تأتي الكتابة عن «جلال الدين الرومي» في هذه الأيام مغامرة محفوفة بالعديد من التحديات والمخاطر، فمن جهةٍ لا تزال رواية التركية «إليف شفق» (قواعد العشق الأربعون) تحتل أرفف المكتبات باعتبارها الأكثر مبيعًا، بل إن رواياتٍ أخرى ظهرت بعدها مثل رواية «نار العشق» لنهال تجدد، لم تستطع أن تسحب البساط منها أو حتى أن تقترب من مكانتها، ولكن يبقى أن الروايتين مترجمتان. عربيًا تبرز هذه الأيام ـ ومنذ فاز بالبوكر ـ رواية السعودي «محمد حسن علوان» المتميزة «موتٌ صغير» والتي تحكي عن الإمام الأكبر «محيي الدين بن عربي»

بين هذا وذاك تأتي رواية «أدهم العبودي» الجديدة؛ «حارس العشق الإلهي»، والتي ذيلها بعنوان «التاريخ السري لمولانا جلال الدين الرومي» محاولة هامة، تلفت الأنظار بدايةً إلى ما الذي يمكن أن يقدمه الكاتب في هذا المضمار الذي سبقه إليه آخرون، ثم وهو الأهم والأخطر ـ ما الذي سيضيفه في نفس تلك الحكاية التي تناقلتها الروايات، عن مولانا «جلال الدين الرومي» مرة أخرى، وصديقه المقرب «شمس التبريزي» وما دار بينهما وحولهما من حكايات.

اقرأ أيضًا:موت صغير ..حياة الإمام الأكبر ابن عربي

يقول «أدهم العبودي» إن دافعه الأساسي لكتابة الرواية لم يكن «جلال الدين الرومي» وﻻ تاريخه الصوفي المعروف، وإنما والده العالم الكبير «بهاء الدين»

حينما سئل «أدهم العبودي» عن دافعه الأساسي لكتابة الرواية في هذا الوقت بالذات، ذكر أن هدفه الأصلي لم يكن «جلال الدين الرومي» ولا تاريخه الصوفي المعروف، وإنما ما دفعه في الأصل كان الجريمة التاريخية التي قام بها التتار على غفلة من العالم، في محو وإبادة مدنٍ بأكملها من وجه الأرض في غزوهم الهمجي العنيف، والذي تزامن مع وجود أئمة ومعلمين كبار، عاصروا تلك المذابح وقاسوا ويلات الهرب بأنفسهم وعائلاتهم حتى لا يكونوا في عداد الأموات، وكان من هؤلاء العالم الكبير «بهاء الدين» والد جلال الدين الرومي.

من هنا يمكن أن يفهم القارئ ذلك التذييل لاسم الرواية «التاريخ السري» ويدرك أن المقصود ليس ما هو سري بقدر ما هو «غير معروف»، أو «متداول» في الروايات التي تحدثت عن «الرومي» وكل الحكايات التي تناقلها رواة الأخبار، هؤلاء الذين انصب اهتمامهم ومعرفتهم «بالرومي» بعد أن غدا على ماهو عليه، إمامًا ومُعلمًا وعلمًا من أعلام التصوف الإسلامي في عصره، ثم تلك العلاقة شديدة الخصوصية والفرادة التي جمعته فيما بعد «بشمس الدين التبريزي»

يعود «العبودي» بالتاريخ إلى لحظات نشأة «جلال الدين محمد بلخي» في مدينته «بلخ» بخراسان أواخر عام 615 هـ متناولا حديثه عن أسرته ووالده العالم الكبير، ورحتلهم المأساوية بعد اجتياح «التتار» لمدن فارس مدينة بعد أخرى، ويقف «الرومي» كأنه شاهد على ذلك العصر وما جرى فيه من مذابح إنسانية مهولة، ويعود بالتاريخ أيضًا لبدايات حياة «محمد بن ملك داد التبريزي» (شمس الدين) إلى مدينة «تبريز» في إيران عام 594 حيث تفتح وعيه ومعرفته بالله ومعها بدايات ترحاله وتنقله من مكانٍ لآخر بحثًا عن معشوقه الأول «الله»

بين هاتين الشخصيتين تظهر شخصية ثالثة هو «شاهين» ذلك الدرويش الأعمى الذي يتعرّف على «شمس التبريزي» في قونيةّ ويلزمه ويصادف أنه قد أحب «كيرا» التي ستصبح زوجة «الرومي» فيما بعد دون أن يراها، وهو الشخصية الوسيطة التي ينقل لنا من خلالها الرواي عددًا من «قواعد العشق» التي عرفت عن التبريزي.


كيرا وكيميا .. بناء جديد وشخصيات مختلفة

والذين قرءوا رواية «قواعد العشق الأربعون» لإليف شفق لا شك يعرفون «كيميا» ويتذكرونها جيدًا، تلك الخادمة التي كانت في بيت «الرومي» قبل أن يصل إلى «شمس الدين» والتي أحبته وهامت به عشقًا حتى تزوجها، ولكنه لم يتمكن من التواصل معها، وماتت في النهاية شهيدة حبها الجارف للدرويش الذي يبحث عن حب الله فقط؟

سيفاجأ القارئ هنا بكيميا أخرى مختلفة تمامًا، استعادها «العبودي» فلم يبق منها إلا على اسمها وزواجها من «التبريزي» ثم وفاتها بعد ذلك، أمَّا بقية التفاصيل فمختلفة تمامًا عمّا كانت عليه علاقتهما هناك، ففي «حارس العشق» نجد «شمس الدين» مغرمًا «بكيميا» أشد الغرام، متعلقٌ بها كل التعلق، يعيش معها خمس سنوات، يستفيض في وصفها ولا يقوى على العيش دونها حتى بعد أن تموت!

وهو لا يتعرّف عليها عند «الرومي» أصلاً، بل يبدو وقد تعرف عليها قبل ذلك وتزوجها، وكان يأمل أن يرزقه الله صبيًا منها، لكنها ماتت دون أن تحقق حلمه! ليبقى «الدرويش» على ذكراها ساخطًا على الله لأنه أخذها منه مرة، ثم يعتبر غيابها ذلك وسيلة من وسائل الوصول لله!

في الوقت نفسه يخلق «العبودي» لكيرا زوجة الرومي المسيحية، التي لم نكن نعرف شيئًا عن ماضيها قبل جلال الدين، يخلق لها ماضيًا خاصًا فيجعلها كارهة للرجال، تتعرض لحادثة اغتصاب داخل أحد أديرة النصارى، ويموت والدها من حزنه عليها، ذلك الأب الذي كان يعزف على الناس ويطربها عزفه، ثم يموت فتفتقده بشدة، يزوجونها بعد ذلك لأحد الرجال، ولكنها تهرب منه وتلجأ إلى الكنيسة التي تطلقها منه، لتذهب بعد ذلك إلى «جلال الدين الرومي» فيحبها ويتزوجها!

وليست المشكلة بالطبع في اختلاف الأحداث التي ظهرت بها تلك الشخصيات في الرواية، فمن حق الكاتب أن يؤلف ويتخيّل كما يحلو له، ولكن المشكلة هنا في جدوى ذلك الاختلاف والتغيير وأثره على بقية الشخصيات، فلم يكن مبررًا أن يتحوّل الدرويش الباحث عن حب الله الذي لا يتأثر في علاقته بأحد (حتى يجد الرومي) إلى ذلك الشخص الغريب، الذي بدا في آخر فصول الرواية كساحر تتحوّل على يديه الأشياء باسم العشق!

كما لم يكن مبررًا أبدًا أن تحمل «كيرا» ذلك الماضي الغريب غير المفهوم والذي لا يحمل دلالة درامية تختص العمل، ثم تكون «الكنيسة» هي من يسعى لتطليقها من زوجها ثم تصل فجأة دون مقدمات لتكون في بيت «الرومي».

كل ذلك بالإضافة إلى إقحام الكاتب بعض المشاهد غير المبررة في الرواية، مثل مشهد «العرس» الذي كان «الجميع يذوبون فيه كأنما يمارسون فاحشة معلنة.. يشربون الخمر ويتحرشون بالنساء اللاتي يرقصن ولو بأعينهم …» كل هذا يبرره مولاه الشيخ «ركن الدين السجاسي» قائلا «لا بأس من بعض الأنس والتسرية .. لسنا أرحم من الله بعباده يا شمس»!!

لا شك أنها كلها محاولات لخلق عالم مغاير ومختلف عمّا ألفه الناس وتعرفوا عليه (لاسيما في رواية إليف شفق) ولكن المشكلة، هل أفاد ذلك التغيير وهذا الاختلاف شيئًا إضافيًا مهمًا للشخصيات التي تناولها، أم أنه كان من الممكن أن تكون شخصيات أخرى ينسج حولها الكاتب ما شاء من قصص وتفاصيل وربما كان القارئ سيتقبلها منه مباشرة؟!


اللغة بين العامية ومحاولة التفاصح!

تظهر شخصيات مثل «كيميا»، و«كيرا» بشكل مختلف عما ظهرت به في «قواعد العشق الأربعون» ولكن ما جدوى ذلك الاختلاف وأثره علي بقية الشخصيات؟

بقيت مشكلة أخيرة وخطيرة جدًا وقعت فيها الرواية، التي تتحدث عن عصر سابق، وتحمل بالضرورة لغةً ومفردات لابد أن تتعلق كلها بذلك العصر، وتكون ناطقة بلسانه، لذلك لم يكن مستساغًا أبدًا أن تحمل الرواية بعض المفردات العامية التي تأتي في السرد وكأنها فصيحة مثل «هدوم»، و«سرسعة»، و«غرفة الطلق»، و«فلوس»، و«حلة كبيرة»، و«المصطبة»، و«يشوشر»، وغيرها بل وجملاً حوارية تبدو خاصة بالبيئة المصرية مثل «لا يبقى للست في الدنيا غير مهارتها في شؤون البيت»، و«سأعطيكِ البركة»، و«بالمرة نلعب»

كما بدا أن بعض الجمل الفصحى بحاجة إلى إعادة فهم أو تركيب، أفسدها محاولة جعلها جملاً ذات دلالات عميقة كأن تقول كيرا: «مصلاً يجيئ في صورة نسيان»، «شيئًا باطنًا يلهج في أحشاء لساني»، أو أن تقول «اختمار رأسي»، و«أكره صنفكم، كل الرجال نسخ لا نهائية من القمع والشهوانية»، «تخشبت أنامله في لحم ذراعي، ونشبت أظافره في عمق إحساسي»، «الذكريات التي يحتشد بها جوف عقلي»، أو «تتلاحق ساقاي في دروب متلاحمة»

أو أن نجد جلال الدين الرومي يتجاوز زمانه ليتحدث عن «التنوير الإسلامي» أو يصل إلى واحدة من منجزات العصر الحديث فيقول عن أثر «كيرا» عليه «كانت لمسة يدها كفيلة ببث الرعدة في أوصالي كأن سلك كهرباء عريانا قد مسني» أو يقول عبارات دون معنى مثل «تمرح روحي بين أغادير العشق الإلهي»، أو يخاطب كيرا فيقول لها «ليس هكذا تؤخذ الأمور»، ويحكي عنها «كانت عيناها تخبرني بكل ما يصطخب في أحشائها»، ويقول «شاهين» عن التبريزي؛ «يتريّض السماح والعفو في فؤادك دونما مقابل» ويذكر «شمس التبريزي» الخمر فيبدو كم يخرج من فيلم أجنبي إذ فيقول للساقي «أعطني كأسًا من الجعة»

هكذا ضاع كل المجهود، وكل البحث التاريخي (الذي يحرص الكاتب على وضع بياناته في المراجع في آخر الرواية) وضاعت كل الأفكار المختلفة والنوايا الطيبة لتقديم رواية جديدة عن «الرومي» في غياب تقمص واستحضار وتمثل الشخصيات والعصر بشكل حقيقي وكامل، ولم يعد القارئ قادرًا على استكشاف شيءٍ جديد مختلف في الرواية التي حملت على عاتقها وعد تعريفنا بجوانب عديدة سرية ومجهولة عن الرومي.

ولعل نماذج قريبة جدًا من «العبودي» قد استطاعت أن تقدم عوالم رواياتها باقتدار وتنقل قارئها إلى التفاصيل الدقيقة لما تحكيه وتتناوله، مثلما فعل محمد عبد القهار باحترافٍ شديد في رواية «غارب» عن الأندلس، وما فعله «علوان» طبعًا في رواية «موت صغير» عن ابن عربي والنماذج كثيرة.