لزوجي صديق مقرب تعرفوا في الجامعة وظهر معدن هذا الصديق تحت ظروف شديدة الوطأة مر بها زوجي وقتها واستمرت سنوات شداد. عائلته كلها تعرف من هو «أيمن»، يتندرون بأصله وأخلاقه وجميل صنعه، يدعون له منذ تقابل الاثنان منذ أكثر من خمسة عشر عاماً وإلى الآن، تعرفت عليه بالتوازي مع تعرفي على زوجي، حكى لي عنه كثيراً جداً، الوحيد الذي قطع مائتي كيلو متر في جو شتوي قارس البرودة كي يحضر زفافنا الذي أقيم في محافظتي، بعيداً عن القاهرة التي يسكن بها وبعيداً عن مسقط رأسه.

نحن الآن نسكن في نفس المدينة الجديدة التي يسكنها أيمن مع أسرته، منذ أن انتقلنا للسكن متجاورين تفصلنا عدة أحياء فقط، ورغم أن صداقتهما أصبحت صداقة أسرية، إلا أن عدد المرات التي تقابل فيها الصديقان لا يمكن أن تتخطى بأي حال من الأحوال العشر مرات في أكثر من 6 سنوات، في المرة الأولى التي استمعت فيها لأغنية «فاضي شوية» بعد صدورها بدقائق، نظرت لزوجي بدهشة وأخبرته «حمزة نمرة عمل أغنية لأيمن!».

في كل أسبوع يوم أربعاء

منذ أكثر من شهر أعلن حمزة نمرة، المطرب المصري أنه بصدد طرح ألبومه الجديد، ونظراً للكثير من الظروف التي يمر بها نمرة مع وطنه، فقد تقرر طرح الألبوم رقمياً بمعدل أغنيتين في الأسبوع كل أربعاء.

حمل الألبوم اسم «مولود سنة 80»، وبالتالي فقد حدد نمرة أن الألبوم موجه لجمهوره الأصلي الذي غنى معه منذ سنوات طوال «احلم معايا»، والذي حضر حفلاته التي كان يهتف فيها الجمهور بمنتهى الحماس «بلدي يا بلدي»، والذي ردد معه بصوت خافت «ارفع راسك إنت مصري إنت وقفت جمب جارك في اللجان». الجيل الذي خُدع مرة واحدة وللأبد وتغنى بمنتهى السذاجة بكلمات نبيلة رومانسية وساذجة جداً مبتسماً ببلاهة وهو يترنم «ياما نفسي اعيش إنسان قلبه على كفه.. كل اللي بردانين في كفوفه يتدفوا»، هذا هو الجيل الذي يعرف حمزة نمرة، والذي يبكي تقريباً منذ صدور أغنية «داري يا قلبي» منذ عامين، والذي تحمس عندما عرف خبر «مولود سنة 80» وجهز نفسه لأسابيع طويلة من البكاء.

في اليوم الذي صدرت فيه أول أغاني الألبوم والتي حمل عنوانها، كانت حوائط التواصل الاجتماعي مترقبة، كل من يحملون على عاتقهم أكثر من 30 عاماً يسألون بعضهم البعض «فيها عياط؟/هنحضر المناديل؟/الشحتفة جامدة وللا عادي؟»، وانتشرت الكثير من الكوميكس تقول إن من يستمع لحمزة نمرة لابد وأن يحزن لأنه مغترب، ولأنه فقد كل أصدقائه رغم أنه من الممكن أن يكون جالساً على المقهى تحت البيت ويستمع للأغنية مع أصدقائه بالفعل ولكنه تأثير نمرة، لابد أن تشعر أن عمرك ينقضي وأن هناك ما يجب أن تبكي بشأنه.

تعاون حمزة نمرة في الألبوم مع عدد من الشعراء والموزعين مثل الكاتب عمر طاهر، والشعراء محمد السيد وحازم ويفي وسامح خيري، ومحمد الشافعي وخليل عز الدين. أما في التوزيع فقد تعاون في هذا الألبوم مع كريم عبد الوهاب ومصطفى نجم وأحمد نصر الدواوي. صدرت معظم الأغنيات مصورة فيديو كليب، وقد كان الألبوم الجديد فرصة لظهور حمزة نمرة مرة أخرى على المنصات الإعلامية المصرية بالكثير من الاحتفاء وكأنها فرصة جديدة تلوح في الأفق لحل الخلافات القديمة، ولتوضيح وجهات النظر وربما البدء من جديد.

جمهور كبير .. حرفياً

فاضي شوية.. نشرب قهوة في حتة بعيدة..
اعزمني على نكتة جديدة وخلي حساب الضحك عليا..
فاضي شوية دة انا وحشاني القعدة معاك وان معرفتش تيجي هناك هستناك المرة الجاية».

هذه هي الكلمات التي اكتسحت سوشيال ميديا جيل الثمانينات في الأسبوعين الأخيرين، أغنية «فاضي شوية» التي كتبها خليل عز الدين شاعر العامية الشاب ولحنها حمزة نمرة، والتي تصدرت القوائم العربية على منصة سبوتيفاي، وتخطت الخمسة عشر مليون مشاهدة على يوتيوب.

الأغنية التي داعبت قلوب الجيل المولود سنة 80 فعلاً، الجيل الذي تسابقه ثلاثيناته على الانتهاء، الجيل الذي أصبح أكثر هدوءاً واتزاناً واعترافاً بالمسئوليات، الذي كف عن الحماس والصخب وأصبحت أقصى –وأقسى– طموحاته أن يقابل صديقه الوحيد الذي يعرفه حق المعرفة ليتبادل معه الحكايات، وقد كتب حمزة نمرة أمس على صفحته الرسمية على موقع فيس بوك تحديثاً للحالة سأل فيه المتابعين عن أكثر الجمل التي علقت بأذهان المستمعين من الأغنيات التي صدرت حتى الآن من ألبومه، وإلى اللحظة التي كتب فيها هذا المقال كان هناك سبعة عشر ألف تعليق، وقدر ما يتيح لك وقتك في تصفح هذه التعليقات –أنا فعلت– ستجد أن كلمات «فاضي شوية» مكتسحة لتعليقات المتابعين.

جمهور حمزة نمرة المولود سنة 80 أصبح كبيراً، لذلك سوف تجد الأغنيات التي حصلت على تفاعل قوي من المستمعين هي الأغنيات التي تشرح حالات النضج والمآسي المرتبطة به، أغنية «الوقعة الأخيرة» مثلاً كانت مناسبة جداً لهذا الجيل.

أنت في الثلاثينات الآن فلابد أنك صادفت نصفك الآخر الذي لابد وأن واجهتما معاً العراقيل، ربما تم تسريحك من عملك، انتهى عقدك في هذا البلد البعيد، لم تجد سفراً أصلاً لنفس البلد البعيد، ربما فقدت عزيزاً. الثلاثينات تعج بالمآسي –العادية جداً بالمناسبة– التي شعرت فيها أنها ربما الوقعة الأخيرة، فجاءت هذه الحسناء –أو التي كانت حسناء قبل الإنجاب– لتنتشلك من هذا الضياع، حياة عادية تحدث لنا جميعاً، ولذلك فقد ضربت وتراً موجوداً عند الكثيرين فنجحت الأغنية.

عشر سنوات

«أحكيلك خوفي» تلعب في نفس المنطقة، ومولود سنة 80 نفسها، كلها أغنيات تصلح تماماً لتمثيل هذا الجيل المرهق الذي بلغ من العمر عتياً وهو لا زال في قمة سنوات شبابه، بالكثير من العادية –ربما الكليشيهية– ولكن من قال إن التفكير داخل الصندوق سيئ؟

على العكس تماماً، فالجميع أصبح يفكر خارج الصندوق للدرجة التي جعلت الأفكار داخل الصندوق تصبح جديدة مرة أخرى لأن الجميع نسيها. الكليشيهية تصلح غالباً لشرح مشاعرك المعقدة، ولذلك فقد قمت أنا شخصياً رغم سخريتي الدائمة من الكليشيهات والتكرار بإرسال أغنية «فاضي شوية» لصديقة روحي التي لم أرها منذ سنوات طويلة والتي تسكن هذا البلد البعيد، وقد بكيت وأنا أضغط على زر الإرسال.

كترت بينا الوشوش، قلت بينا الأمانة ياه عالبراءة حوش مبقاش ياكل معانا..
حافظين الدمعتين فتعملوش حزانى طب إيه مبتختشوش باردين أوي بأمانة.

هل ترى معي البراءة التي تقطر من كلمات الأغنية؟ كانت هذه أغنية «الوشوش» التي غناها حمزة نمرة منذ ما يقارب العشر سنوات، وأحدثت ضجة وقتها بين مستمعيه.

أغنية غاية في السذاجة والبراءة تتحدث عن الناس «الوحشين»، وقتها كنا نشعر أننا في منتهى الخطورة ونحن نتغنى بكلمات ساذجة مثل هذه الكلمات، باردين أوي بأمانة! ياللبراءة، لابد أننا كنا ندندها ونحن نغلق الزر الأخير من القميص ونقف مفرودي الظهر في انتظار موعد المقابلة الشخصية لوظيفة أحلامنا وقتها.

منذ عدة أسابيع أصدر حمزة نمرة ضمن ألبومه الجديد أغنية بعنوان «استعيذوا» كتبها منتصر حجازي ولحنها حمزة نمرة ووزعها أحمد نصر الدواوي. اللحن ذو طابع فولكلوري والتوزيع يتضمن آلات شعبية كالمزمار والرق، الفيديو كليب مليء بالرسومات الفولكلورية والرقصات المصرية الشعبية، الأغنية نفسها تحمل عنوان المشروع الشعبي، تقول كلماتها:

استعيذوا من شرور الإنسانية والابتسامة الصفراوية وناس جماد فاكرينها ميا..
استعيذوا من الرزايل من كسر نفس وبخت مايل، من أمل في الدنيا زايل واحنا فاكرينه أبد.

تشعر أنها نفس أغنية الوشوش ولكنها كبرت عشر سنوات، أصبحت أكثر فهماً وأكثر «دردحة»، تشعر أن الشاب الرقيق الذي كان يغلق آخر زر من قميصه وكان يهمس لنفسه بأغنية الوشوش كبر وأصبح يرتدي تشيرتاً ذا لون محايد، ويتشاجر في الشارع عندما يخدعه أحد، بل يكتب مقاطع منها على الفيس بوك شاكياً بشكل مستتر من مديره في وظيفة أحلامه التي عثر عليها منذ عشر سنوات.

لذلك لم تكن أغنيات مثل «ستة صباحاً» مناسبة لهذا الألبوم، هذا الجيل المولود سنة 80 لا يمشي في شارع قصر النيل صباحاً ممتلئًا بالحنين يرى وشوش مبتسمين في الفتارين مصحوباً بزفة هتصحي النايمين. هذا الجيل أكثر نضجاً من أن تقدم له كل هذه الأغنيات الشعبية في ألبوم يحمل اسم حمزة نمرة، وعنوان مولود سنة 80. هذا جيل كان ينتظر أن يبكي كل أسبوع لمدة ستة أسابيع، أنت لم تقدم له ما كان يحتاجه سوى في عدد محدود من الأغنيات، أغنيات مثل معلش واستعيذوا ومش مهم لم تستحوذ على اهتمام مستمعي حمزة نمرة لأنها لا تشبههم، صاخبة جداً وخفيفة جداً على ما يشعرون به.

الألبوم جيد بشكل عام ولكنه كان يحمل بعضاً من خيبة الأمل لجمهور نمرة، لا عيب إطلاقاً في اجتذاب جمهور جديد، صغير السن يصنع من الصبر مركباً يتكسر فيحوله جناحين، أو يرى أنه «معلش يا معلش»، هذا حق الفنان وحق الجمهور على حد سواء. من حق الفنان أن يوسع قاعدته الجماهيرية ومن حق الجمهور ألا يستبعد لمجرد أنه لا زال سعيداً يشعر بالأمل، فقط المولودين سنة 80 كانوا يستحقون أن يملئوا الكادر ولو مرة، خاصة أنك وعدتهم في عنوان الألبوم، ولكن لا بأس، التجربة بشكل عام لطيفة، وسوف نستمر في اجترار أحزان حقيقية وأخرى متخيلة ونحن نستمع للوقعة الأخيرة وفاضي شوية، نحن أنضج من أن ندبدب بأرجلنا لأننا لم نحصل على الألبوم كاملاً لنا وحدنا، نحن فقط نكتب مقالات طويلة عن هذا الأمر.