المكان: L’Hippodrome Café، باريس، فرنسا.

الزمان: 17 فبراير/شباط 1901م، التاسعة مساءً.

الحدث: يجلس على إحدى الطاولات طالب فنون أسباني شاب يُدعى «كارلوس كاسيجماس» مُحدقًا في فتاة يُحبها تدعى «جيرمين بيكوت» والتي صارحته للتو أنها لا تبادله نفس الشعور وأنه مجرد صديق. يستل «كاسيجماس» مسدسه ويطلق على نفسه الرصاص، ليخر ميتًا أمام حبيبته.


«الفترة الزرقاء» عند بيكاسو

ربطت «كاسيجماس» علاقة صداقة بالرسام الأسباني «بابلو بيكاسو» (1881- 1973م) منذ التقى الاثنان في «برشلونة» وانتقلا سويًا إلى باريس في أوائل عام 1901م. وقد شكل انتحار كاسيجماس ما عُرف لاحقًا بـ«الفترة الزرقاء» عند بيكاسو. بدأت «الفترة الزرقاء» عام 1901م، سيطرت على لوحات بيكاسو في تلك الفترة مواضيع مأساوية قاسية واستخدم في رسمها اللون الأزرق ودرجاته بشكلٍ طاغٍ ولهذا سُميت بالزرقاء.

رسم بيكاسو لوحة «الحياة» في برشلونة عام 1903م قُبيل ظهور التكعيبية بشكلها المعروف على يده هو و«جورج براك» (1882- 1963م). تنتمي لوحة «الحياة» برمزيتها للمدرسة التعبيرية [1] وللفترة الزرقاء. وبالرغم من أن اللوحة تبدو بسيطة، إلا أنها لفتت الأنظار منذ ظهرت، وجرت حولها مئات الدراسات النفسية والتأويلات، بسبب محتواها المعقد والغامض.

اللوحة ضخمة نسبيًا، يصل طولها لستة أقدام، وعرضها أربعة أقدام. تحتوي اللوحة على أربع لوحات بداخلها، كل لوحة من هذه اللوحات لها تأويلها الذي يخدم في النهاية المعنى العام. وباستثناء الأم الواقفة على يمين اللوحة تضم رضيعها إليها، يظهر جميع أفراد اللوحة عرايا في مشهد أزرق شديد الكآبة. لم يقدم بيكاسو العُري في اللوحة بشكل «إيروتيكي»، ولا يقصد به كما هو واضح أي حميمية جنسية. العُري هنا مجاز عن غُصات الحياة، الضياع والحزن والفواجع التي تترك أثرها في النفس إحساسًا بالعُري. كانت اللوحة بمثابة مرثية للحياة ككل وليس فقط لكاسيجماس. ومحاولة من بيكاسو لجمع صديقه بحيبته ولو مجازًا، مجازًا يتخطى به ما أصبح مستحيلا.


اللوحة الأولى

جانب من لوحة "الحياة" لبيكاسو
جانب من لوحة «الحياة» لبيكاسو

على اليسار ، يقف كاسيجماس عاريا مع جيرمين التي، على عكس ما حدث في الواقع، تميل عليه وتتعلق به كنوع من التعويض عن انتحاره بسببها. حاول بيكاسو أن يخلق لحظة وصل، وإن كان خيالا ومستحيلا. كاسيجماس بدوره لا يتطلع لجيرمين بل يشير للشخص الوحيد الذي لا يظهر عاريًا في اللوحة: الأم.


اللوحة الثانية

جانب من لوحة "الحياة" لبيكاسو
جانب من لوحة «الحياة» لبيكاسو

على اليمين، تقف أم برداء أزرق تضم رضيعها إليها لكن ليست عارية، تُدثِّرها أمومتها مِن إحساس العُري. الرضيع النائم يبدو هادئ، دافئ، وفي أمان بين يدي أمه التي تظهر سعة قلبها عطفًا وحنانا عليه. تظهر الأم هنا كنوع من العزاء في وجه الحزن الأزرق، حتى أن طفلها يتدثر بالأبيض لا الأزرق.


اللوحة الثالثة

جانب من لوحة "الحياة" لبيكاسو
جانب من لوحة «الحياة» لبيكاسو

بين اللوحتين اليمنى واليسرى، لوحتان في المنتصف. العُليا لرجل يختبئ في صدر امرأته التي تُظْهِر بعض رباطة الجأش مقارنة بالهلع البادي على وجه رجلها. تضمه إليها وتطوّق ظهره بيدها. لا توضح ملامح الرجل والمرأة هنا هويتهم. هل قصد بيكاسو حالة العوز والتعلق التي أدركت كاسيجماس لجيرمين أم يتحدث عن علاقة الرجل بالمرأة في المطلق؛ لا ندري، هو فقط يركّز على المرأة كمصدر للأمان كالأم، حتى وإن عرَّتها الحياة هي الأخرى، تظل ملجأ لشريكها.


اللوحة الرابعة

جانب من لوحة "الحياة" لبيكاسو
جانب من لوحة «الحياة» لبيكاسو

أسفل مُنتصف اللوحة ككل، رجل يجلس القُرفصاء، بين الأقدام، يضم ركبتيه لرأسه، على عكس الجميع؛ هو وحيد، لا أحد معه. ولا يبدو أن أحدًا يلاحظه. حتى أن الأزرق في لوحته أحلك من الأزرق في اللوحة الثالثة؛ التي يُخفِّف من زرقتها وجود عناق.


بالنظر للوحة ككل، فإن ثلاثة عوالم من اللاتي يظهرن يتناقضن مع لوحة الأم الواقفة على اليمين. لقد استطاع بيكاسو أن يُظهر حجم المعاناة التي تُدرك الإنسان بعد أن يغادر عالم الطفولة الآمن. تظهر الحياة في اللوحة كغيمة تُمطِر الأزرق على الجميع، وتعري الجميع بلا حياء، ولا شيء يحجب عن الروح هذا العُري غير عناق الأمومة. لأن حتى عناق الحبيبة لا يحجب العُري هو فقط يواسي الروح.

ختاما، تُمثل لوحة «الحياة» ذروة الفترة الزرقاء عند بيكاسو، واستمرت اللوحة لتمثل أحد أشهر اللوحات في القرن العشرين لما انطوت عليه، رغم بساطتها، من معاني عن الأمومة، الحب، الحياة، الموت، الوحدة، الخوف و«الحزن الأزرق». صحيح أن اللوحة، بشكل رئيسي، كانت مرثية لكاسيجماس لكنها في الوقت نفسه كانت مرثية للحياة ككل، وللذكر بشكل ما. الذكر الذي لا يأويه بعد ذراعي أمه وحنانها غير صدر حبيبته التي تضمه برباطة جأش في منتصف اللوحة، ومن دونهن يسقط عمدًا أو سهوًا بين الأقدام (في أسفل اللوحة / في أسفل الحياة).


[1] لا تعتبر «التعبيرية» مدرسة فنية بالمعنى المعروف اصطلاحا، حيث يجتمع عدد من الفنانين ويكرسون أنفسهم للرسم وفقا لقواعد معينة وتماشيا مع رؤية فنية بعينها، بل هي بالأحرى حالة فنية ظهرت تعبيرا عن حالات نفسية واجتماعية ظهرت في القرن العشرين توجه بعدها رسامين لاستخدام الألوان بشكل انسيابي وكأنها نزيف للتعبير عن حالاتهم النفسية وتصوير وتوصيف تقلبات الحياة اليومية حسب استيعاب الفنان لها.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.