الحب كلمة تحمل في العقل معاني شتى وشعور له في النفس قوانين عدة. ويظل الحب يحيرنا بحلاوته وحرقته، ونبيت نحير الحب بتعلقنا وفراقنا. ولكن الثابت أننا لا نستطيع الحياة دون حب؛ حب الله، والأنبياء، والأقارب، والأحباب، والإنسانية. كما لا يستطيع الحب أن يرسم تفاصيله دون شخوص إنسانية ونفوس راغبة وحائرة في آن واحد. والحب بين الرجل والمرأة لا زال وسيظل محور حديث الكثير من الأدباء والشعراء.

أما قصة الحب بين مي زيادة الأديبة والشاعرة الفلسطينية وجبران خليل جبران الأديب والفنان اللبناني، ستظل من القصص الخالدة والعجيبة والتي استمرت قرابة العشرين عامًا، ولم تتجاوز بحال كونها أحرفًا على الورق!، نعم، فلم يلتق الحبيبان ولو لمرة، ولم يتزوج كلا الحبيبين قط.


قصة الرسالة الأولى

في عام 1912، حين كانت مي في السادسة والعشرين من العمر أرسلت إلى جبران الذي هاجر إلى نيويورك رسالة من قلب القاهرة حيث كانت تعيش آنذاك مع أسرتها، وذلك لتبدي رأيها في روايته «الأجنحة المتكسرة»، وقالت فيها:

لايصح لكل امرأة لم تجد في الزواج السعادة التي حلمت بها أن تبحث عن صديق غير زوجها. فلا بد أن تتقيد المرأة بواجبات الشراكة الزوجية تقيدًا تامًا حتى لو هي سلاسل ثقيلة. فلو توصل الفكر إلى كسر قيود الاصطلاحات والتقاليد، فلن يتوصل الى كسر القيود الطبيعية لأن أحكام الطبيعة فوق كل شيء. وهذه تعتبر خيانة ولو في مظهرها طاهر، وتخون الهيئة الاجتماعية التي هي عضو عامل فيها.

وكانت هذه بداية رسائل أدبية وغرامية استمرت لسنين حتى وفاة جبران.


ماذا احتوت رسائل الحبيبين؟

دارت معظمها حول مناقشات أدبية تخص مؤلفاتهما أو مؤلفات غيرهما من الأدباء، والقسط الوافر منها كان رسائل حب غير مصرح به من كليهما. وظل الحال كذلك حتى اعترفت مي بحبها لجبران وهي في الخامسة والثلاثين من عمرها، وأرسلت إليه بهذا المكتوب:

جبران، لقد كتبت كل هذه الصفحات لأتحايد كلمة الحب. إن الذين لا يتاجرون بمظهر الحب، ينمِّي الحب في أعماقهم قوة ديناميكية رهيبة قد يغبطون الذين يوزعون عواطفهم في اللاء السطحي؛ لأنهم لا يقاسون ضغط العواطف التي لم تنفجر!، مامعنى هذا الذي أكتبه؟، إني لا أعرف ماذا أعني به!، ولكني أعرف أنك محبوبي، وأني أخاف الحب. أقول هذا مع علمي بأن القليل من الحب كثير. كيف أجسر على الإفضاء إليك بهذا؟، وكيف أفرّط فيه؟! لا أدري!. الحمد لله أني أكتبه على ورق ولا أتلفّظ به؛ لأنك لو كنت حاضرًا بالجسد لهربت خجلاً بعد هذا الكلام ولاختفيت زمنًا طويلًا، فما أدعك تراني إلا بعد أن تنسى!.

ورد جبران عليها بقوله:

تقولين لي أنك تخافين الحب. لماذا تخافين يا صغيرتي؟، أتخافين نور الشمس؟، أتخافين مد البحر؟، أتخافين مجيء الربيع؟، لماذا يا ترى تخافين الحب؟. أنا أعلم أن القليل من الحب لا يرضيك، كما أعلم أن القليل في الحب لا يرضيني. أنت وأنا لا ولن نرضى بالقليل، نحن نريد الكثير. نحن نريد كل شيء. نحن نريد الكمال. لا تخافي الحب يا ماري (وكان هذا اسمها الحقيقي). لا تخافي الحب يا رفيقة قلبي. علينا أن نستسلم إليه رغم ما فيه من الألم والحنين والوحشة، ورغم ما فيه من الالتباس والحيرة.

ويقول في رسالة أخرى: «أنت تحيين فيّ وأنا أحيا فيك. أنت تعلمين ذلك وأنا أعلم ذلك»، ويؤكد في ثالثة: «أنت أقرب الناس إلى روحي. أنتِ أقرب الناس إلى قلبي. ونحن لم نتخاصم قط بروحينا أو بقلبينا. لم نتخاصم بغير الفكر. والفكر شيءٌ مكتسب، شيءٌ نقتبسه من المحيط، من المرئيات، من مآتي الأيام. أما الروح والقلب فقد كانا فينا جوهريين علويين قبل أن نفتكر».


لماذا اعترفت مي بالحب؟

قد يبحث أحدنا في تاريخ مي زيادة كله، بل وتاريخ نساء العالم أجمع، ثم لا يجد إجابة شافية على مثل هذا السؤال!، فالسؤال الذي يجب أن يطرح نفسه هنا: لماذا تعترف أي امرأة بالحب؟، والمعروف عن النساء أنهن يتمنعن وهن الراغبات، فلماذا يا ترى ترغب أحيانا المتمنعات؟. من أروع ما قرأت في شأن عواطف المرأة هو تحليل الكاتب مصطفى محمود حين قال في كتابه «الأحلام»:

أنا لا أثق في عواطف البنت قبل العشرين؛ إنها لا تعرف ماذا تريد من نفسها، ولا أثق في كلامها بعد الثلاثين؛ لأنها تعرف أكثر مما يجب.

وبينهما لا ريب سنين من الحيرة والتيه والتساؤل. إن المرأة حقًا لكائن محيّر عجزت هي نفسها عن اكتشاف ذاتها ومشاعرها. نعود إلى سؤالنا الأصلي إذن: لماذا اعترفت مي بالحب؟، ألأنها تعبت من كثرة الكتمان على مدى السنين، أم لأن الكنايات والاستعارات والتعبيرات غير المباشرة عن الحب بينها وبين جبران أنهكت قلبها؟، أم أنها قررت أخيرًا أن تستجيب لطبيعة المرأة ورغبتها بالإفضاء عن مشاعرها؟، أم لأنه لم يوجد أي أمل آنذاك في التعبير عن هذا الحب وجهًا لوجه كبقية العشاق فآثرت مي الإفصاح عن السكوت والكتمان؟، أم لأنها خشيت أن يذبل الحب إذا لم تعرب عنه صراحة لحبيبها؟، ربما تكون الإجابة أحد هذه الأسباب أو بعض منها أو ربما كلها مجتمعة، فمن يدري كيف تفكر المرأة؟.


كيف انتهت قصة حبهما؟

أما حبهما فقد ظل خالدًا خلود المؤمنين الصالحين في الجنة؛ غير أنه كأي شيء في هذه الدنيا، كان لقصة حبهما خاتمة ونهاية كما كان لها مقدمة وبداية. فقد انتهت المراسلات بينهما بوفاة جبران في نيويورك عام 1932، ولما ينتهي حب مي له وعشقها لكلماته حتى لحقته بعد موته بثماني سنوات حيث توفيت في القاهرة عام 1941. وهكذا تراسل الحبيبان طوال حياتهما وكل منهما في أحد أنصاف الكرة الأرضية يراسل بشغف النصف الآخر، ولكن قلبيهما ظلا موحدي الزمان والمشاعر وإن باعدتهما المسافات والحدود والأماكن.

ولربما يشكك البعض في صدق حبٍ كانت كل تفاصيله على الورق. ولكن من قال بأن كل حبيبين التقيا قد عاشا قصة حب صادق؟، صحيح أن الحروف في كثير من الأحيان تغدو حبيسة الورق، وقد لا تلزم المحبين بشيء فعلي؛ بيد أنه في أحايين أخرى تنجح هذه المشاعر الإنسانية والرسائل القلبية في بث الحياة خلال عروق هذه الحروف، فلكأنها لقاء أدبي بطلاه الحبيبان وضيفاه القلم والورق!.