التاريخ عالمي الذي أجد فيه مكانًا لأحاسيسي وأفكاري، فيه تنبض الشخصيات دائمًا بالحياة وإسقاط رموزه على الواقع متعة كبيرة.
الكاتب محفوظ عبد الرحمن

لا يخفى على أحد ولع محفوظ عبد الرحمن بالتاريخ، فنظرة عابرة على سجل أعماله الممتدة بين المسرح والتليفزيون والسينما (سليمان الحلبي، عنترة، ليلة سقوط غرناطة، بوابة الحلواني، أم كلثوم، ناصر 56 … إلخ) تخبرنا أن التاريخ هو المدار الذي يدور فيه غالب أعماله، وأنه أكثر مؤلف درامي تناول التاريخ العربي في كتاباته. التاريخ عند صاحب «بوابة الحلواني» هو مسرح الدراما البشرية في صورتها الكلية، حيث الكل جائع لشيء ما (فالتاريخ كله كرسي وفكرة وكسرة خبز وخفقة قلب)، التاريخ جدل السلطة والشعب، وسرديات الحلم والسقوط والمقاومة.

يبحر محفوظ عبد الرحمن في أزمنة التاريخ العربي، ليلقي بمرساته على شط لحظاته الكبرى، لحظات سقوط وصعود الحلم وتبدل المصائر. لا يعيد حكي التاريخ، بل يخلقه من جديد في نسق جمالي وفني يستدعي الحاضر والتاريخ معًا، ويستشرف الآتي في ثنايا هذه الحكايات.

يختار كاتبنا الكبير كنقطة انطلاق لعمله الأيقوني والمركزي في مسيرته الإبداعية، «بوابة الحلواني»، لحظة بدء أعمال حفر قناة السويس، وهي لحظة فارقة في تاريخ مصر وفي الدراما المحفوظية، ليقدم بعدها، وفي أربعة أجزاء، نظرة بانورامية على الحياة في بر مصر في زمن يمتد ليشمل تقريبًا فترة حكم الخديو إسماعيل لمصر، وهي فترة تاريخية لم يتطرق لها الأدب أو الدراما من قبل.


الذين سقطوا من التاريخ

حكى محفوظ في أكثر من حوار معه عن اللحظة التي قادته إلى كتابة عمله الملحمي بوابة الحلواني، فقد اكتشف داخل دار الوثائق بالصدفة وثائق نادرة تصور الحياة اليومية القاسية وغير الإنسانية للعمال الذي حفروا قناة السويس، والتي أفضت إلى موت حوالي 120 ألفًا منهم في زمن كان عدد سكان مصر لا يتجاوز أربعة ملايين نسمة.

هذه الكارثة الإنسانية دفعت محفوظ للتفكير في كتابة عمل يسرد يوميات حفر قناة السويس تخليدًا لذكرى الذين رحلوا في صمت مهين، لكن ضياع هذه الوثائق بعد ذلك نحا بالعمل نحو الشكل الذي رأيناه عليه في النهاية.

رغم تبدل الشكل النهائي للعمل، ظلت هذه المأساة أحد شواغل السرد الدرامي، فالحديث عن السخرة وعمال الحفر تردد كثيرًا داخل السرد، بالإضافة لافتتاح أغلب حلقات الجزء الأول من المسلسل الذي ينتهي بإتمام حفر القناة، بمشهد لعمال الحفر مع أغنية من كلمات سيد حجاب، وألحان بليغ حمدي، تصف معاناتهم وتؤطر مأساتهم. محفوظ هنا يدفع بهؤلاء المنسيين إلى مقدمة مشهديته.


بين حب السلطة وسلطة الحب

يذكر في أدبيات التصوف أن آخر ما يخرج من نفس الولي هو حب السلطة. هذا الاستبصار السيكولوجي للحكمة الصوفية يضع الرغبة في التسلط كأحد أكثر الرغبات تأصلًا في النفس البشرية. هناك انشغال واضح في نصوص محفوظ عبد الرحمن بفكرة السلطة، أحلامها الخطرة وكواليسها المظلمة والرغبة فيها التي لا تفلت أحدًا حتى أكثرنا براءة، ثم علاقتها بضحاياها.

في بوابة الحلواني تنويعات كثيرة على لحن السلطة، الكل في مهب سلطة ما بداية من السلطة السياسية، حتى سلطة العواطف والحب. آثارها تنال الجميع، تجد ذلك في انفراط عقد عائلة الحلوانية بعد أن قضى القائمون على مشروع القناة على سلطانهم القديم، وتجده في أجساد عمال السخرة التي تتلوى تحت سياط السلطة، وفي عذابات المحبين تحت سلطان القلب.

السلطة دائرة متحركة لا بد أن تلمس الجميع عند نقطة ما، حتى الأكثر تسلطًا هناك من يمارس عليه سلطة ما. «الخديو إسماعيل/محمد وفيق» هناك سلطة الباب العالي والنفوذ الأوروبي. «إسماعيل المفتش/أسامة عباس» وهو أكثر شخصيات العمل تسلطًا، نجده خاضعًا وذليلًا أمام سلطان «أشرقت/سمية الألفي» المرأة ذات الألف وجه كما تصف نفسها، هي أيضًا نجدها مكسورة تحت سلطان حبها لـ «حمزة الحلواني/خالد النبوي».

برع محفوظ هنا في تجسيد طبيعة السلطة ونسيجها اللانهائي، فالملاحظ في علاقات السلطة هنا أنها تتجاوز ما هو اجتماعي أو طبقي، وكأننا أمام مبدأ كلي حاكم خفي وظاهر وموجود في كل شيء.


انكسار الحلم: دوائر الأنين والحنين

بحلم يا صاحبي وأنا، وأنا لسه بأحبي بدنيا تانية ومصر جنة يا صاحبي وآجي أحقق الحلم ألقى الموج عالي، عالي، عالي طاح بي ونعود سوا نطوي الأنين بالحنين
سيد حجاب – المقدمة الغنائية للمسلسل

يلمس سيد حجاب هنا وترًا خفيًّا في سردية محفوظ الملحمية، فالنهر الرئيسي الذي يشق هذه الملحمة من بدايتها إلى نهايتها هو الحلم، حلم إسماعيل لمصر، حلم الدولة الكبيرة التي تضاهي أوروبا. الحلم الذي ينتهي بخلعه، وبمصر غارقة في ديونها.

سيد ومحفوظ هما من أبناء التجربة الناصرية الذين تعمدوا بأحلامها الكبيرة وهزيمتها المرة. وهو إذ يعود هنا إلى زمن الخديو إسماعيل، يعود إلى بداية الحلم باعتبار التاريخ مقدمة منطقية لما سيحدث في المستقبل، أو كأنما التاريخ يعيد نفسه، فنحن أمام تجربتي متماثلتين تنتهيان إلى نفس النتيجة. تنتهي تجربة إسماعيل بغرق مصر في الديون، وتنتهي تجربة عبد الناصر بهزيمة عسكرية ثقيلة.

ينكسر الحلم مرة بعد أخرى ونغرق في دوائر الأنين والحنين. لكن محفوظ في عودته هذه ليس متشائمًا، ربما يشبه شخصية «شلش الحلواني/عبد الله غيث» الرجل الذي فقد سلطانه القديم. يقول شلش في أحد حواراته المكسوة بالحزن:

في الزمن الردي اللي احنا عايشين فيه، الراجل العاقل هو اللي يعترف إنه اتهزم.
وفي حوار آخر يقول:
كل حاجة حلوة بتنتهي، لكني مش متشائم.

نص محفوظ في جوهره هو نص آخر من سرديات انكسار الحلم، التي طغت على إبداع أبناء جيله. إنه اعتراف غير متشائم بالهزيمة وحنين إلى حلم جديد مستعاد.

إنجاز محفوظ في هذا العمل الكبير يكمن في الأساس في تحويله جفاف التاريخ إلى شيء بهذا الخصب الدرامي، بناء محكم، شخصيات شديدة الجاذبية وحوار شديد التكثيف والشاعرية. حكاياته التي ترتدي ثياب تاريخ محدود تبدو متجاوزة لفكرة الزمن، فهي تعكس أشواق الإنسان في المطلق، أحلام السلطة، الحب، العدل والحرية.