في أحد أشهر مشاهد فيلم «Django Unchained» للمخرج «كوانتين ترانيتو» يتحدث «كليفن كاندي» (أدي دوره «ليناردو ديكابريو») عن رؤيته لأسباب خضوع السود واحتلالهم مكانه أقل اجتماعيًا، وحاول تبرير ذلك علميًا من خلال تشريحه لجمجمة أحد الخدم السود، وعدد الفروقات في تصميم الجمجمة التي تجعل السود أقل ذكاءً وأكثر ميلًا للخضوع والذل عن الجنس الأبيض.

الفيلم رغم عدم التزامه بالدقة التاريخية كما اعتدنا من «تارنتينو»، لكنه يعبر عن لغة تحاول تبرير التمايز بين الأعراق، تلك اللغة التي ما زالت مستمرة بأوجه عديدة في بعض الدول الأكثر تخلفًا. لكن في الدول الحديثة كالولايات المتحدة يتغير الحال.

يقول «دين أرميتاج» في فيلم «Get Out» وهو رب الأسرة المثقف، الثري، الأبيض، صاحب التوجهات الديموقراطية؛ إذا كان يستطيع، فإنه سيتوجه لانتخاب «بارك أوباما» للمرة الثالثة. ويقول «دين» هذه العبارة بقناعة تامة وإيمان كامل، إن أوباما رئيس استثنائي يستحق الانتخاب للمرة الثالثة.

ولكن هل «دين أرميتاج» يخلو من العنصرية؟ أم للعنصرية أشكال كثيرة منها الإيمان الشديد بقدرات السود والرغبة في تملك تلك الإمكانيات الاستثنائية؟


العنصرية في ثوب جديد

تدور أحداث فيلم «Get Out» عن المرة الأولى التي يزور فيها الفتى الأسمر «كريس» منزل عائلة حبيبته البيضاء «روز». يوجد هذا البيت منعزلاً وسط الغابات، وتبدأ الزيارة قبيل عطلة نهاية الأسبوع. يتوتر «كريس» بسبب ترقبه لرد فعل أسرة روز التي لا تعلم أنه أسود.

تخبره «روز» أن أسرته ليست عنصرية، وأنها لا يجب أن تعلمهم مسبقًا بالأمر. يذهب «كريس» معها ويقابل الأسرة التي بدت تصطنع الود. ويشعر أن هناك سرًا وراء تلك الأسرة حيث إن الخدم من السود وتصرفاتهم وحركتهم غريبة.

بالإضافة للأم الطبيبة النفسية التي تستخدم التنويم المغناطيسي للعلاج، وتعرض عليه مساعدته للإقلاع عن التدخين ويرفض. رغم كل الشكوك ولكنه يعود لحبيبته دائمًا لتطمئنه وتحتضنه.

يطرح «جوردن بيل»، في فيلمه الأول الذي يقوم بكتابته وإخراجه، فكرة الأشكال الجديدة للعنصرية، والتي ليست بالضرورة استعباد السود أو عدم الإيمان بقدراتهم، أو الضغط عليهم سياسيًا واجتماعيًا ليقوموا بالأعمال الأدنى وترك الأعمال ذات الشأن الاجتماعي، والسياسي للجنس الأبيض.

بل تأخذ شكلاً جديدًا وهي نظرة البيض لهم كمنافسين أقوياء في المجتمع، يمتلكون مقومات جسدية وعقلية يجب استغلالها. يظهر ذلك بكثرة في مشاهد هوس عائلة «روز» بجسد «كريس» وأعضائه، والسؤال عن قوته الجنسية، وإعجابهم بقوة عينيه ورؤيتها الفنية!.

ولكن رغم ذلك يرون السود أدنى منهم، شيء يشبه رؤية الجنس البشري للروبوتات في حالة تعديهم ذكاء الإنسان، فيجب استغلالهم لأنهم أدنى منا ومن صنع مبدعينا، وتلك هي رؤية عائلة «روز» التي تمثل المجتمع الأبيض لـ«كريس» والذي بدوره يمثل مجتمع السود.

الشعور بالدونية يسيطر على السود رغم معرفتهم بقدراتهم الجيدة. فمنذ بداية الفيلم و«كريس» مهزوم داخليًا. يخشى تلك الزيارة ومن عدم معرفة أسرة «روز» بلونه، وتلك ليست نظرة «كريس» وحده فصديقه الأسود «رود» يحذره بأسلوبه الساخر من الذهاب.

ويؤكد «بيل» أن الانهزام الداخلي لكريس وصديقه ليس بسبب رواسب من الماضي السحيق فقط. بل بحوادث عنصرية تحدث كل يوم وإن كانت أقل حدة. مثل طلب ضابط البوليس لبطاقة هوية كريس بعد صدمهم للغزالة على الطريق. رغم أن الموقف لا يستحق أي تشكيك أو ريبة. ولكن كونه أسود مع فتاة بيضاء أثار ذلك حفيظة الضابط.


الرعب بين النفسي والاجتماعي

جمع «بيل» بين أفكاره السابق ذكرها عن العنصرية وأحد أشهر تيمات الرعب سواء في الأدب أو السينما، وهي الدعوة لزيارة مكان ما يبدو طبيعيًا، ولكن سمة أشياء مريبة تحدث إلى أن تتكشف في النهاية. وهذه التيمة لا ترغب في تصدير الرعب والفزع، ولكنها تصدر شعور عدم الارتياح. فالفزع التقليدي سيؤدي لهروب مساحات التأمل والاستشراف فيما يريده صانع الفيلم من عقل المشاهد.

بالفعل نجح «جوردن بيل» كمخرج في تصدير هذا الشعور بعدم الارتياح، نحن لسنا أمام فيلم رعب تقليدي، بل أمام فيلم غير مريح. منذ أول مشهد (long shot) لمنزل الأسرة وهي تستقبل «كريس» وتظهر خلفية الخادم وهو ينظر إليهم من بعيد.

مشهد استشرافي بامتياز يترك فيه المشاهد يطرح تساؤلات من خلال تأمله في اللقطة. نجح أيضًا في نقل مشاعر عدم الارتياح في نظرات الخدم السود، والتي جمع فيها تقنيًا بين استخدام «التصوير البطيء – slow motion» مع لقطة «medium close up» على الوجه. فيبدو المشهد وكأنه جزء من كابوس حقيقي.

وكذلك مشهد جري الخادم الأسمر ليلاً نحو «كريس»، حيث استخدم لقطة «نقطة النظر – Pov» لكي يشعر المشاهد بما يشعر به «كريس». وكذلك مشاهد التنويم المغناطيسي والتي رغم بساطة الفكرة وتنفيذها ولكنها لا تخلو من ابتكار ربما لأول مرة يتم تنفيذه. خصوصًا في جزء غوص «كريس» داخل ذاته.

ولا يجب أن ننسى أن أداء «دانيال كالويا» هو الركيزة الأساسية لنجاح الفيلم، فدونه لم يكن ليظهر بهذه الجودة. وهو أحد العناصر القليلة المجمع على تميزها. ولذلك ربما تكون الميزة الأكبر من دخول «Get Out» في موسم الجوائز هو التقدير المستحق لأداء «كالويا». رغم تميز بقية الممثلين، ولكن طغي أداؤه على الجميع، ليثبت أنه ممثل واعد وسيكون أحد نجوم السينما الأمريكية إذا أعطيت له أدوار مميزة.


تناول جديد للعنصرية

وبعيدًا عن الاستحقاق من عدمه للترشح لجوائز الأوسكار الرئيسية (أفضل فيلم-أفضل إخراج- أفضل سيناريو أصلي- أفضل ممثل رئيسي)، ينتمي فيلم «Get Out» لفئة أصبحت بديلة للأفلام التقليدية التي كانت معتادة حتى وقت قريب عن أزمة العنصرية مثل «12 Years A Slave»، و«The Help»، والتي يهرب أغلبها من العنصرية المعاصرة ويذهب لعصر العبودية، حيث يحاول فرض التعاطف بالقوة وبالابتزاز الأخلاقي على المشاهد، فمن سيقبل العبودية؟

حتى ضابط الشرطة الذي يتعدى على المواطن الأسمر لن يقبل بذلك غالبًا. وهذه نقطة سطحية في الأفلام الماضية، فهي أفلام ابتزاز عاطفي، وهروب عن الواقع وينتهي المشهد السينمائي السنوي غالبًا بإحدى جوائز الأوسكار في يد أحدهم، مع بعض دموع الفرح في وجه الفنانين البيض لإبداء عدم عنصريتهم.

ولكن من العام الماضي أصبحت أفلامًا معاصرة مثل «Moonlight»، و«Get Out» بديلاً في موسم الجوائز. ولا شك أن هذه الأفلام بها مساحة أكبر من التجريب. فلأول مرة تقريبًا يتم تقديم فكرة العنصرية في إطار من الرعب النفسي. ولذلك تركيز موسم الجوائز على الأفلام المعاصرة التي تتحدث عن العنصرية لهو مؤشر إيجابي ويفتح للمبدعين من ذوي البشرة السمراء مجالًا أوسع للإبداع والتجريب حتي في قضايا العنصرية التي ظلت حبيسة الرؤية التقليدية حتى وقت قريب.