قبل عيد الفطر بأيام وتزامنًا مع النجاح الكبير الذي لاقاه مسلسل «جعفر العمدة» في رمضان وفاق جميع التوقعات، صدر إعلان للفيلم الجديد «هارلي» لنجمه محمد رمضان، كتابة وإخراج محمد سمير، على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، لاقى الفيلم زخمًا تلقائيًا لمحبي رمضان المعتادين، وآخرين ممن يرغبون فضولًا في التعرف على ما لديه ليقدمه بعد جعفر العمدة، «هارلي» هو اسم بطل الفيلم، واسم إحدى أشهر ماركات الدراجات البخارية، ترتبط الدراجات البخارية وبخاصة «الهارلي ديفدسون» بالروعة «Coolness» والتمرد، الشخص الذي يطير على الطريق بدراجة بخارية رائعة يكملها بأزياء ترتبط بها مثل السترات الجلدية والقفازات الكاشفة للأصابع والخوذات اللامعة هو بالتبعية شخص رائع، تعتمد الدعاية للفيلم على ذلك، يظهر في الإعلان محمد رمضان على دراجته يناور من يطاردونه بسرعة كبيرة، ويخلع خوذته كي يضرب من يتعدى طريقه برأس عاري، يبدو أن الفيلم سيتناول شخصية خارجة على القانون، شخصية رائعة ومتمردة وربما يكون «ضد بطل»، يكمل كل ذلك الأغنيات التي سُمعت بصوت رمضان يغنيها في حفلات صاخبة، فتتشكل الصورة العامة عن فيلم «هارلي» كفيلم متخم بمشاهد المطاردات واستعراض الدراجات والجمل الحوارية النارية والأغنيات وأضواء النيون، لكن هل الفيلم نفسه يتبنى ما ورد في حملاته الإعلانية أم يتخذ طريقًا مغايرًا؟

ما يُرى وما يقال

يبدأ فيلم «هارلي» بمشهد لسرقة في خضم الحدوث، ينتظر منفذو العملية توصيلتهم: «هارلي» لينقلهم من موقع السرقة إلى الأمان، يظهر هارلي مقنعًا قبل أن يلقي دعابة ويتخلص من الأمن ويهرب، يقدم الفيلم بطله بزوايا تصوير سفلية وموسيقى إلكترونية إيقاعية كشاب مسيطر على ما حوله، متمرس في عمله ومحترم من زملائه في الأعمال الخارجة على القانون، لا يبني الفيلم تلك الشخصية ليحطم مساعيها في النهاية بل يحطمها من البداية مع الإبقاء على جمالياتها الأساسية حتى لا يصاب المشاهدون بالإحباط، لكن عند مشاهدة الفيلم الذي تبلغ مدته ساعة ونصف يتضح أن وجود الفيلم نفسه غير مهم ولا يعني شيئًا بقدر أهمية الإعلان الترويجي والأغنيات المزروعة داخله، «هارلي» بأكمله هو حملة ترويج أكثر من كونه فيلمًا، هو صور منفصلة وليس وحدة متكاملة، هو تحايل ملتف على الرقابة دون التفريط في الأهداف الأساسية وهي صناعة مشاهد معدودة تحتوي على المطاردات والتمثيل البصري التضخيمي لبطله، في «هارلي» ينفصل التمثيل البصري تمامًا عن السردي، تعترض الرسائل الأخلاقية طريق التمثيل البصري المنغمس في جعل بطله ضد بطل ويصبح الشكل والصيغة التي يتبناها العمل مضادة تمامًا لما يتبناه من رسائل وأفكار.

محمد رمضان في هارلي 2023
محمد رمضان في هارلي 2023

يتضح بعد دقائق من المقدمة النارية لبطل الفيلم أن أخاه الأصغر يلتقط عاداته السيئة ومن ضمنها إدمان المخدرات الثقيلة والتسابق بالدراجات النارية، في أحد مشاهد النصف الأول من الفيلم يتوسط الأخ الصغير أحمد داش الذي يأتي دوره كإيماءة لدوره في شخصية سيف في «جعفر العمدة» في مشهد استعراضي على أنغام أغنية تراب بإيقاع شرقي يغنيها زوكش، وإضاءة ليلية تظهر كباري القاهرة كساحات لاستعراض المهارات، يعمل المشهد كعرض لروعة ذلك الشاب وعصبيته من راكبي الدراجات القادرين على امتلاك الشوارع بمهاراتهم وحريتهم، بل ويمثل توجهًا بصريًا مبشرًا يختفي لحظة انتهاء المشهد وتنفصل البصريات التي تؤطر الحرية الفتية لتصبح تلك الحرية -حتى وإن لم تكن جزءًا من المنظومة الأخلاقية السائدة- عقابًا منتظرًا.

يستمر المشهد كفيديو موسيقى وسط الفيلم حتى ينتهي بحادث يودي بالشاب ويدخل «هارلي» في دوامة من الندم ومحاولات تغيير الحياة، يحدث ذلك كله في نصف الساعة الأولى للفيلم، مما ينذر باختفاء كل ما بناه كتقديم في بقية مدة العرض لكن لا يحدث ذلك.

التوبة الانتقائية

يبدأ «هارلي» صفحة جديدة يترك معاونة اللصوص ويقلع عن المخدرات ويبدأ في إصلاح الدراجات واختراعها، ويحمد ربه لأنه ابتعد عن الحرام، في ذلك القسم من الفيلم يستبدل الفيلم الشخصية الحركية لهارلي بشخصية متحدثة، يضغط الفيلم كل ما يقدر عليه من النكات الجنسية الموجهة للشخصيات النسائية العابرة طيلة مدته، وهذا يطال الشخصية التي سوف يقع في حبها هارلي والتي تقوم بدورها مي عمر، على الرغم من عادة الأفلام بتجنيب الحب الحقيقي للتسليع الذي تتعرض له النساء الأخريات اللواتي لا يصلحن للزواج، يقابل هارلي حبيبته في حفلة ضخمة استعراضية وتتمثل شخصيتها في استهلاك كل الممنوعات الممكنة، يستدعي ذلك خسارة الأخ فيساعدها هارلي في الإقلاع عن المواد المخدرة، وتتعقد الحبكة بسذاجة فيتضح أن شرير الفيلم الرئيسي هو أبوها وما إلى ذلك من خطوط قصصية جاهزة، يصبح الفيلم إذًا عن خطورة المخدرات، ويصرح محمد رمضان في أكثر من لقاء معه من بينهم اللقاء الطويل مع إسعاد يونس، بأن للفيلم رسالة جليلة وهي الحث على الابتعاد عن الإدمان.

محمد رمضان في هارلي 2023
محمد رمضان في هارلي 2023

يبدو إدخال المواد المخدرة وسرديات الإدمان والإقلاع عنه خيارًا غير عضوي داخل الفيلم بل هو خيار يمرر الفيلم رقابيًا وشعبيًا مع الإبقاء على الخط الرئيسي المتعلق بالروعة والدراجات البخارية والعيش على الحافة والأغنيات التي تتغنى بانتشار السيدات من كل لون حول البطل.

يختار صناع الفيلم عنصرًا واحدًا للتجريم الأخلاقي مع الإبقاء على بقية العناصر في أماكنها المرجوة، مع الحرص على عدم الانزلاق في التغيير الحقيقي الذي يجعل البطل مملًا، بل خلق مواقف تجعله يعود لما هو عليه لكن في طريق الخير، فبدلًا من الهرب من القانون هو يحاول إنقاذ عائلته، ذلك الوضع المعاصر من الرسائل الملتبسة يستحيل معها أيقنة الشخصيات، هارلي ليس ضد بطل لأنه تعلم درسه في بداية الفيلم، وهو ليس بطلًا صالحًا كذلك لأنه لا يقدم نفسه كواحد بل يسير في خط وهمي بين الاثنين، خط إشباع رغبة التسلية البحتة والخطوط الدرامية نصف المكتوبة، والمرور الرقابي والرضى عن الذات بصناعة فيلم ذي رسالة.

البطل وضده

يتبع هارلي وضعًا قائمًا في صناعة الوسائط المرئية المصرية وهي الالتباس بين التمثيل البصري و الرسالة المرجوة أو الموضوعة، معظم الأعمال الفنية الحالية تتناول شخصيات مركبة أخلاقيًا ذات تواريخ إجرامية أو أعمال تكون موضع تساؤل ويتم تصوير تلك السمات باعتبارها مقومات وصفات للقوة، للروعة، للنجاح المادي والسيطرة، نرى ذلك في جعفر العمدة وضرب نار على سبيل المثال، تتعامل تلك الأعمال مع أبطالها كضد أبطال وأحيانا أبطال، من دون تفرقة حقيقية بين ما يصنع كل منها، لكن سرعان ما يتبخر ذلك المفهوم، ليصبح جمالية فارغة تستخدم لتمرير رسائل أخرى تكاد تكون مفروضة على تلك الأعمال، يمكن حتى تسمية تلك الفترة من الإنتاج المصري بموت ضد البطل.

عادة ما تكون نهاية ضد البطل تراجيدية، لكنه يملك من الالتباس الأخلاقي والجماليات المهيمنة ما يجعله هو بطل العمل والشخص الذي يجب التعاطف معه، من دون سمات بطولية أو بسمات بطولية بديلة، تجعل نهايته ليست بعقاب بل تضحية، ضد البطل في صورته المعاصرة والكلاسيكية هو بطل Protagonist لكنه ليس بطل Hero، هو بطل بديل للعصور التي تحتاجه، التي يطغى عليها اضطراب الأخلاقيات الكبرى والقيم الثابتة، هو بطل يتشكل حسب عصره، تتعامل الوسائط المصرية مع البطل الذي يتبنى أعمالًا إجرامية كشخصية في وضع مؤقت تنتظر النهاية حتى تأخذ جزاءها وعقابها، أو كبطل حقيقي لا مراجعة فيما يتبناه من أفكار، فإذا كان يتعدى على النساء فذلك ليس لأنه ملتبس أخلاقيًا بل لأن تلك السمات هي تمثيل حقيقي لما يصدق صناع الأفلام أنه يصنع بطل فيلم، تصبح العوامل الأخلاقية وغير ذلك منتقاة، السرقة على سبيل المثال هي فعل منبوذ مجتمعيًا يجب التوبة عنه في بداية الفيلم أما التعدي اللفظي على النساء فهو سمة لا يتاب عنها ولا تعتبر ضمن ما يصنع شخصية ما ضد بطل.

يرفض الأبطال في «هارلي» و«جعفر العمدة» و«ضرب نار» وقبله «اللي مالوش كبير» في النهاية التماهي مع شخصياتهم الحقيقية، ويتبنون سمات بطولية من دون استحقاق لها أو يبدون ندمًا مفاجئًا، لا تولد تلك الشخصيات من رؤية عامة لطبيعة البطولة ومحاولة تقويضها بل بتصور ما عن المجرم النبيل من دون تبنيه بالكامل، تستخدم تلك الأعمال جماليات ضد البطولة لصالح البطولة فإذا كان ضد البطل هو بطل من دون السمات البطولية المعتادة مثل الشجاعة والنبل والمروءة والتوجهات الأخلاقية المرتفعة فإن هؤلاء الأبطال لا يقعون في تلك الفئة، لأنه لم يعد يسمح لهم بذلك، يصعب أن نشاهد ضد بطل مثل إبراهيم الأبيض مثلًا تصبح نهايته التراجيدية جزءًا رئيسيًا من تكوينه وليس عقابه، لا توجد مساحة للرمادية أو المراجعة المفاهيمية لما يجعل شخصية ما بطل، تنتفي عن الأبطال الحاليين تلك الأوصاف المعقدة، ويصبح وجودهم مساومة رقابية تسمح باستخدام الجماليات الشعبوية أو المستعارة من أفلام الحركة الأمريكية دون أن تعارض الرسائل، فتصبح الجماليات سائلة تدور في فلك منفصل تماما عن صلابة وحسم الرسائل، فإذا أعجبك ما رأيته يجب أن تعرف في النهاية أنه خطأ يجب الابتعاد عنه حتى مع كل التفخيم «Glamorization» والتجميل الذي تصوره به تلك الأعمال.

على عكس «هارلي» الذي تاب عن خروجه على القانون في نصف الساعة الأولى من فيلمه فإن «جعفر العمدة» يفرد المساحة الكاملة للشخصيات بأن تكون ما هي عليه، قبل أن يتم التدخل المحافظ الرقابي لوضع الأمور في نصابها لتمرير العمل فيما يبدو وكأنه اتفاق مسبق لتوبة الجميع بشكل نصي ومصرح حواريًا لكي يتسنى لبقية الأعمال غير الأخلاقية بالحدوث، ذلك التأجيل لتمرير الرسائل يجعل تجربة المشاهدة مختلفة كما أن اختلاف الوسيط وإتاحته اليومية في البيوت بشكل مجاني يجعل من الصعب ممارسة الخداع الذي يصاحب الأفلام، كأن تسوق للفيلم على أنه شيء، وسيتفاجأ المشاهدون بأنه شيء آخر.

في «هارلي» لم يضطر الصناع للتأجيل حتى النهاية لإتابة البطل عنوة نظرًا لاختلاف الوسيط، أصبحت الأفلام المعروضة في دور العرض المصرية عبارة عن خدع بسيطة لأنها غير مرئية على مستوى واسع ويومي، حتى وإن حصدت إيرادات ضخمة فإنها لا تقع في النقاشات الدائرة بين المتابعين بشكل دوري، لكنها مخبأة داخل دور عرض مظلمة وكأنها لم ترها أعين قط، فأصبح من غير المهم ما يحدث بداخلها طالما يسوق لها بشكل معين، يمكن للصناع تعبئة مدة الفيلم بأي ما كان طالما ضمنوا النجاح المسبق المبني على عناصر أخرى، أو لمجرد وجود اسم لممثل ذي شعبية جارفة على ملصق الفيلم الدعائي.