لم أكن متابعة جيدة للمسلسلات الأجنبية حتي مطلع هذا العام، كنت أقرأ عن المسلسلات وأهتم بمتابعة المراجعات حتى أظل ملمة بما يحدث حولي في العالم، ولم تكن حصيلتي من المشاهدة تتعدى أربعة مسلسلات، أحدها رأيته كاملاً بمواسمه العشرة أكثر من أربع مرات – لا بد أنك خمنت ما هو المسلسل – ولكن مع تعرفي أكثر على منصة نتفلكس، وبعد إلحاح رهيب من صديقتي المقربة، بدأت مشاهدة المسلسلات على استحياء في البداية، ثم أصبحت مهتمة فعلاً، ثم أصبحت المسلسلات هوسي الجديد، وتكونت لدي ذائقة لا بأس بها، تستهويني أنواع محددة من الدراما، أحدها الدراما النسائية، ولذلك فإن موضوع هذا المقال سيكون مسلسل Good girls.

فتيات طيبات

ثلاث صديقات، أختان وصديقتهما تجمعهن علاقة من نوع خاص، حيث إن صداقتهن تتعدى عمرها الخمسة وعشرين عاماً، كل واحدة منهن تعاني مجموعة من المشاكل المادية، رغم أنهن من بعيد يبدين بعيدات عن الفقر، ولكن لو اقتربت سترى واحدة يفشل زوجها في تسيير عمله الخاص وتتراكم عليهم الديون، وأخرى أم عزباء تعمل في أحد المتاجر التي تنتمي لسلسلة شهيرة، والثالثة تعمل مناوبات مضاعفة كي تستطيع أن توفر هي وزوجها علاج ابنتها المصابة بالفشل الكلوي، أعيتهن الحيل في الحفاظ على حيواتهن مستقرة مادياً، والثلاثة مهددات بفقدان كل شيء، يفكرن في السطو على المتجر الذي تعمل فيه إحداهن، والسطو يقودهن للانضمام لعصابة، وتتوالى الأحداث الإجرامية بالتوازي مع حياتهن العائلية.

المسلسل بطولة ريتا في دور روبي وقد أجادت تمثيل دور المرأة الدافئة، ربما ساعدتها بنيتها الجسدية ولون بشرتها في تصدير فكرة أنها مليئة بالدفء فعلاً، فالمشاهد التي تجمعها مثلاً برينو ويلسن الذي يقوم بدور زوجها ستان مليئة بالحميمية والصدق، وكريستينا هندريكس في دور بيث التي أجادت تقديم دور ربة المنزل التي سئمت دورها خاصة في المشاهد التي تجمعها بربات البيوت الأخريات من مدرسة أطفالها، هذه المشاهد تم تنفيذها بحيث تلمس الجمهور من النساء بسهولة، فحالة الانفصال بين ما يحدث على الواقع وما يحدث داخل عقل بيث وصراعها بين شخصيتيها قدمته هي بأفضل طريقة ممكنة، بوجه جامد (بوكر فيس) وملامح باردة، ولكن مع مشاعر مضطرمة تنفجر أحياناً فتوضح مدى ما تعانيه الشخصية من اضطراب، وماي وايتمان في دور آني والتي ساعدتها ملامحها الطفولية في تقمص دور الأم العصرية المتفهمة.

المسلسل ينتمي لفئة المسلسلات الاجتماعية الكوميدية البوليسية الخفيفة، توليفة لا تفشل غالباً في إحراز النجاح، خاصة إذا كان التمثيل جيداً والقصة مشوقة، المسلسل متاح على منصة نتفلكس، وقد صدر الموسم الثالث قبل ساعات فأصبحت الثلاثة مواسم متاحة الآن.

ألطف الكائنات!

يبدو الأمر مقروءاً غير منصف بالمرة، أنت تتخيل عصابة من النساء وتقرأ عن مسلسل جريمة كوميدي، لا بد أنك تخيلت أن الشخصيات شريرة بالأساس، أو على الأقل تحمل ضغائن وعقداً نفسية لن تقبلها ما لم يتم تغليف الأمر بالكوميديا حتى يسهل ابتلاعه، فالجريمة لا تتسق مع شخصيات سوية يمكنك أن تحبها بسهولة، خاصة إذا كان المسلسل اجتماعياً بالأساس، ولكن مسلسل Good girls يقدم وجهاً لم نلتفت له من قبل للجريمة.

ترى أم تسرق لأنها تحب أسرتها جداً، ولأنها بعد اثنين وعشرين عاماً من الزواج ما زالت تحب زوجها بجنون، وترى أن أسرتها على قائمة أولوياتها، تسرق من فرط الحب، على الجانب الآخر ترى أماً أخرى تسرق من فرط الملل، امرأة خذلت في علاقتها الزوجية وخانها زوجها، تسرق من انعدام الحب، وترى أماً ثالثة تسرق لأن علاقتها بوالد ابنتها متوترة، تارة يعترفان أنهما ما زالا يحبان بعضهما، وتارة أخرى يعترفان أنها علاقة محكوم عليها بالفشل، تسرق هذه المرأة لأنها لا تثق في الحب، وبين الثلاث قصص الكثير من التفاصيل العادية التي كان يمكن أن يناقشها أي مسلسل دراما اجتماعية لتبدو مملة ومكررة، يقدمها مسلسل Good girls في إطار الجريمة والتشويق والكوميديا، فتصيب الهدف بسهولة.

ورغم أن المسلسل تقوم حبكته في الأساس على الجريمة والكوميديا فإنه لم يغفل تفاصيل نسائية صغيرة تجعل المشاهد – أو بالأحرى المشاهدة – أكثر تعلقاً بالبطلات، فيمنح الثلاث نساء عادات يومية تتكرر على مدار الحلقات، فمثلاً روبي تعقص شعرها مرفوعاً وتعصب رأسها بإيشارب حريري قبل النوم، وترتدي منامات مريحة، أما آني فتضع أحمر شفاه ذا لون صارخ وتهذب حاجبيها بطريقة مبعثرة، أما بيث فلديها مجموعة متنوعة من مريولات المطبخ المنقوشة بنقوش مختلفة وتحرص على التسوق للبقالة يومياً كي تشتري اللبن يوماً بيوم، كلها تفاصيل تبدو غير مهمة وصغيرة ولا يمكن الالتفات لها، ولكن هذا ما يمنح الشخصيات وجوداً حقيقياً في أذهان المشاهدين ويربط الجمهور ببطلات المسلسل.

قصص كل يوم

الجميل في مسلسل Good girls ليس أنه يجعلك تتماهى مع الشخصيات ويمنحها أرواحاً حقيقية فقط، أيضاً هو يناقش بالتوازي مع المشاكل المادية مشاكل اجتماعية تعاني منها النساء، فقط اختارت نساء المسلسل أن تعالج مشاكلها بالجريمة، والتي لو نظرت لها دون أي وازع ديني أو أخلاقي سوف تجدها منطقية، بل وعادلة أحياناً، وأن طريقتهن في معالجة الأمور فيها نوع من التنفيس الذي تمارسه أنت للتخفف من الضغوط التي تتعرض لها من المجتمع، رغم أنك لا تعيش معهم، ورغم أن مجتمعك يختلف جملة وتفصيلاً عن مجتمعهم، ولكن – خاصة لو كنت امرأة – سوف تتفهم بسهولة ما يتعرضن له يومياً، وما عليهن مواجهته حتى تستمر الحياة، ولذلك أنت دوماً تبحث عن مخرج للعصابة من المشاكل التي يتعرضن لها، ليتمكن من مواجهة مشكلات حيواتهن العادية والتي لا تتعلق بحياة الجريمة.

المسلسل يناقش قضايا مجتمعية يمكنك أن تشعر أنها تمسك بشكل أو بآخر، فالتحرش وبيئة العمل غير الآمنة ليست حكراً على المجتمع الأمريكي، فأنت لو تابعت الأخبار المحلية في الأيام الفائتة لن تشعر أبداً أن مصير ليزلي في المسلسل كان يمكن تصنيفه جريمة، أي نعم لن تحل أي من الفتيات الحقيقيات مشاكلها بنفس الطريقة في الواقع، ولكن الشخصية الكريهة المسممة تلك موجودة، ولذلك فالمسلسل يكتسب أرضاً جديدة لدى المشاهد، الإحباط والخيانة والسعادة الزوجية المزيفة والمشاكل المسكوت عنها داخل البيوت، بل داخل الفراش الذي يتقاسمه الزوجان اللذان لم يعودا يعرفان بعضهما البعض، حقيقة واقعية عابرة للحدود واللغات والثقافات، ولذلك أنت تعرف ما تفكر فيه بيث، وتعذرها أحياناً، وتتعاطف معها دوماً، وتضفي معالجة المسلسل الكوميدية البوليسية نكهة حريفة لتعاطفك هذا، فتجعل الأمر ممتعاً أكثر.

الأم المعيلة، والعنصرية والرواتب المتدنية، بل والهوية الجنسية ومدى تقبل الآباء لأبنائهم المختلفين جندرياً، والتنمر الذي يتعرض له الأطفال في المدارس، مشاكل التأمين الصحي وتراكم ديون القروض ولعنة الفيزا كارد، كل هذا يناقشه المسلسل بسلاسة ونعومة من خلال حكايات الثلاث سيدات اللاتي يعالجن كل هذا بطريقة غير مشروعة ومرفوضة، تلومهم عليها مرة وتهز رأسك في تفهم لها مرات. مسلسل Good girls رغم أنه بطولة ثلاث نساء فإنه لم يقع في فخ الدرامية الزائدة، ورغم أنه مسلسل كوميدي خفيف لم يقع في فخ التسطيح.

فالمشكلات والمواقف التي تتعرض لها الثلاث صديقات على مر الحلقات تسلط الضوء على مجتمع يبدو مبهراً وجميلاً ولامعاً من الخارج، كجمال بيث وخفة دم آني وأسرة روبي المحبة المستقرة، ولكنه من الداخل يمتليء بالمشاكل التي لا تكفي الجريمة لحلها، وفوق كل شيء يثبت المسلسل في كل حلقة له أن أي طريق ملتو تسلكه لن يقودك سوى إلى المزيد من الطرق الملتوية، ولكنه يفعل ذلك دون الكثير من التنظير، ودون دروس تربوية، ولكن في إطار كوميدي لطيف قريب من الواقع وقريب من قلب المشاهد، بالأحرى أحياناً يشعر المشاهد – خاصة إذا كان هذا المشاهد امرأة – أن الصديقات الثلاث ينتقمن له من الواقع، ويحققن ما لا يستطيع هو تحقيقه.