احتاج الرئيس المصري المخلوع محمد حسني مبارك نحو عقدين في السلطة ليبدأ في اتخاذ خطوات جدية لتمهيد الطريق لابنه جمال من أجل خلافته، بينما احتاج معمر القذافي نحو عقدين ونصف من الزمن لفعل نفس الأمر مع ابنه سيف الإسلام، أما الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي فمن قبل أن يتولى مهام منصبه أواخر العام 2014، وهو يسعى لفرض ابنه حافظ كخليفة له في قيادة حزب «نداء تونس» وربما في الجلوس بقصر قرطاج يومًا ما.

لم يسع السبسي الأب الانتظار كثيرًا؛ مبارك والقذافي كان أمامهما عمر طويل للتمهيد البطيء لابنيهما، أما السبسي الذي سيحتفل بعيد مولده الـ92 في نوفمبر/ تشرين الثاني القادم لا يمتلك رفاهية الوقت، وكذلك السبسي الابن ذو الـ57 عامًا، لذا تم الإسراع في عملية طرح حافظ ليصبح رقمًا صعبًا في المعادلة التونسية، لكن العجلة في مثل هذه الأمور تأتي بنتائج عكسية، وهو ما يحدث الآن، إذ يسعى قادة في «نداء تونس» إلى الانقلاب على حافظ السبسي وطرده من الحزب الذي أسسه والده.


فلاش باك: تأسيس «نداء تونس» 2012

الرئيس التونسي «الباجي قايد السبسي»

كانت القاعدة الأولى – وربما الوحيدة – التي أسس الباجي قائد السبسي حزب «نداء تونس» عليها عام 2012، هي العداء للإسلام السياسي والقوى الثورية. لأجل هذا الغرض اجتمع طيفٌ متعدد المشارب من اليساريين والنقابيين والدستوريين (سليلي الحزب الاشتراكي الدستوري ووريثه التجمع الدستوري الديمقراطي) وعدد من الشخصيات والرموز الفكرية والنقابية والفنية وأسسوا «نداء تونس» للعمل على تصدر المشهد السياسي، وهو ما تم عام 2014 عندما نجح الحزب الوليد في تصدر الانتخابات التشريعية والحصول على نحو 40% من مقاعد البرلمان، وكذلك عندما نجح مؤسس الحزب ورئيسه السبسي في الانتخابات الرئاسية.

أجّل السبسي بذكائه وحكمته انفجار «نداء تونس» ذاتيًا عندما أخر عقد مؤتمره التأسيسي حتى انتهاء الانتخابات البرلمانية والرئاسية، خوفًا من تفجر الصراعات بين مكوناته غير المتجانسة. لكن هذا الحال لم يكن من الممكن استمراره بعد انتخابات 2014، فالجميع كانوا في انتظار تقسيم كعكعة الحكم وتوزيع الحصص، وهو ما أدى إلى تصاعد الصراعات المؤجلة.


حافظ السبسي يظهر

لم يكن حافظ السبسي معروفًا قبل عام 2012؛ لم يتول مناصب رسمية أو حزبية كبيرة ولم يكن فاعلًا مؤثرًا في الشأن العام. شارك بشكل غير رسمي مع السبسي الأب في تأسيس «نداء تونس»، وأصبح منذ ذلك الحين يتبع خطوات والده وهو يتجول بين المدن لحشد أنصاره تمهيدًا للمعارك المقبلة.

وفي عام 2013،برز اسم حافظ السبسي بعدما أسند له والده رئاسة لجنة الهيكلة والتنظيم بحزب «نداء تونس»، وهي مهمة دقيقة في الأحزاب السياسية بشكل عام، إذ تُمكن مديرها من التحكم في كل هياكل الحزب، لاسيما هندسة المؤتمر التأسيسي. ومن هنا بدأ حافظ في تكوين علاقات مع رجال أعمال الحزب، وخلق شبكة من الولاءات داخل هياكل الحزب ومكتبه التنفيذي مستفيدًا من منصبه الجديد ومن منصب وعلاقات أبيه.

اقرأ أيضًا: تونس اليوم: احتجاجات متجددة وفشل سياسي

طرح اسم حافظ خلال الانتخابات التشريعية عام 2014 لرئاسة قائمة الحزب بدائرة انتخابية مهمة بالعاصمة، لكن بعض الأعضاء المؤسسين بـ«نداء تونس» احتجوا على هذه الحركة التي خافوا أن تتطور لاحقًا لتصبح شكلًا من أشكال «التوريث السياسي»، فتدخل السبسي الأب وحسم الأمر على حساب رغبة ابنه، خوفًا من إحداث أزمة في الحزب.


السبسي الابن يقصي خصومه وحلفاءه

النجاح الكبير الذي حققه «نداء تونس» في الانتخابات التشريعية والرئاسية، أدى إلى تفجر الصراعات المكتومة وتحرك الأطماع الشخصية، فاحتدم الخلاف على الحقائب الوزارية وعلى الاستحواذ على المناصب في قصر قرطاج، وهنا كانت فرصة حافظ السبسي لتقوية نفوذه في الحزب، مستغلًا انشغال قادته في الصراع على المناصب الرسمية.

كان الصراع في البداية يدور حول هندسة القرار والتأثير في سياسات الدولة بين مستشار الرئيس اليساري الطموح محسن مرزوق، ورضا بلحاج الذي تولى إدارة الديوان الرئاسي، وأصبح أمين سرِّ الرئيس ومدير مكتبه. وحين لاحظ السبسي تفاقم الصراع في قصره، أبعد مرزوق وجعله أمينًا عامًا لـ«نداء تونس»، لكن عندما ذهب الأخير إلى الحزب وجده في قبضة نجل الرئيس.

تحالف حافظ قائد السبسي مع رضا بلحاج وقادا جبهة التيار المحافظ الذي يضم ليبراليين ورجالًا من نظام زين العابدين بن علي ورجال أعمال، للإطاحة بيساريي الحزب وعلى رأسهم أمينه العام محسن مرزوق. وانتهت الحرب بهزيمة مرزوق واستقالته من الحزب، لكنه لم يخرج منفردًا إذ استقال معه نحو 25 برلمانيًا من «نداء تونس» بالإضافة إلى عشرات الأعضاء الآخرين.

وفي خضم هذه الأزمة عقد المؤتمر التأسيسي لـ«نداء تونس» في سوسة مطلع عام 2016، وأصبح حافظ السبسي المدير التنفيذي للحزب، جاعلًا لهيمنته عليه صفة رسمية. لكن «نداء تونس» بعد مؤتمر سوسة لم يعد كما قبله، إذ أصر المستقيلون منه على موقفهم وهو ما أدى إلى فقدان الحزب الأغلبية البرلمانية لصالح حزب «النهضة».

حُمل رضا بلحاج مسؤولية الانشقاق الذي حدث في الحزب وإضعاف موقفه في البرلمان،فأقيل من منصبه بديوان رئاسة الجمهورية وأقصي من الحزب، وأصبح منذ ذلك الحين عدوًا لدودًا لصديق الأمس حافظ السبسي، ودخل معه في معارك قضائية، ثم أسس حركة «تونس أولًا».


حافظ والشاهد من المحبة إلى العداوة

الباجي قايد السبسي، تونس
الباجي قايد السبسي، تونس

مثل حافظ السبسي، لم يكن رئيس الوزراء التونسي الحالي يوسف الشاهد معروفًا للكثيرين حين أسندت إليه وزارة الشؤون المحلية في حكومة الحبيب الصيد 2016، ولم يهتم أحد به كثيرًا بعدما عُين وزيرًا لهامشية وزارته، لكن الأنظار سلطت عليه عندما دعمه «نداء تونس» – السبسي الابن لتولي رئاسة الحكومة، ووافقت عليه حركة النهضة شريك نداء تونس في الحكم.

كان حافظ يريد رئيس وزراء ضعيفًا من حزبه حتى يستطيع التحكم فيه وتسيير أمور الدولة كما يشاء، وكانت النهضة كذلك تريد رئيس وزراء ضعيفًا ويسهل إسقاطه، ووجد الطرفان في الشاهد ضالتهما، فكُلف بتشكيل الحكومة في أغسطس/ آب 2016، لكنه فاجأ الجميع. حاول الشاهد شيئًا فشيئًا توسيع دائرة تحالفاته وتقوية علاقاته، فمد يده إلى حركة النهضة وأطراف أخرى في البرلمان والساحة السياسية محاولًا الإفلات من قبضة السبسي الابن والاستقلال بالقرارات الحكومية عن «نداء تونس»، وهناك أحاديث عن نيته الترشح للانتخابات الرئاسية المقبلة.

وُوجهت مساعي الشاهد بهجوم حاد من حزبه ومديره التنفيذي، إذ اتهم حافظ الشاهد بتوظيف أجهزة الحكم ومستشاريه ووسائل إعلام لتشويه حزب نداء تونس لخدمة غايات وأجندات انتخابية سابقة لأوانها وغير مشروعة، والسعي لخلق توازنات جديدة عبر إحاطة نفسه بشخصيات سياسية ونواب بعضهم في كتلة نداء تونس ونواب الكتلة الوطنية (نواب منشقين عن نداء تونس) والتمدد نحو أحزاب أخرى.

اقرأ أيضًا:احتجاجات تونس والأفق الغائب

حاول السبسي الابن السيطرة على الشاهد مرة أخرى فلم يستطع، فأعلن أن الحكومة الحالية تحوّلت إلى عنوان أزمة سياسية، ولم تعد حكومة وحدة وطنية وطالب الشاهد بالاستقالة، فأبى الأخير واستعان بحركة النهضة التي أعلنت تأييدها له، ودخلت تونس في أزمة سياسية حادة.

استطاع الشاهد أن يؤلب الهيئة السياسية لـ«نداء تونس» على السبسي الابن، فأعلنت أطراف فيها يوم الأربعاء الماضي، عزل المدير التنفيذي حافظ قائد السبسي من الحزب، وتولي زمام الأمور باعتبارها الهيئة التنفيذية للحزب والمسؤولة عن تسييره بصفة جماعية، وذلك حتى انعقاد المؤتمر الانتخابي نهاية شهر سبتمبر/ أيلول المقبل. وأكد البيان وجود إجماع داخل الهيئة على الإبقاء على رئيس الحكومة يوسف الشاهد، والحفاظ على الاستقرار السياسي في البلاد.

وصف حافظ السبسي ما فعلته الهيئة السياسية بأنه «انقلاب» قامت به أقلية من نداء تونس لا يتجاوز عددها 10 أشخاص من 32 عضوًا هم العدد الممثل للهيئة السياسية للحركة، ووعد باتخاذ الإجراءات التأديبية اللازمة ضد ممارسي الدور التخريبي. وما زال الصراع قائمًا ولم يحسم إلى الآن.

هكذا قادت رغبة السبسي الأب في توريث نجله قيادة حزب «نداء تونس»، بمثل هذه السرعة وهذه الطريقة التي لم تراعِ طبيعة تكوين الحزب، إلى تفكك الحزب وحدوث العديد من الانشقاقات فيه، وهي انشقاقات من المرجح أن تزيد خلال الفترة المقبلة في ظل الاستقطاب بين الشاهد والسبسي الابن.