فإن كان في الأشياء شيء لا نهاية لكماله، ولا غاية لحسنه وجماله وبهائه، وهو فوق الكمال والبهاء والحسن، وليس في الوجود كمال ولا حسن ولا بهاء ولا جمال إلا صادر من جهته وفائض من قبله، فمن فقد إدراك ذلك الشيء بعد أن تعرف به، فلا محالة أنه ما دام فاقدًا له، يكون في آلام لا نهاية لها.
الفيلسوف والشاعر الأندلسي «ابن طفيل»، من كتاب «حي بن يقظان».

أجرت عالمة نفس النمو «رينيه بيلارجيون» تجارب عديدة بتعديلات مركّبة لملاحظة قدرة الأطفال –بعمر الشهرين ونصف وأكبر– على تمييز الأجسام الفاعلة عن غيرها، وانتهت لنتائج تؤكد قدرة الأطفال منذ عمر مبكر للغاية على إدراك احتياج الكوب المعلق في الهواء ليد تمسك به حتى لا يسقط من تلقاء نفسه، وأن شخصًا ما سوف يتحرك إذا طلبنا منه بلطف، في حين أن محاولة دفعه باستخدام القوة الفيزيائية لن تكون بنفس الكفاءة، الأطفال لديهم قدرة شبه فطرية على التفريق بين حشرة تطير بين الورود، ودمية سوف تظل ساكنة على كرسي ما لم يحملها أحدهم.

لهذه القدرة فوائد عديدة، أكبرها إلزام الإنسان بتمييز واجبه الأخلاقي ومسئوليته المباشرة عن أفعاله. إن معاقبة طفل قام بتهشيم طبق الطعام لن يكون ذا معنى إذا لم يكن الطفل مدركًا لمسئوليته المباشرة عن الفعل السيئ، وأنه يتلقى التقريع لأنه قوة فاعلة لا دمية ساكنة.

كيف تتخلص من السلوك الإنساني بخطوات بسيطة؟

التشبث بالحياة، والنماء في أوضاع قاسية، هذا يا سيدي هو ما يشترك فيه اليهود مع الفئران.
كولونيل هانز لاندا، من فيلم «Inglorious Bastards».

في عصور ما قبل الـ Political correctness (الصوابية السياسية) جرت اجتهادات كثيرة لتقسيم الناس والشعوب بصورة عرقية أو إثنية أو حتى دينية، وباختلاف الدوافع تتابعت المحاولات لوصم طائفة ما بصفة محددة –سيئة أو حسنة على السواء- تسهيلاً لتبرير الأفعال وتخلصًا من التبعات الأخلاقية.

على سبيل المثال، كانت التقارير الرسمية في البلاط الأندلسي إبّان الإجلاء الكامل للموريسكيين تشير لهم بـ «الخنازير»، فما يضرّك إذا قتلت خنزيرًا أو طردته خارج دياره أو أحرقته على الصليب بعد محاكمة تفتيش؟

بالمثل، كانت الإذاعة الرواندية التابعة للهوتو تصدح بقصائد الذم والتحقير من شأن «التوتسي» الحشرات. ليالي سحق الحشرات أسفرت عن أهوال من أفظع ما ارتكب البشر، ونصف مليون من القتلى على أقل تقدير.

محاولات أخرى للتقسيم جرت في ألمانيا النازية تقوم على حجم الأنف ودرجة اصفرار الشعر ولون بؤبؤ العين، كان التحضير للغزو والإبادة يبدأ من شعور كل جندي نحو جيرانه، كان ضمير الأمة محتاجًا لأقراص التقسيم المنومة وإلا انهار مشروع الرايخ الكبير.

ولكن أكثر تلك الأطروحات محاولةً للمقاربة من العلم، والوصول لتقسيم موروفولوجي يطابق مناطه إحصائيًا، قدّمه سيزار لامبروزو، الطبيب وعالم نفس الجريمة الإيطالي، الذي اقترح أن الناس إمّا مجرمون بالفطرة وإمّا غير ذلك، فالموضوع كله وراثي شديد الارتباط بماهية الشخص وتكوينه، حتى أن هذا العوار النفسي ينتج عنه تشويه في الخلقة، قضى الرجل -الذي عاش قبل الألفينية بمائة عام تقريبًا- سنوات يبحث عن الجبهة الضيقة والأنف الأفطس، وتناوب آخرون على تفنيد عمله حتى سقطت نظريته وإن استمر آخرون في استدعاء نفس المنطق حتى يومنا هذا.

المشترك في جميع ما سبق هو أنه بهذا التقسيم يتجرد الإنسان من مسئوليته الأخلاقية وتبعات أفعاله، فتكون جرائم التطهير العرقي ضد المايا والأندلسيين والفلسطينيين لا تزن شيئًا ولا تثير بالاً، لأنه من ناحية قد قام بها أجناس أفضل وأكمل ضد أجناس أحقر وأقبح، ومن ناحية أخرى فالمصير المقرر مسبقًا للجنس الأقوى هو الانتصار، بينما على الضعفاء والمجرمين بالفطرة الاندثار في صمت.

قتل غير رحيم

يحق للآباء المحتملين اختيار عدم إنجاب أطفال عندما يظهر دليل معقول على أن الطفل سيُولد مشوهًا.
من قرار المحكمة في قضية «هيتي بارك» ضد الطبيب «هربرت تشيسن» في عام 1979.

في يونيو/حزيران عام 1969 وضعت «هيتي بارك» طفلةً مصابةً بمرض تكيس الكلى. توفيت الطفلة المولودة بكليتين مشوّهتين بعد خمس ساعات من الولادة. مُحطمةً، ذهبت بارك وزوجها لاستشارة طبيب توليد من لونج ايلاند هو «هربرت تشيسن»، وإذ افترض تشيسن -على نحو خاطئ- أن مرض الطفلة لا علاقة له بالجينات (الحقيقة أن تكيس الكلى لدى الأطفال الرضع مثل التليف الكيسي ينتج عن نسختين من الجينات الطافرة الموروثة من والدي الطفل) طمأن الوالدين وأرسلهما إلى بيتهما. في رأي تشيسن كانت فرصة أن تنجب بارك وزوجها طفلاً آخر مصابًا بالمرض نفسه لا تكاد تذكر وقد تصل إلى صفر.

في عام 1970، بعد استشارة تشيسن، حملت بارك ثانية ووضعت طفلة أخرى. لسوء الحظ ولدت «لولا بارك» هي الأخرى بمرض تكيس الكلى. احتجزت في المشفى عدة مرات ثم قضت من مضاعفات الفشل الكلوي في سن الثانية والنصف.

في عام 1979، ومع ظهور آراء تفيد بأنه «من حق الإنسان لا أن يولد فقط، بل وأن يمتلك فرصة جيدة في الحصول على حياة سعيدة» وانتشارها في الأدبيات الطبية مما أدى إلى العديد من اختبارات الأجنة قبل الولادة وتقرير مصائرهم بالإجهاض من عدمه، قام آل بارك بمقاضاة هربرت تشيسن لتقديمه استشارة طبية خاطئة، هذه المرة الطبيب لم يتسبب في وفاة بالخطأ، ولكنه تسبب في إحياء بالخطأ، هكذا قال محامي دفاع آل بارك.

مرة أخرى ظن آل بارك أن الطبيب كان مخطئًا بالكلية، واستندوا إلى العديد من الحالات الطبية حيث يمكن تمييز الطفور/التشوه في جينات معينة لدى الأجنة مما ينتج عنه إصابتهم بأمراض وراثية، بينما ومع تتابع الدراسات في هذا المجال، ثبت أن الحوادث الخاصة بهذه الجينات إنما تُرجِّح حدوث المرض، لكنها لا تؤكد أن تعبر هذه الطفرة عن نفسها، ولا تقرر تفاعل المرض المحتمل مع بيئته المحيطة إذا احتاج المرض تحفيزًا خارجيًا، ولا حتى تمكننا من تحديد درجة الإصابة بهذا المرض. أمراض كأنيميا الخلايا المنجلية مثلاً لا تعبر عن نفسها بنفس الطريقة، وتتأرجح فرص المريض بين الحياة شبه الطبيعية والموت المحقق، ولا يستطيع الجين إخبارنا بكل هذا.

إن إلصاق المسئولية الأخلاقية لقتل الأجنة بطفرات الجينات التي تخص الأمراض الوراثية سيظل حجة واهية بل وغير علمية، وهو ما يعني حكمًا بالإعدام بحق نصف الأجنّة بوصفهم –بحكم جزافي مسبق– مرضى مؤكدين يعانون من هذا المرض أو ذاك بدرجة سوف تستحيل معها الحياة.

التشابه أكبر مما نظن

يجب أن نعيد التصويت، هذا ليس صحيحًا.
سنوب دوغ، فور اكتشافه أن لديه من الأسلاف الأوروبيين أكثر مما لتشارلز باركلي.

في عام 1994، قام كل من ريتشارد هرنستاين، اختصاصي علم النفس السلوكي، وتشارلز موري، اختصاصي العلوم السياسية، بطرح كتاب وصفته التايمز بأنه قاذفة لهب ترمي بلهبها الطبقة والعرق والذكاء، اسمه «المنحنى الجرسي»، زعما فيه أن الذكاء، أو معدل IQ كما اقتضت الحاجة تسميته، متأصل تمامًا، وأنه وثيق الارتباط بالجينات، وأن توزيعه بين الأعراق والأجناس ليس متساويًا، فالآسيويون والأوروبيون يمتلكون نصيبًا أوفر مما يمتلك الأفارقة أو الأمريكيون من ذوي الأصول الأفريقية.

بناء عليه يكون التعثر –النسبي– الذي يواجهه ذوو البشرة السمراء في أمريكا على المستوى الثقافي والعلمي والاقتصادي، لا يعود إلى تراكم عقود من الاضطهاد والتمييز ضد أقلية مسكينة، وإنما هو في الأساس مصيرهم المحتوم لكونهم مخلوقات تملك عقولاً أصغر. فالقدرة هنا مرتبطة بالقدر المحدد سلفًا. مرة أخرى، يفشل هرنستاين وموري في الاختبار الذي نجح فيه أطفال العامين. لقد قدّموا إجابة خاطئة أخرى تخص سؤال: من الفاعل؟

بداية لابد أن نذكر أن الذكاء المذكور سابقًا يقصد به نتائج اختبارات وضع أغلبها في سياقات مختلفة في فترات بين عامي 1890-1910، وأنها تعطي درجات موزعة بغير تساوٍ على أجزاء متعلقة بالذكاء الشفهي، والذكاء الرياضي، وسرعة الاستجابة، والإدراك البصري المكاني وغيرها، لم يجرؤ أحد على التشكيك في مدى أهمية كل عامل بالنسبة لدرجته المرصودة، أو على اتهام الاختبارات بأنها قاصرة أو معدة سلفًا لإنصاف أناس لحياتهم خصائص معينة، تخيل معي طفلاً مُصابًا بالتوحد يستطيع حل معضلة حسابية في غاية التعقيد في ثانيتين بينما لا يستطيع ملاحظة لون الباب الذي دخل منه، كم درجة يستحق؟ الإجابة –أيًا كانت- ستكون سخيفة أكثر من الافتراض الذي بُنيت عليه هذه الاختبارات.

في عام 1976، أجرى كل من ساندرا سكار وريتشارد واينبرغ دراسة لملاحظة عوامل الذكاء المقررة في أبناء التبني العابرين للأعراق (أطفال سود تبناهم آباء بيض)، وأسفرت الدراسة عن امتلاك هؤلاء الأطفال لمعدلات ذكاء IQ تساوي 106 وهي نفس معدلات الأطفال البيض على الأقل، إن ما يتحسن هنا ليس الذكاء، وإنما المحصلة في أجزاء فرعية معينة منه، يبدو أن قدرة الأطفال على حسن التجاوب مع تلك الاختبارات يعتمد -بدرجة ما- على وجودهم في بيئة بيضاء.

إن وجود معلومات وراثية داخل خلايا كل إنسان يعطي تلميحًا عن قدراته واحتمالات سير معيشته، ولكنه بالتأكيد لا يقرر قدره، ولا يعفيه من مسئوليته الأخلاقية وتبعات أفعاله تجاه نفسه وتجاه الآخرين.

إن تمسك الإنسان بمكانته العليا بين جميع المخلوقات هو ما يجعله أهلاً للحساب والمراجعة، ويجعل فعله مهما صغر بحق الكون أسمى من أن يغفل أو يعزى –بالكامل– إلى جين غالب أو سيرورة حاكمة.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.