لم يعد التجريب غريبًا على الرواية العربية الحديثة، بل ربما أصبح من المعتاد أن نجد بين كل خمس رواياتٍ جديدة رواية يجنح صاحبها في إعادة تشكيل بينة الرواية المعتادة وخلخلتها بما يتلاءم مع حكايته وسرده، وبالتالي يقدم على تجريب طرقٍ جديدة في الكتابة، ربما تلقى رواجًا واستحسانًا لدى القارئ/المتلقي وربما لا تجد ذلك الاستحسان والرواج، فيبقى للكاتب فضل الاجتهاد في عرض حكايته على هذا النحو، وربما يعيد محاولاته التجريبية في أعمالٍ أخرى قادمة.

إلى نحو هذا يشير الناقد المغربي «محمد برادة» في كتابه «الرواية العربية ورهان التجديد» الذي يؤكد فيه أن «التجريب» في الكتابة الروائية قد اكتسبت دلالات أخرى ربطته بالبحث عن أشكالٍ جديدة تكسر المنوالية، وتتمرد على القوالب الكلاسيكية الموروثة. مما جعل كل مبدعٍ يخوض مغامرةً في البحث عن شكٍل ومضمونٍ غير مسبوقين، يكونان قادرين على تمثيل الجوانب المميّزة في تجربته الروائية.

انطلاقًا من هذه النقطة يمكننا قراءة رواية الروائي الكويتي «سعود السنعوسي» الجديدة الصادرة مؤخرًا عن الدار العربية للعلوم «حمام الدار.. أحجية ابن أزرق». حيث عمد فيها الكاتب إلى بناءٍ جديدٍ مختلفٍ كليةً عمّا ألفناه ليس في رواياته السابقة فحسب، بل وفي الرواية العربية بشكلٍ عام، وإن كان يقترب ولو بشكلٍ ظاهري مع عددٍ من التجارب السابقة عليه، لاسيما في الإطار العام، وإن بقي مضمون روايته وطريقة سرده جديدًا كليّة بل يحوي قدرًا كبيرًا من المغامرة.

تقوم الرواية على قسمين كبيرين، سماهما السنعوسي؛ «العهد القديم»، و«العهد الجديد». يأتي السرد في كل قسمٍ منهما على لسان راوٍ مختلف بين «عرزال بن أزرق»، و«منوال بن أزرق» على هيئة فصول صغيرة/صباحات مقسّمة بدورها بين مذكرات السارد/الراوي وبين هيئته الحالية التي يحكيها راوٍ عليم، ولكنّه لا يكتفي بذلك، بل يجعل في القسم الأوّل «مشروع رواية» لم يكتمل يسميه «نصٌ لقيط» وفي الثانية «نصٌ نسيب»

أنا أعرف القليل عن شخوص روايتي قبل الشروع في كتابتها، ومن ثمّ أتعرّفها أكثر أثناء الكتابة، تًسلمني نفسها طوعًا. تتكشَّف أمامي صفحةً تلو صفحة، أمّا بطلي المزعوم فلم أعرف عنه قليلاً قبل الكتابة، ولم يتكشّف لي كثيرٌ أثناءها. حاولت أن أكمّل ما كتبت لعلّي أصل إلى أي شيءٍ .. أي شيءٍ يفسّر لي غيابي مع شخصيةٍ أجهلها تمام الجهل، فصولٌ خمسة يمثّل كل فصلٍ منها صباحًا انتقيته من صباحات شخصية كهلٍ مضطربٍ مملٍ مريب منصرف عن كل شيءٍ إلا بضعة اتهامات تلفها الغرابة .

على هذا النحو يكسر «السنعوسي» إيهام القارئ بأن ما أمامه هو روايةُ عادية مألوفة، يتم القارئ قراءة فصولها فتتم له بذلك الحكاية، وإنما هو إزاء نصٍ جديد، وتجربةٍ مختلفة، يخوضها بين القراءة واستعادة القراءة مرة أخرى لاستكشاف هذا العالم والربط بين أجزائه وما ظهر منها وما بقي خافيا غامضًا، ذلك أنه سيكون إزاء روايتين في الواقع، يكشف بينهما ليس السارد هذه المرة، بل شخصيات الرواية نفسها التي تثور وتتمرّد على الحكاية لتروي الحكاية مرة أخرى في «العهد الجديد» بطريقةٍ مغايرة . حتّى تتكشّف له أبعاد الأحجية/اللغز.

بين هذا وذاك تبدو الرواية مهمومة بعددٍ من الأسئلة الإشكالية الكبرى، التي يطرح بعضها بشكلٍ واضح، رغم ما في الرواية من اختلافٍ وغموض، إذ تطرح بدايةً مسألة الفارق أو المساحة المتروكة دومًا بين الوجود والعدم والغياب والحضور وكذلك الحقيقة والخيال، وهي في إثارتها لتلك الأفكار والقضايا لا تتوقف عن العلاقة بين المؤلف وشخصيات روايته فحسب، بل ربما تشير ـ ولو من طرفٍ خفي ـ إلى علاقة الإنسان بخالقه من جهةٍ أخرى، هل نعيش وفق أدوارٍ محددةٍ لنا سلفًا، أم أن بإمكاننا التمرد على تلك الرواية وذلك الدور الذي وجدنا أنفسنا فيه، وإعادة صياغة العالم وتشكيله وفق قناعاتنا الشخصية ووفق رؤانا الخاصة! يأتي ذلك مثلاً في حواريةٍ شديدة الذكاء بين بطل الرواية «عرزال»، و«فطنة» إحدى بطلات الرواية، تقول له:

لا شأن لي بالروائيين الآخرين، أنا هنا رسولةٌ ممن كتبني، كاتبنا وراء السقف مانح الحياة الذي يرى كل شيء. يومئ لكِ آسفًا. حسنٌ لو هو يراني قطنة، هو لايعرفني، لأنه يظن أنه أوجدني من العدم، أنا سأعرفه لأنه أوجدني على شاكلته! هل تفهمين؟! تشيرين برأسكِ نافيةً. يواصل الوغد إفضاءه. هو لا يدري أنني هو. أنا أدري. تلتصقين به ترتعشين. إياكِ أن يقنعكِ بجنون أفكاره. نبهيه. أنت تقول أشياء غريبة عزرال! سوف يحيط جسدك بذراعيه يهمس بأذنك: الروائيون مرضى، ينفسون عن معاناتهم ويستزيدون بالكتابة تعويضًا لنقصٍ في نفوسهم! … أيَّ سلطةٍ تمنح كاتبكم المزعوم الحق بأن يكتبنا وفق ما يريد؟

تتكشّف الرواية للقارئٍ بشكلٍ تدريجي، ويبدو «السنعوسي» حريصًا على تصعيد الأحداث بشكلٍ بسيط، حتى إذا ما انتهى من الرواية تمامًا انكشفت له كل الخيوط، وأدرك ما كان من أمر ذلك البطل الكهل وما تركه على تلك الحالة الغريبة التي جعلته وتجعله حائرًا وغامضًا ومريبًا، إذ تطرح الرواية كذلك فكرة الغياب والحضور، والأثر الذي يلفه الغياب على الحاضرين المنتظرين عودة من يغيب، تلك الفكرة التي لا تطرح مرة واحدة بهذه الكيفية البسيطة، بل يطرحها «السنعوسي» مرتين، يبدأ في الرواية بطرحها بشكلٍ رمزي باستدعاء «حمام الدار» الذي يُفترض أنه «لا يغيب» على حد وصف السارد، ثم نكتشف في نهاية الرواية أن ثمة غائبين أكثر أهميةً وخطورة غير الحمام.

تجدر الإشارة في النهاية إلى أن «التجريب» الذي عمد إليه «السنعوسي» في روايته ليس مجرد حيلةٍ شكلية، أو مجرد محاولة للاختلاف والتغيير، وإنما هو موقفٌ خاص من الفن وطريقة لرؤية العالم، استطاع «سعود» أن يجعل من هذا البناء على هذا النحو طريقةٍ مغايرة لاستفزاز القارئ، لإعادة القراءة واستعادة التعرف على الشخصيات من وجهات النظر المختلفة، لاسيما وأن بعض مقدمات الفصول ستتشابه بين الروايتين، مما يجعل دور القارئ هذه المرة مهمًا لكي تتكشف له خيوط الرواية كاملةً. وهو رهانٌ آخر يخوضه «السنعوسي» بكل جدية لاكتساب قارئ مختلف مغاير، قادر على استكشاف عالم الرواية والبحث فيه حتى تتحقق له متعة القراءة كاملة.

ويجب ألا ننسى أن هناك نصًا موازيًا للسرد الروائي الذي قدّمه «السنعوسي» في روايته، يتمثّل في اللوحات العشر التي افتتح بها كل فصل من فصول روايته، تلك اللوحات التي رسمتها الفنانة «مشاعل الفيصل» والتي رسمت في غلاف الرواية صورةً موحية ودالة جدًا على حالة بطل الرواية المنقسم لاثنين مع غياب قدميه ويديه، ووجود طائر يراقبه عن كثب، جاءت اللوحات الداخلية أيضًا معبّرة عن تحولات أبطال الرواية ومساعدة لتوصيل الحالة التي يتناولها السرد.