الحياة رحلة يجب أن تسافرها مهما كانت الطرق سيئة وأماكن الإقامة بشعة.

بهذه الكلمات وصف الكاتب والشاعر الإنجليزي أوليفر جولد سميث الحياة. تلك الحياة التي عاينها في منتصف القرن الثامن عشر. لم يختلف الأمر كثيرًا عن ذلك ونحن نتحدث اليوم عن قصة حقيقية دارت في ستينيات القرن العشرين، ما زالت الرحلة ضرورية، وما زالت الطرق وأماكن الإقامة سيئة.

في فيلم «Green Book»، الحائز على 3 جوائز جولدن جلوب، والمرشح لخمس جوائز أوسكار، يخبرنا المخرج بيتر فيرلي برحلة حقيقية بطلها هو عازف البيانو الأمريكي من أصل أفريقي دون شيرلي، الذي صنع جولة موسيقية مذهلة في الجنوب الأمريكي في زمن التمييز العنصري ضد السود، رافقه فيها سائقه الأمريكي من أصل إيطالي توني ليب.

الرحلة إذن عن شخصين من عالمين مختلفين، وكيف تؤثر فيهما الظروف والحوادث، وكيف تستمر الحياة رغم ما فيها من ظلم وأسى. الرحلة أيضًا عن وطن عاني من أبشع صور العنصرية منذ فترة ليست ببعيدة، ولا مفر من رؤية هذا الجانب بعيون ترى صعود اليمين اليوم من الجنوب الأمريكي مرة أخرى وحتى البيت الأبيض.


كيف يصنع التغيير؟

بهذه الكلمات، وفي منتصف أحداث الفيلم تقريبًا، يفسر أحد أعضاء فرقة دون شيرلي ما يفعله هذا العازف الموهوب في مدن أشبه بالجحيم لكل من يبدو مختلفًا عن سكانها. هنا يكمن إحدى مميزات سيناريو الفيلم، فشخصية دون شيرلي وبقدر ما تتضمنه أفعالها من كرامة وشجاعة، إلا أن الرجل يبدو حقيقيًا وهشًا ومعرضًا للكسر في أي لحظة. هذا الطابع الإنساني يمكننا تلمسه في كل من يعانون لسنين طويلة في مجتمعات عنصرية أو ظالمة، وهنا يعاني دون شيرلي الأمرين.

يحارب الرجل من أجل إثبات نفسه، يتلقى الاحترام بشكل مؤقت نتيجة براعته في عزف الموسيقى الكلاسيكية وكل أنواع الجاز على البيانو، ولكنه يفقد هذا الاحترام بمجرد نزوله على المسرح، ليعاني من نفس الكبر والغطرسة التي يعامل الرجل الأبيض بها كل من يختلف عنه.

على الجانب الآخر يبدو السائق توني ليب بنفس القدر من التعقيد، فبرغم ما يظهره الرجل من قوة جسدية وميل إلى الاحتيال عن طريق الكلام فإن جوهر أفعاله يبدو طيبًا ولا يحمل أي قصد سيئ. نتعرف على الرجل في البداية كرجل أسرة محب للطعام بشكل شره، يستخدم لغة عنصرية في الحديث عن أصحاب البشرة السوداء، لكنه يبدو أيضًا غير مدرك لمضمون هذه الكلمات.

نتتبع إذن شيئـًا فشيئًا، وككل أفلام الطرق، كيف يتحول بطلانا، ليس للنقيض ولكن لجوهرهما الحقيقي والإنساني، الذي يبدو متشابهًا للغاية لدى البشر جميعًا على اختلاف مظاهرهم وأجناسهم.

يمزج بيتر فيرلي مع برايان كوري ونيك فاليلونجا (ابن توني ليب شخصيًا) بين الكوميديا والدراما ليخلقا رحلة ممتعة وجديرة بالمشاهدة.


علي ومورتينسن: كيف تدب الروح في الكلمات

هنا تبرز نقطة القوة الأهم في «Green Book»، الممثلون. تبدو براعة بيتر فيرلي الكبرى في اختياره لأبطاله، بحيث تتحول حكاية هوليوودية تسرد بشكل آمن إلى معالجة تدب فيها الحياة بتشوهاتها ونتوءاتها وتفردها.

فمن جانب قد تكون شخصية الرجل الأبيض صاحب الأفكار عنصرية الطابع الذي يتغير رأيه عقب رحلة مع رجل اسود كلاسيكية ونمطية للغاية. بمعنى آخر يمكن أن تقدم بشكل ينتمي لمبالغة عالم الأفلام أكثر من انتمائها لعالم الواقع، لكن تجسيد فيجو مورتينسن ينقل هذه الشخصية لمستوى آخر.

يضيف مورتينسن بعض التفاصيل الصغيرة التي تشكل صورة توني ليب الحقيقية في مخيلتك. يمشي توني ليب مثلًا بشكل خاص جدًا، بساقين متباعدتين وظهر مشرئبًا، هذا رجل قضى حياته في ضاحية برونكس الفقيرة وعمل لفترة طويلة في النوادي الليلية، يمتلك يدين قويتين يشير بهما كثيرًا أثناء حديثه. هذا رجل يكتسب قيمته من القدرة على الإقناع إما بالكلمات أو باللكمات. يضاف لكل هذا بطن بارز قليلًا يمكن ربطه بسهولة بشراهته وولعه بالطعام.

على جانب آخر نشاهد مارشالا علي في أداء استحق عليه جائزة الجولدن جلوب في فئة أفضل ممثل في دور مساعد، ويبدو قريباً جداً من جائزة الأوسكار في نفس الفئة هذا العام. يثبت «علي» هنا أنه مجسد حقيقي بحيث يقدم أداء مغايرًا تمامًا لما قدمه في Moonlight، فيلم المخرج باري جينكيس الحائز على أوسكار أفضل فيلم في عام 2017.

في «ضوء القمر» ظهر علي بجسد مفتول العضلات، بصوت سريع ونظرة واثقة تلائم رجلًا أسود اختار أن يثبت نفسه بلغة القوة. أما هنا في «الكتاب الأخضر» فإننا نراه دائمًا بجسد نحيل منطو للداخل، ويدين قريبتين دائمًا من جذعه، ونظرة حائرة مترددة بشكل مستمر. يبدو الرجل هنا مناسبًا تمامًا لجوهر دكتور دون شيرلي، عازف البيانو الكلاسيكي الذي يعاني من أزمة هوية طاحنة، ورغم كل هذا فإنه يحاول أن يثبت ذاته وعبقريته في مجتمع لا يعترف بقيمة البشر دون النظر لمظاهرهم أو أعراقهم.

تلك التفاصيل الصغيرة، الجسدية والنفسية، التي يضيفها الممثلون لشخصياتهم المكتوبة، هي ما تربطنا بهذه الشخصيات، كما تسحرنا كمشاهدين للسينما فتجمعنا برابط خاص مع الممثلين الذين يملكون هذه الملكة.


من الجنوب الأمريكي إلى البيت الأبيض

لا يكفي أن تكون عبقريًا، الأمر يتطلب شجاعة لتغيير قلوب الناس.

هنا تظهر قيمة هذا الفيلم في موسم مليء بأفلام مصنوعة عن تيمة العنصرية، بحيث يبدو «الكتاب الأخضر» غير مصنوع بشكل رئيسي لهذا الهدف، بل حتى يفوت الفيلم فرصة استغلال تيمة أخرى وهي المثلية الجنسية فيمر عليها سريعًا دون أن يتوقف.

اقتبس الفيلم اسمه عن كتاب حقيقي مثل دليلًا للمسافرين ذوي البشرة السمراء، عن الطرق وأماكن الإقامة الآمنة في الجنوب الأمريكي، في الفترة من بداية الثلاثينيات وحتى نهاية الستينيات.

وبرغم كون الفيلم غير غاضب أو ثوري في مواجهته للعنصرية، بحيث يمكن نقده بشكل سلبي خصوصًا في هذا العنصر، فإنه يقدم وبشكل أمين للغاية صورة حقيقية وبشعة لزمن الفصل العنصري في أمريكا، بحيث يضيف تسامح البشر في عالم الفيلم مع العنصرية بشاعة مضاعفة لأثرها على نفوسنا كمشاهدين.

هكذا يبدو الفيلم كتذكير بزمن ليس ببعيد، كما يبدو كجرس إنذار في زمن ينادي فيه الرجل الأبيض بعودة أمريكا لعظمتها، التي تبدو في مخيلته ليست ببعيدة عن أمريكا الستينيات.