركيا.

اتجه الصالحُ أيوب بصحبة العشرات من أقوى الفرسان المماليك الموالين له في حملة عسكرية صوب مصر، وتعرضّ لبعض المشكلات في الطريق، حيث خدعَه ابنُ عمه الناصر داوود حاكم الكرك في الأردن، وسجنه لفترة، ثم اتفق معه أن يطلق سراحه ويساعده لاعتلاء عرش مصر، مقابل أن يساعده على ملك دمشق.

في عام 637هـ=1239م، حدث انقلاب ناعم من أمراء مصر ضد العادل، وأرسل المنقلبون إلى الصالح أيوب يدعونه إلى القدوم إلى مصر، فاعتلى عرشها. وفي تلك الأثناء، استولى عمه الصالح عماد الدين إسماعيل على دمشق، وكان على عداوة مع ابن أخيه الصالح أيوب، حتى أنه اعتقل في سجن دمشق المغيث عمر بن الصالح أيوب.

وكان إسماعيل يطمع في الاستيلاء على القاهرة، ليحكم مصر والشام معًا. أما الناصر داوود، فلم يفِ الصالح أيوب له بالاتفاق متعذِّرًا بأنه كان مُكرَهًا عليه في سجن الناصر، فعاد داوود غاضبًا إلى الكرك، ومال إلى كفة الصالح إسماعيل ضد الصالح أيوب.

ولمّا تمّ أمره بمصرـ أصلحَ أمورَهاـ ومهّد قواعدها ..
ابن تغري بردي، في النجوم الزاهرة، متحدثًا عن الصالح أيوب

سارع الصالح إسماعيل إلى تقوية علاقته بالصليبيين في الساحل الشامي، ليستعينَ بهم في حرب ابن أخيه ملك مصر الصالح أيوب، وسلّم الصليبيِّين بعضَ الحصون الهامة في الشام ليعزّز صداقته بهم، فأثار غضب كثيرين في دمشق والعالم الإسلامي ضده، وجهر العالم المعروف عز الدين بن عبد السلام بمعارضة إسماعيل، فنفاهُ من دمشق، فقدم إلى القاهرة، واستقبله الصالح أيوب بترحاب، وعزّز هذا من شرعية الصالح أيوب في الصراع الأيوبي الكبير.

فشلت الجهودُ الدبلوماسية في احتواء الصراع بين الصالح إسماعيل والصالح أيوب، وبدأت نُذُرُ الحرب الفاصلة تتصاعد منذ عام 641هـ = 1243م، حيثُ تكثّفت الاتصالات بين الصالح إسماعيل والصليبيين لتنسيق عملية عسكرية مشتركة للاستيلاء على مصر، وتعهّد الصليبيون بإمداد الجيشِ الغازي بالآلاف من أقوى فرسانهم، فرسان المعبد، والاسبتارية. إزاء ذلك الخطر، استكثر الصالح أيوب من جلب الفرسان المماليك وتسكينهم في القاهرة، وتدريبهم تدريبًا عسكريًا ودينيًا خاصًا، يعزز ولاءهم له، ويجعلهم قوة عسكرية ضاربة، لكنه كان بهذا ورقة حاسمة أخرى لحسم الصراع مع عمه والصليبيين.

مرتزقة يحررون القدس!

كانت الدولةُ الخوارزمية القوية في آسيا قد انهارت تحت ضربات المغول، ونتيجة لهذا أصبح هناك الآلاف من الفرسان من فلول جيش تلك الدولة الذاهبة، الذين اتجهوا شرقًا هربًا من المغول، واشتغلوا بالسلب والنهب لتأمين احتياجاتهم، ولم يكن لهم ولاءٌ سياسي بديل.

أرسل الصالح أيوب إلى مقدّمي هؤلاء الفرسان الخوارزميين، يطلب انضمامهم إلى جيشه في المعركة الوشيكة ضد عمه الصالح إسماعيل المتحالف مع الصليبيين، ووعدهم بكثير من الإغراءات المالية والسياسية، فقبلوا منه ذلك على الفور. أما الصالح إسماعيل، فأمعن في التنازل للصليبيين، فمنحهم طبرية وعسقلان، وبعض القلاع الاستراتيجية، وشكل تحالفًا واسعًا ضمَّ ابن أخيه الناصر داوود صاحب الكرك، والمنصور الأيوبي صاحب حمص إلى جانب الصليبيين.

اندفع الآلافُ من فرسان الخوارزمية قادمين من الشرق إلى شمال الشام بعد اتفاقهم مع الصالح أيوب، ثم انسالوا كالطوفان صوب فلسطين، فمروا في طريقهم بالقدس الخالية من الدفاعات طبقًا لاتفاق الكامل-فريدريك قبل 15 عامًا، فكبسوا الصليبيين فيها وأبادوا الآلاف منهم، ودمَّروا كنيسة القيامة، وأعملوا الكثير من التخريب في المدينة، ثم توجَّهوا إلى الجنوب الغربي نحو غزة، حيث انضمَّوا إلى قوات الصالح أيوب القادمة من مصر، وعمادها الفرسان المماليك.

معركة غزة – لافوربيه 642هـ = 1244م

.. وَكَانَ يَوْمَئِذٍ يَوْمًا مَشْهُودًا وَأَمْرًا محمودًا، وللَّه الحمد ..
ابن كثير في (البداية والنهاية) محتفيًا بنتائج موقعة غزة عام 642هـ = 1244م

أغدق الصالح أيوب الأموال والهدايا على فرسان الخوارزمية في غزة ليضمن ولاءَهم أكثر فأكثر، وليتمكن من السيطرة على جموحهم. وبينما كان الفرسان المماليك أكثر انضباطًا وتنظيمًا، كان نظراؤهم من الخوارزمية أكثر شراسة.

تصافَّ الجيشان شمال قطاع غزة، قرب قرية تسمَّى الحربية، شمال شرق غزة، يوم 17 أكتوبر/تشرين الأول 1244م، الموافق للسابع من جمادى الأول عام 642هـ، وبدا مشهد ملوك الشام من أحفاد صلاح الدين الأيوبي غريبًا وهم يصطفون إلى جوار الرايات الصليبية التي طالما كسرها جدهم.

بدأت المعركة باندفاع الفرسان الصليبيين في هجوم شامل لإحداث صدمة هائلة في صفوف جيش الصالح أيوب، لكن استوعب فرسان المماليك والخوازمية الهجوم، ثم شنَّ الخوارزميون هجمات مضادة عنيفة، كسروا بها قوات الشاميين والصليبيين على حد سواء، وهنا حدث انقلاب كبير في الساحة، فقد انشقّ عديد من الجنود والفرسان الشاميين المسلمين، وانضموا لقوات الصالح أيوب ضد حلفائهم الصليبيين الذين أصبحوا الآن بين شقي الرحى، وتحولت المعركة إلى مذبحة مفتوحة للفرسان والجنود الصليبيين.

تبالغ المصادر الإسلامية في تقدير خسائر الصليبيين في تلك المعركة، فيصل بها ابن كثير الدمشقي في البداية والنهاية إلى ثلاثين ألف قتيل، وهو رقم يفوق الحد المنطقي، لكنها بالفعل كانت خسارة مروعة.

اندفع المنتصرون بعد المعركة لقطف ثمار الانتصار، فغنموا غنائم هائلة، ثم حاصروا عسقلان وفتحوها، ومعظم أجزاء فلسطين. ثم حاصروا دمشق، فعجز الصالح إسماعيل عن الدفاع عنها طويلًا، انسحب ببعض قواته منها إلى معقله الأول بعلبك في لبنان، واجتمع للصالح أيوب حكم دمشق والقاهرة معًا لأول مرة منذ عهد الكامل الأيوبي قبل 10 سنوات، وأصبح أقوى ملوك المنطقة. ثم حدث خلال عاميْن انقلاب عجيب، حيث زادت مطامع الخوارزميين، وبدؤوا في الانصراف عن الولاء للصالح أيوب بعد أن رفض الاستجابة لتلك المطامع، فراسلوا الصالح إسماعيل، واتفقوا معه على حصار دمشق وانتزاعها ثم الهجوم على مصر، وهنا انضم ملوك حمص وحلب إلى صف الصالح أيوب بعد أن ضاقوا ذرعًا بالفرسان الخوارزميين وما يمثلونه من خطر سياسي وعسكري، ودارت معركة فاصلة بين أيوب وحلفائه من جهة، والخوازميين وإسماعيل من جهة أخرى، قرب حمص، ومُني الخوارزمية بهزيمة ساحقة، وقُتل قائدهم حسام الدين بركة خان، وتفرق فلولهم ولم تجتمعْ لهم راية بعد ذلك.

وتعتبر المصادر الغربية تلك الهزيمة الساحقة في موقعة غزة (تسمى في المراجع الغربية Battle of La Forbie) كارثة عسكرية واستراتيجية ألمَّت بالصليبيين كمًّا وكيفًا، فالآلاف المؤلفة من الفرسان الصليبيين الذين امتلأ بجثثهم الميدان في غزة كانوا هم العمود الفقري للقوات الصليبيية في الشرق، وأعلى الوحداث تدريبًا وتسليحًا وتدريعًا، وأكثرها تعصُّبًا للمشروع الصليبي، وأعلاها خبرة بالمعارك في الشرق.

ثبَّت هذا النصرُ حُكمَ الصالح نجم الدين أيوب في القاهرة ودمشق، وأدى إلى انكفاء الصليبيين في الشام على أنفسهم خلف تحصينات قلاعِهم خلال العقود الخمسة الباقية من وجودهم في الشرق، وحتَّى الرغبة الصليبية المحمومة للانتقام مما حدث في موقعة غزَّة، تولّاها زعيم أوروبي صليبي هو لويس السابع ملك فرنسا، والذي قادَ حملة صليبيةً (هي السابعة ضد الشرق الإسلامي) من أوروبا ضد مصر وليس الشام عام 647هـ = 1249م، انتهت بفشل ذريع، بهزيمتيْن عسكريّتيْن ثقيلتيْن في موقعتيْ المنصورة وفارسكور، وباعتقال لويس السابع نفسه.

 ومهّد هذا الانتصار لسطوة طبقة عسكرية جديدة هي المماليك، والتي هيمنت على عرش القاهرة في النصف الثاني من القرن السابع الهجري (الثالث عشر الميلادي) وثبّتتْ دولتَها في مصر والشام والحجاز وبرقة واليمن وجنوبيِّ الأناضول، بعد إنجازات عسكرية متتالية ضد الغزو المغولي للشام، وضد الوجود الصليبي، الذي أتمّ المماليكُ إبادته بالاستيلاء على عكا عام 690هـ = 1291م.

اقرأ: يوم فُتِحَتْ أنطاكيا .. الصليبيون يودِّعون أهم إماراتهم بالشام.