أصبحت النوستالجيا بضاعة رائجة جداً في السنوات الأخيرة، الحنين للماضي لمجرد أنه أصبح ماضياً، وانتقاء أجمل ما في الماضي حتى نقنع أنفسنا أنه كان السائد، نمارس ذلك الحنين على كل المستويات، أنت مثلاً تحن لطفولتك وبدايات شبابك جداً لدرجة أنك تنسى مثلاً أنك كنت تائهاً وبلا هوية وأن البحث أصعب كثيراً من الوصول للمكان الخطأ، ولكن الشجن الذي يمنحك إياه الحنين يخفف وطأة الأيام.

في الدراما جاءت المسلسلات التي تداعب النوستالجيا لدينا لتكتسح، كل المسلسلات التي لعبت على هذا الوتر نجحت، جراند أوتيل ثم ليالي أوجيني وغيرهما، ثم ومنذ أسبوع بدأ مسلسل جديد يلعب في نفس المنطقة المضمونة، حواديت الشانزليزيه الذي هو موضوع حديثنا اليوم.

الشيطان يكمن في التفاصيل

إذا نظرنا نظرة سطحية للمسلسلات التي تناولت حقباً ماضية سوف نجد الكثير، ولكن المسلسلات التي تناولت (شياكة) الماضي أصبحت، مؤخراً، ترينداً، فساتين منفوشة وأزياء أنيقة، سيدات متأنقات يتحدثن بهدوء وبطء، مسارح وغناء، بيوت واسعة جداً مفروشة بنظام كلاسيكي فاخر، ألوان هادئة ومتناسقة، شوارع واسعة وفارغة، لا أحد يستعرض الجانب الآخر من الماضي، الجانب القبيح الفقير، لذلك نجحت هذه المسلسلات في أن تمنح المشاهدين المسكنات المطلوبة، ولذلك جاء مسلسل حواديت الشانزليزيه ليستكمل حالة تقمص الجمال تلك.

المسلسل يحكي عن جريمة قتل تعترف بها خمس متهمات لا يعرفن بعضهن وكل منهن مصممة على أنها هي من قتلت رياض الذي يقوم بدوره إياد نصار، النصاب الوسيم الذي يلعب بمشاعر النساء بمن فيهن زوجته، تدور الحكاية في القاهرة القديمة التي يصر الجميع على تسميتها المحروسة رغم أننا في الخمسينيات، معظم الشخصيات تنطلق حكاياتهم من بنسيون يسمى الشانزليزيه، وطوال المسلسل سنظل نبحث عمن قتل رياض مع استعراض حكايات الخمس متهمات مع رياض.

حبكة ليست سيئة، بل جذابة، خاصة عندما نعرف أن المسلسل يشارك في بطولته مع إياد نصار إنجي المقدم ومي سليم وداليا مصطفى وفريدة سيف النصر، لذلك فهو بداية موفقة وقوية للمؤلفين أيمن سليم ونهى سعيد والمخرج مرقص عادل، إجمالاً، المسلسل يعد بالكثير، ولكن هل وفى المسلسل بهذه الوعود؟

حالة تقمص

عندما تريد صناعة عمل عن حقبة زمنية معينة، يستلزم الأمر أكثر من مجرد مشاهدة الأعمال الدرامية التي حكت عن تلك الفترة، يستلزم الأمر أكثر من مجرد فساتين جميلة وتسريحات منمقة وكلمة ممنونة التي ترددها جميع الشخصيات بلا كلل، وكأنهم في الخمسينيات لم يكونوا اخترعوا كلمة شكراً بعد، يستلزم الأمر أكثر من مجرد كليشيهات محفوظة استخدمها صانعو الدراما من قبل فأعدت أنت استخدامها مرة أخرى.
المسلسل مليء بالكليشيهات التي أصبحت بالفعل مادة جيدة للمقتطفات على وسائل التواصل الاجتماعي، (الوحيد الذي طلب ابتسامتي هو المصور وقد أعطيته نقوداً على ذلك).

جاءت تلك الجملة على لسان إحدى الشخصيات التي كانت تتحدث مع نفسها في مونولج ذاتي طويل عن الآلام التي تعرضت لها، ثم (الأكل ده معمول بحب والحب يغني عن أي غلطات في المقادير) جملة عميقة أخرى تأتي على لسان شخصية أخرى، الأمر ليس سيئاً بالمناسبة ولكن إذا لم يكن السياق كله هزلياً يجعلك ترى تلك الكلمات اصطناعاً آخر للعمق.

حالة تقمص غريبة تنتاب جميع الممثلين، تقمص واضح جداً يهدم حائط الإيهام بين الممثل والمتلقي، أنت تعرف في كل لحظة أنهم يمثلون، داليا مصطفى تتحدث بطريقة غريبة وبطيئة وبحة في صوتها كي تكون رقيقة رقة الخمسينيات، إدوارد يعقد حاجبيه ويقلب شفتيه طوال الوقت كي يبدو مهموماً لمجرد أنه يمثل دور وكيل نيابة يحقق في الجريمة، إياد نصار نفسه لم يعطي الشخصية أي عمق، فهو ولأنه حلنجي ونصاب يجب أن يرتدي بنطالاً ذا حمالات وكاسكيت، كليشيه آخر يضر العمل ولا ينفعه، فهذا الكليشيه لا يتناسب مع كونه يعيش حياة مزدوجة يبدو فيها رجلاً أنيقاً مهماً ذا بدلة وطربوش، حتى حياته المزورة تلك لم ترسم بعناية، فهو يختلط بالمجتمع الراقي بشخصيتيه المزيفة والحقيقية ولم يكشف أحد أمره.

حتى مكساج الصوت في الأغنيات التي تؤديها إحدى الشخصيات في التياترو لم تتم بعناية، الصوت واضح جداً أنه مركب على الصورة، هذا غير أن الغناء سريع جداً ويسبق اللحن الأصلي، هذا لو تغاضينا عن الأخطاء الكارثية في خلط الأزمان والأغنيات التي تلعب في الخلفية في الخمسينيات رغم أنها لم تكن ظهرت أصلاً حتى الستينيات، والمغالطات المنطقية في تواجد الشخصيات في نفس الحيز المكاني، وشكل المجتمع بطبقته المتوسطة في تلك الحقبة.

الفرق بين الصناعة والتصنع

المسلسل مليء بالأخطاء، كأنه يتقمص حالة ولا يصنعها، وهذا هو الفرق بين العمل الجيد والعمل الرديء، أنت تصنع حالة كاملة بتفاصيل مدروسة وقراءة عميقة للفترة التي سوف تتحدث عنها، تصنع أشخاصك وحبكتك وأماكنك، لا تستكمل أعمال من سبقوك، حتى اسم المسلسل المستوحى من المكان الذي تدور فيه معظم الأحداث تقمص حالة مسلسل ليالي أوجيني والذي أيضاً سمي نسبة للمكان الذي تدور فيه معظم الأحداث، أنت هنا تتقمص الحالة ولا تصنعها، أعجبتك فقررت أن ترتديها و(تقيفها) على مقاسك، ولكنك لم تأتِ بشيء جديد.

عرض آخر من أعراض تقمص حالة القدم والكلاسيكية هي أن يحدث الجميع أنفسهم، مونولجات ذاتية طويلة مليئة بالحكم والمواعظ، وكأن الناس في الخمسينيات كانوا لا بد أن يحدثوا أنفسهم كثيراً، أيضاً مشاهد كثيرة صامتة تم تصويرها بالتصوير البطيء تصور أحداثاً عادية جداً هدفها الوحيد هو تطويل وقت الحلقة ربما، مشهد وفاة أحد الشخصيات الفرعية، ومشهد ارتداء البطل لملابسه! لماذا يجب أن تكون هذه المشاهد بهذا الطول المفرط ولماذا يجب أن تكون صامتة ذات موسيقى تصويرية حزينة؟ حالة تصنع أخرى غير مفهومة.

رغم كل هذه العيوب فإن المسلسل يحقق مشاهدات جيدة، وفي أول يوم عرضه أصبح اسمه ترينداً على تويتر، ذلك لأن المسلسل في الأصل كان يمكن أن يكون متقناً وجيداً خاصة أن قصته جذابة وحبكته غامضة، ولكن التفاصيل، التفاصيل هي ما تصنع عملاً ينجح فعلاً أو يحقق (فرقعة) في بداية عرضه ثم يخبو بريقه، خاصة أنه مسلسل طويل ذو خمس وأربعين حلقة.