منذ أن كنت طفلا صغيرا وأنا معتاد على صوتٍ قادم من راديو تضبطه أمي دائما على إذاعة القرآن الكريم، وعلى نفس الشاكلة كان هذا ما يحدث في بيوت غالبية المصريين الذين لا يعاملون القرآن فقط كنص مقدس يُتعبَد به وإنما يعاملونه أحيانا كوسيلة للحماية أو التبرك وأحيانا أخرى كوسيلة للمتعة وحينها تستمع لآهاتهم وصلاتهم على النبي وتهليلهم عقب انتهاء القارئ من كل آية.

وسط كل هذا كان هناك صوت خاص يعنى سماعه أن رمضان قد أتى، لم أكن قادرًا على تمييز صاحب هذا الصوت الملائكي حتى قدمته لي أمي، نحكي عنه اليوم ونتذكره ونتذكر زمنًا امتلأت فيه مصر بالمبدعين وكانت فيه مركزا لنهضة إذاعية أنارت المنطقة العربية بأكلمها، نحكي اليوم عن الشيخ «محمد رفعت».


أول صوت بشري يصل للمصريين عبر الراديو

في عام 1934 شهدت مصر ميلاد الإذاعة اللاسيلكية وافتتحت إرسالها بتلاوة الشيخ محمد رفعت «إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا»، كانت الإذاعة المصرية في ذلك الوقت بمثابة السحر الآتي عبر الأثير والقادر على إيصال صوتك لبشر بعيدين عنك بآلاف الكيلومترات، ومن حينها وانطلق صوت الشيخ رفعت كملمح خاص لتلك الإذاعة ومنذ السنة الأولى، تم التعاقد معه لتلاوة القرآن طوال شهر رمضان مقابل مائة جنيه. وقد كان رحمه الله زاهدًا في المال حتى يُحكى أنه قد رفض عرضا مقدما من «حيدر باشا» لإحياء ليالي رمضان في الهند مقابل ثلاثة آلاف جنيه وظل ملتزمًا بعقد المائة جنيه الخاص بالإذاعة المصرية.


حينما أثر الشيخ رفعت في الحرب العالمية الثانية

في تلك الأثناء أصبح صوت الشيخ رفعت علامةً مميزةً لشهر رمضان، حتى طُلب منه تسجيل الأذان بصوته وظل هذا الأذان هو المميز لشهر لرمضان على الإذاعة المصرية ومن بعدها التليفزيون المصري، وهو نفس الأذان الذي تستخدمه معظم القنوات الفضائية في رمضان حتى اليوم. وقد استخدم الشيخ فيه مقام «السيكا» الموسيقي مما جعله مختلفًا ومميزًا عن أي أذان آخر، حيث جرت العادة أن يرفع الأذان على مقام «حجاز».

ومن شدة تأثير صوت الشيخ محمد رفعت استخدمت الإذاعات الأجنبية الموجهة تسجيلاته وبثتها كي تجتذب المستمعين العرب والمسلمين، حتى أصبح صوته مألوفًا حتى لدى المستمعين الأجانب. وفي هذا السياق يحكي الإعلامى الكبير «حمدي الكنيسي» عن حادثة طريفة وعجيبة لم نستطع التأكد من صحتها، وهي أن طيارًا كنديا قد استمع لصوت الشيخ عبر إحدى تلك الإذاعات فأعجبه بشدة وقرر أن يتعرف على ما يرتله هذا الرجل واستمر به البحث حتى اعتنق الإسلام أخيرًا، لتنشر الصحف المصرية في تلك الأثناء أن هذا الطيار الذي وصفوه بأنه قائد القوات الجوية الكندية قد أشهر إسلامه تأثرا بصوت الشيخ محمد رفعت في تلاوة القرآن!


الشيخ رفعت دارسًا للموسيقى وعازفًا للعود

في هذا الزمان لم يكن التدين يرتبط في أذهان المصريين بالتشدد أو باعتزال المجتمع، وقد كان الشيخ رفعت معبرًا عن زمانه الجميل في هذا. فحينما أراد الشيخ أن يستزيد من العلم قرر أن يتعلم الموسيقى وأن يتدرب على عزف العود حتى أتقنه ثم حفظ مئات الأدوار والتواشيح والقصائد كما استمع إلى موسيقى «بيتهوفين» و«شوبان» وغيرهم وقد أثر ذلك كثيرا في طريقته في التلاوة فأصبح قادرًا على اختيار المقام الموسيقي المناسب لكل سورة ولكل آية حتى أنه أتقن الانتقال بين المقامات بصورة لم يستطعها موسيقيون كبار في ذلك الوقت.

ويروى أنه ارتبط بصداقة قوية مع العديد من مبدعي الفن في هذا الزمان ومنهم الموسيقار «محمد عبد الوهاب» والفنان الكبير «نجيب الريحاني»، وتروى السيدة «هناء رفعت» حفيدة الشيخ عن الموسيقار محمد عبد الوهاب قوله في أحد اللقاءات الإذاعية عقب وفاة الشيخ رفعت: «حينما يقرأ الشيخ رفعت القرآن أتحول إلى خادم وأجلس تحت قدميه».


عن الصوت الذي أحببناه دون أن نرى صاحبه

أحببنا صوت الشيخ رفعت لأنه لم يكتفِ بالتلاوة ولكن لأنه كان موسيقيًا بالفطرة يعرف كيف يلمس روح المستمعين بصوته وكيف ينقل معاني الآيات إلى قلوبهم، لم يسِر في طريق من سبقوه وإنما شق لنفسه طريقًا خاصًا به مسجلًا باسمه حتى اليوم، حاول تقليده كثيرون، اقترب بعضهم من صوته ولكن لم يقترب أحد من روحه وتصديقه لما يرتل.

وعن ذلك يروي الشيخ «أبو العنين شعيشع» أنه لم يشهد في حياته قارئا يتمثل الآيات ويتأثر بما يرتل حتى أنه يبكي دون أن يؤثر ذلك على ترتيله، سوى الشيخ محمد رفعت.

ولد الشيخ «محمد رفعت» في أسرة بسيطة بحي المغربلين بالقاهرة وفقد بصره وهو طفل وبدأ قراءة القرآن في مسجد بشتان والذي عُرف فيما بعد بمسجد مصطفى صادق باشا وقد ظل الشيخ يرتل القرآن فيه حتى نهاية حياته وفاءً منه لهذا المسجد الصغير الذي بدأ فيه مشواره.

تنقل الشيخ بين مساجد القاهرة ولكنه ارتبط بشكل خاص بمسجدي «السيدة زينب» و«السيدة نفيسة» وبعد إصابته بمرض سرطان الحنجرة في عام 1943 صارع المرض وباع كل ما يملك في سبيل العلاج حتى أن أحد الكتاب الصحفيين الكبار في ذلك الوقت وهو الكاتب «فكري أباظة» قرر أن ينشر صورته ويطلب من محبيه التبرع لإنقاذه إلا أنه في النهاية رفض قبول هذه التبرعات الضخمة.


النهاية: الشيخ يُدفن في البقعة التي ملأها ترتيلًا

كان الرجل زاهدًا وعاشقًا وكان حلمه أن يُدفن بجوار مسجد السيدة نفيسة حتى تقرر منحه قطعة أرض بجوار المسجد فقام ببناء مدفنه عليه، وقد كان من عادته أن يذهب كل يوم اثنين أمام المدفن ليقرأ ما تيسر من آيات الذكر الحكيم، وقد استمر على هذه العادة لمدة ثلاث سنوات متتالية حتى فارق الحياة في التاسع من مايو من عام 1950 وهو نفس يوم مولده ودُفن في نفس البقعة التي ملأها ترتيلًا بصوته الملائكي الذي يشعرك أنه قادم من السماء ولأول مرة.