مع كل روايةٍ عربيةٍ تتناول ظواهر القمع والقهر في العالم العربي، يبدو سؤال الأسلوب المختلف وطريقة التناول الجديدة أحد أهم الأسئلة، وأكثرها حضورًا وإلحاحًا في ذهن القارئ بمجرد الدخول إلى عالم الرواية التي بين يديه. ولكل روائيٍ طريقه وطريقته التي يحاول بها أن يجذب ذلك القارئ إلى عالمه، فينجح في سبيل ذلك، من خلال روايته التي يحكيها، التي تنتظم حلقاتها، ويسير السرد فيها بطريقةٍ مترابطة، وترسم شخصيات العمل بدقة تجعل القارئ متعاطفًا معها متفهمًا لمواقفها، أو يجانبه الصواب في حالاتٍ أخرى فيخفق، ويبقى القارئ تائهًا في عالمه حائرًا فيما يتناوله سواء من موضوع الرواية بشكل عام، أو شخصيات العمل وما يدور بينهم من أحداث.

بين هذا وذاك ندخل إلى عالم رواية الشاعر الأردني «أمجد ناصر» الثانية، «هنا الوردة»، التي وصلت إلى القائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية هذا العام، وتدور حول شخصية «يونس الخطاط» ذلك الشاب الطموح المثقف الذي يحلم بالتغيير، ويرتبط عاطفيًا بـ«رلى» التي قُتل والدها الذي يعمل حارسًا للحفيد (الزعيم) أثناء دفاعه عنه في إحدى محاولات اغتياله، يدور الزمان بيونس وينخرط في تنظيم سياسي يكلفه بمهمةٍ سرية يكتشف فيما بعد أنها اغتيال ذلك القائد/الحفيد!

كان يونس ولدًا شقيًا متمردًا على ذويه، على المدرسة، بين الأصحاب.. كان شقيًا ولكن بسلاحٍ غير أسلحةِ أشقياء الشوارع والأحياء الشعبية، رغم انخراطه في حياة الزعران هذه، سلاحه الذي سيميزه عن أصحابه الأشقياء، أبناء القاع الاجتماعي المسحوق الذين ينتمي إليهم بالاختيار، كان الكلمة. وهذه ستقوده بالمصائر الغامضة التي تحتشد فيها، إلى رلى، وإلى ارتبطات غير معهودة في محيطه، ليس الشعر ليس النثر، ليس الأدب أو الفن، فهذا غير بعيدٍ عن عالم والده الخطّاط المفتون بالشعر القديم، ولا عن أصحابه الذين يترددون إلى صالون الخميس… الشعر أولاً ثم السياسة، ليس هناك ارتباطٌ سببي بين الاثنين، لكن في بلدٍ كالحامية ثمة ارتباط بين الكلمة والسياسة، بالأحرى بين التفكير والشأن العام.

منذ البداية يبدو عنوان الرواية «هنا الوردة» غريبًا وملغزًا، خاصةً أنه لا يحيل بأي شكلٍ من الأشكال إلى رواية «إمبرتو إيكو» الشهيرة «اسم الوردة»، بل يشير الكاتب إلى عبارةٍ شعرية أخرى منسوبة لماركس هي «هنا الوردة فلنرقص» مما يشير بشكلٍ خفي إلى الدعوة لشكلٍ آخر من الثورة، ومحاولة المواجهة بطرقٍ أخرى ينبعث منها الصخب والفرح بدلاً من الاستسلام للعنف والقمع والدماء!

اقرأ أيضًا:حذاء فيلليني التحايل على القمع بالألاعيب السردية

يمكن أن يصل القارئ في النهاية إلى أن الرواية في حديثها عن الثورة والعنف والتنظيم السري الهادف لاغتيال «الحفيد/الزعيم» إنما تشير وتنادي بضرورة التحول إلى التغيير السلمي إن شئنا التعبير، وأن أي مقاومة عنيفة مسلحة لا تنتهي أهدافها إلا للمزيد من القتل والدمار، كما نرى من حولنا، وغير غائبٍ عن ذهن القارئ بلا شك، والحال كذلك، إلى أي شيءٍ يشير «أمجد ناصر» ويرمز طوال الرواية، سواء في حديثه عن «الحامية»، أو «مدينة السندباد»، أو «التنظيمات اليسارية المسلحة» أو غيرها، بل إن بعض مقاطع الرواية تشير إلى الفساد الذي يدور في الدول العربية لا سيما بين طبقات الحكام والسياسيين المنتفعين منهم، يأتي ذلك فيما سماه «خطبة الغضب» التي خرج بها الحفيد لمواجهة خصومه:

ماذا لديكم غير شكواكم التافهة؟ وطلباتكم التي لاتنتهي، تحدثون عن الفساد؟ هل هناك من هو أفسد منكم؟ من الذي يتستر على فسادكم أمام الناس؟ … تقولون إني أبيع أرض الدولة للمستثمرين الأجانب، وألعب القمار وأشرب الخمر مع خاصتي، هل وصلت بكم الثرثرة إلى هذا الحد؟ .. دعوني إذن أذكّركم أنني قادر على أن ألقي بكم إلى الشعب لكي يأكل لحمكم نيئًا. فاحذروا غضبي مرة ثانية، وتذكّروا أنني لست كأبي ولا جدي. والآن انصرفوا، لأنني لا أستطيع تحمل رؤية وجوهكم اللئيمة وتذللكم الكاذب.

من جهةٍ أخرى تبدو الرواية تائهة بين عرض تفصيل شخصيات أبطالها، سواء «يونس» أو أصدقاءه والمحيطين به، وبين عرض الحوادث والمواقف التي تمر بهم، بين الماضي والحاضر وهو كله متخيل كما نلاحظ، خاصةً أن الكاتب يلجأ منذ بداية الرواية حتى نهايتها للتداخل في السرد وذلك من خلال الخط الأسود العريض بمقاطع مختلفة عن خطر السرد العام.

في حواره مع جريدة الحياة اللندنية، يكشف أمجد ناصر عن طبيعة هذه الرواية، وعلاقتها بروايته السابقة «هنا حيث تسقط الأمطار» فيقول:

تمكن قراءة «هنا الوردة» وحدها، وتمكن قراءتها بالارتباط برواية «حيث لا تسقط الأمطار». شخصية يونس الخطاط هي نفسها في العملين. لقد قمت بعمل أحمق بكل معنى الكلمة. كانت لدي مادة الرواية منذ فترة طويلة، قبل أن أنشر العمل الروائي الأول، وكنت أفكر في كتابة ثلاثية روائية ذات امتداد زمني عريض، فحصل أنني نشرت الجزء الأخير من الثلاثية، أو ما يشبه ذلك، قبل الجزء الأول. الثلاثية، التي بدأت تتضح ملامحها الآن بنشر «هنا الوردة» تبدأ من حيث تنتهي تقريبًا. وبما أنني لست من الذين يضعون مخططًا لكتابة الرواية، بل أترك الملامح العامة، أو الومضات التي في ذهني، تتبلور وتتخذ المنحى الذي يأخذها إليه السرد والتطور الخاص بالشخصيات. من قرأ «حيث لا تسقط الأمطار» يعرف الفصام الذي يحدث ليونس الخطاط، ثم لا يستغرب أن يحدث هذا له. هناك حبكة تقوم عليها الرواية الجديدة لا أريد إفسادها هنا… أتركها للقارئ.

وعليه فيبدو أن فهم «هنا الوردة» وطبيعة شخصية بطلها «يونس الخطاط» وغيره سيكون أكثر وضوحًا – أو هكذا نأمل – بروايةٍ قادمةٍ لأمجد ناصر، تكتمل فيها الصورة، ويمكن بعدها أن نستعيد هذه الروايات الثلاثة وفهم طبيعة الشخصية وما تؤول إليه.

أمجد ناصر شاعر وروائي أردني يقيم بلندن، كتب عددًا من الدواوين الشعرية أبرزها «رعاة العزلة»، و«وصول العابر»، و«سُر من رآك»، «حياةٌ كسردٍ متقطّع»، كما صدر له رواية «حيث لا تسقط الأمطار» عام 2010، وهذه روايته الثانية، والتي وصلت للقائمة الطويلة لجائزة بوكر العربية لهذا العام.