منذ انطلاق الانتفاضة اللبنانية في أكتوبر/تشرين الأول 2019، وما أعقبها من أزمات سياسية واقتصادية، وصولاً إلى انفجار مرفأ بيروت في أغسطس/آب 2020، صارت الساحة اللبنانية إحدى البقاع الساخنة في المنطقة، وعادت لتصبح أحد أهم مراكز الاستقطاب الإقليمي والدولي. وفي وسط كل هذا الضجيج يقبع «حزب الله» في قلب المعادلة، كأحد أقطابها الرئيسيين، وأهم فاعل في مستقبل لبنان.

لذلك كلما تم الحديث عن المشهد اللبناني، أو محاولة رسم ملامح المستقبل هناك، يُستدعَى حزب الله بالضرورة، ويجري الحديث عن طبيعة سياساته ومستقبل تحولاته. وهنا ينبغي أن يستند الحديث عن حزب الله على فهم عميق لتاريخه العسكري والسياسي، وطبيعة التحولات التي مر بها، من نشأته الأولى، وحتى اللحظة الراهنة. وهذا ما يوفره كراس «حزب الله: إشكالية السياسة والمقاومة في مجتمع متنوع» الذي أعدّه عبد الغني عماد، الكاتب والأستاذ الجامعي لبناني والخبير في شئون الحركات الإسلامية، وصدر في يوليو/تموز 2013 عن وحدة الدراسات المستقبلية بمكتبة الإسكندرية.

الإمام الصدر يمهّد الساحة الشيعية

لم يكن دور الشيعة في لبنان بمثل هذه الأهمية التي يحتلها اليوم، ولم يكن بالتالي يستقطب ذلك الكم من الدراسات والاهتمام الإعلامي والسياسي، ليس على الصعيد المحلي والإقليمي فقط، بل أيضاً على الصعيد الدولي. وهذا لا يعني أن دور الشيعة في لبنان كان هامشياً، ولكن كانت حصة الشيعة في النظام اللبناني- دوماً- دون وزنهم الديموغرافي الحقيقي. فالنخب السياسية والاجتماعية الشيعية وجدت نفسها دوماً في نظام المحاصصة الطائفية، الذي يحرمها من استلام حقائب سياسية مهمة في الحكومات المتعاقبة منذ الاستقلال (عام 1946). وكان هذا الحرمان يعكس نفسه على مستوى الخدمات والمرافق العامة في المناطق الشيعية، التي صُنفت بأنها الأكثر فقراً وحرماناً.

في هذا المناخ جاء الإمام موسى الصدر إلى لبنان عام 1959 بتشجيع من أستاذه ومرشده السيد «محسن الحكيم». ولم يكن مجيئه إلى لبنان مجرد زعيم ديني تقتصر مهامه على الفتوى والوعظ، بل كان يتطلع إلى دور فاعل يتجاوز إطار الدور الديني التقليدي المعروف، وهذا ما جعله منذ البداية على صدام مع الزعامات الشيعية التقليدية، التي رأت فيه منافساً فعلياً لنفوذها.

شرع الإمام فور عودته في إيجاد الأطر الوطنية والتنظيمية الجامعة لأبناء الطائفة الذين توزعوا وتفرقوا على الأحزاب والتنظيمات المختلفة. بدأ نشاطه في «جبل عامل» في جنوب لبنان، ثم توسع باتجاه البقاع، ثم إلى تجمعات أحزمة البؤس حول بيروت التي كان يقطنها أعداد متزايدة من الشيعة. وراح يؤسس العديد من الجمعيات والمراكز الثقافية والدينية والخيرية، وما لبث أن تخطى نفوذه الحضور السياسي والتاريخي للزعامات التقليدية، فضلاً عن الأحزاب الوطنية في هذه المناطق.

وفي فبراير 1967، تم إقرار قانون يقضي بتنظيم شئون الطائفة الإسلامية الشيعية في كيان قانوني مستقل عن المجلس الإسلامي الشرعي الأعلى الذي كان يضم السنّة والشيعة، وبالتالي يتم تشكيل «مجلس إسلامي شيعي أعلى»، تحديداً في مايو/أيار 1969، وسرعان ما تولى الإمام الصدر رئاسته.

كان الإمام الصدر في خطابه السياسي والاجتماعي يتحدث من منطلق وطني وباسم كل الطوائف، لكن أنصاره وأتباعه كانوا من الطائفة الشيعية حصراً، وكان يركز على النهج الرسمي الذي أمعن في إفقار وتهميش وحرمان المناطق الطرفية والمحافظات عموماً التي تقتصر على السكان الشيعة فقط. وفي ظل هذه المتغيرات أسّس الإمام الصدر «حركة المحرومين» في 1973، والتي كانت ذات هوية طائفية وتكوين مذهبي شيعي، ولم تُعتبر جزءاً من المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، بل هي كيان مستقل، تجمعهما علاقة تنسيق لا اندماج.

ولم تصبح «حركة المحرومين» حركة سياسية ذات ثقل مذهبي راجح إلا في سياق الحرب الأهلية اللبنانية، واتجاهها نحو التسلح. ويبدو أن اتجاه «العسكرة» في حركة المحرومين بدأ بشكل غير معلن كرد فعل على العدوان الإسرائيلي المتواصل على قرى وبلدات الجنوب، والذي كانت تنتشر على أرضه فصائل المقاومة الفلسطينية. وفي يوليو/تموز 1975، أُعلن رسمياً عن تأسيس الذراع العسكرية للحركة تحت اسم «أفواج المقاومة اللبنانية»، وعُرف اختصاراً بـ«أمل». وقد مارست حركة فتح الفلسطينية دوراً رئيسياً في تسليح الأخيرة.

وعند اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية عام 1985، لم يتورط الإمام الصدر فيها، بل سعى إلى إيقافها. وقد اعتصم في بدايتها في مسجد العاملية في قلب العاصمة، وأضرب عن الطعام، ولكن الأحداث الدامية جرفت رغبات كافة الأطراف.

وفي أواخر أغسطس/آب من عام 1978، حدث الاختفاء الغامض للإمام الصدر أثناء قيامه بزيارة رسمية إلى ليبيا. وقد تعددت الروايات حول هذا الموضوع الذي بقي لغزاً مُحيراً عند البعض. ولكن كان لاختفاء الإمام أثرٌ عميق هز الوجدان الشيعي، وحرّك الذاكرة الجماعية، لما تحمله فكرة «الغيبة» للإمام المعصوم في العقيدة الشيعية من دلالات محورية، تدعو في خلاصتها إلى الإيمان بعودته ليملأ الأرض عدلاً بعد ما مُلئت ظلماً وجوراً.

وكان من نتائج اختفاء الإمام الصدر أيضاً تفاقم الشعور بالاستهداف والمظلومية عند الشيعة، وبخاصة أن الاعتداءات الإسرائيلية أخذت في التزايد، منذ أن بدأت عملية «الليطاني» في مارس/آذار 1978، والتي ألحقت أضراراً بالغة بسكان الجنوب اللبناني وممتلكاتهم وبلداتهم وقراهم.

وقد نتج عن هذه العملية تعميق الخلافات اللبنانية وتنفير الشيعة من الفلسطينيين المقيمين في الجنوب، باعتبارهم مسئولين عن استجلاب الاعتداءات الإسرائيلية، بحكم وجودهم العسكري الكثيف، وانطلاق عملياتهم المسلحة ضد إسرائيل من بين قراهم وبلداتهم، التي كانت تستجلب، كلما حدثت، عقاباً إسرائيلياً يصيب السكان المدنيين أكثر مما يصيب القواعد العسكرية.

وقد استمرت الاعتداءات الإسرائيلية بوتيرة متصاعدة حتى حدث الاجتياح الإسرائيلي الأوسع للبنان عام 1982، الذي وصل إلى العاصمة بيروت بهدف طرد منظمة التحرير الفلسطينية، وتوقيع اتفاقية تطبيع مع حكومة لبنانية مطواعة.

وما بين الاجتياح الأول عام 1978 والثاني عام 1982، وقع حدثان بارزان أسهما في خلق معطيات جديدة في الساحة الشيعية واللبنانية، بل والإقليمية:

  • الأول: تمثل في تغييب الإمام الصدر.
  • الثاني: انتصار الثورة الإيرانية بقيادة الخميني، الأمر الذي فجّر عاصفة من التأييد، فضلاً عن ارتفاع المعنويات والتأثيرات العاطفية لدى الجمهور الشيعي في لبنان.

مرحلة التأسيس: «أمّة حزب الله»

في ظل هذا المناخ، وعلى خلفية تلك الأحداث والتحولات الهائلة في لبنان والمنطقة، كانت ولادة «حزب الله» خلال السنوات الأولى من عمره (1982-1985)، ولادة أمنية وعسكرية، مُدشناً بذلك مواجهته للاحتلال الإسرائيلي في منطقة خلدة جنوب بيروت.

تشكلّت نواته الأولى من مجموعة من العلماء ولجان إسلامية ومستقلين، اتفقوا على مواجهة ومقاومة الاحتلال الإسرائيلي، متأثرين بفكر الثورة الإيرانية. وكانت البداية بتشكيل لجنة تأسيسية عُرفت بـ«لجنة التسعة»، والتي ضمت ممثلين عن مختلف الشرائح، وكانت مهمتها إيجاد القواعد الأولى للمنهج الذي سيعمل على أساسه التيار الإسلامي، فتوصلت إلى إيجاد الأسس لإنشاء حركة جديدة من جميع الأطياف تحت اسم «حزب الله».

كانت البداية سرية والعمل التنظيمي يجري تحت الأرض، والقيادة غير معلنة، وسُميت في البداية «مجلس الشورى»، الذي انكب على تنظيم أعمال المقاومة الإسلامية والتنسيق بين مجموعاتها، وكان يتألف من 12 شخصاً أغلبيتهم من رجال الدين.

تأخر الاعتماد الرسمي لاسم «حزب الله» حتى مايو/أيار 1984، حين أُنشئ مكتب سياسي للحزب، وتقرر إصدار صحيفة أسبوعية هي «العهد». وكان حزب الله يرفض في البداية اعتبار نفسه حزباً بالمعنى الشائع، بل كان يعتبر «الأمة» بكاملها إطاراً للحزب؛ إذ لا يعتمد على عضوية معينة لأنه يعتبر بابه مفتوحاً لكل الشيعة، وحتى لغيرهم من المسلمين إذا ارتضوا العمل بمبادئ الحزب. ولذلك أطلق حينها شعار «أمة حزب الله»، لكنه فيما بعد تخلى عن ذلك الشعار لاستحالة تجسيده في لبنان بعد تحول الحزب تدريجياً إلى حزب سياسي وعسكري ذي هيئة تنظيمية هرمية.

وجاءت «الرسالة المفتوحة للمستضعفين» التي وجهّها حزب الله إلى المستضعفين في لبنان والعالم في 16 فبراير/شباط 1985، بمثابة إعلان– مانيفستو- تمت صياغته بلهجة جهادية إسلامية تحدد الموقف من القوى الفاعلة محلياً وإقليمياً ودولياً، وترسم المنطلقات النظرية والتصورات العقائدية، والتي تعرضت فيما بعد إلى تعديلات متلاحقة لا تمس جوهرها، وإن كانت تُخفِّف من حدة صياغتها، خاصةً فيما يتعلق بالنموذج الإيراني والوضع اللبناني.

وقد حدّدت الرسالة أهداف حزب الله في لبنان بأربعة، هي:

1. أن تخرج إسرائيل من لبنان كمقدمة لإزالتها من الوجود، وتحرير القدس من براثن الاحتلال.
2. أن تخرج أمريكا وفرنسا وحلفائها من لبنان، وينتهي أي نفوذ لأي دولة استعمارية في البلاد.
3. أن يرضخ الكتائبيون للحكم العادل ويُحاكَموا جميعاً على الجرائم التي ارتكبوها بحق المسلمين والمسيحيين بتشجيع من أمريكا وإسرائيل.
4. أن يُتاح لجميع أبناء شعبنا أن يُقرروا مصيرهم ويختاروا بكامل حريتهم شكل نظام الحكم الذي يريدونه، علماً أننا لا نخفي التزامنا بحكم الإسلام. وندعو الجميع إلى اختيار النظام الإسلامي الذي يكفل وحده العدل والكرامة للجميع، ويمنع وحده أي محاولة للتسلل الاستعماري إلى بلادنا من جديد.

ويُؤرخ حزب الله نشأته عام 1982، مع أول عملية استشهادية قام بها «أحمد قصير» ضد مقر الحاكم الإسرائيلي في «صور». إلا أن البيان الرسمي لقيام الحزب لم يُعلَن إلا في 16 فبراير/شباط 1985، مع قراءة السيد «إبراهيم الأمين السيد» لرسالة الحزب المفتوحة للمستضعفين.

حينئذ بدأت مرحلة جديدة في تاريخ حزب الله، نقلته من العمل السري المقاوم من دون تواصل مع الإعلام والجهات السياسية المختلفة، إلى العمل السياسي المعلن الذي يواكب ويتابع المقاومة كأولوية وأساس من جهة، ويتصدى للتعبير عن نهجه ورؤيته من جهة أخرى.

البناء التنظيمي: من داخل السفارة الإيرانية في دمشق

فرض توسع القاعدة الجماهيرية لحزب الله وانتشاره في التجمعات الشيعية الرئيسية، بدايةً من البقاع، وصولاً إلى ضاحية بيروت والجنوب، وجوب إقامة بناء تنظيمي هيكلي لإدارته وقيادته. وحافظت البدايات التنظيمية في سنواتها الأولى على السرية، وبتوجيه من الحرس الثوري الإيراني، وفق نظام ذي هرمية واضحة، ترّأسها مجموعة من رجال الدين المعروفين، كانوا يظهرون علناً في المقابلات والصحف اللبنانية والأجنبية، لكنهم حرصوا على عدم كشف مناصبهم ولا مواقعهم في النظام الهرمي الذي يعملون فيه.

ولم يكن لحزب الله قائد في لبنان، فالمشرفون على بنائه والمنضمون إلى لوائه، يعتبرون أنفسهم جزءاً من الدولة الإسلامية التي يقودها الإمام الخميني بحكم كونه «الوليّ الفقيه». ولأسباب موضوعية لم يكن بالإمكان إدارة أنشطة حزب قيد التأسيس من طهران؛ لذلك وُضعت آلية لإدارة عمل حزب الله في البداية بواسطة السفارة الإيرانية في دمشق؛ حيث كان يجتمع مجلس لبنان، الذي يُعرف بالشورى، بشكل دائم، مرة واحدة شهرياً على الأقل، وكان ممثل الإمام الخميني في مجلس لبنان هو حجة الإسلام «على أكبر محتشمي»، السفير الإيراني في دمشق.

من خلال تطور الحزب فيما بعد عُقدت عدة مؤتمرات حزبية داخلية، وهي كلها تتصف بالسرية الكاملة. وقد عُقد أول مؤتمر تنظيمي (وكان المؤتمر الأهم) عام 1989؛ إذ انتُخب فيه أول أمين عام للحزب: الشيخ «صبحي الطفيلي». وفيه اتُخذت قرارات مهمة تتعلق بهيكلية الحزب، وطريقة اختيار مجلس الشورى عن طريق الانتخاب المباشر للكوادر الحزبية، وفيه استُحدث منصب الأمين العام.

على مستوى الهيكلية التنظيمية العامة، تم الاستقرار على مبدأ القيادة الجماعية بدلاً من القيادة الفردية، وأطلق تسمية «الشورى» على هذه القيادة، وأُقر نظام داخلي يُحدِّد عدد أعضاء الشورى وصلاحياتها، على أن يتم انتخابهم من قِبل الكوادر الأساسية للحزب الذي يشغلون موقع «مسئول قسم» وما فوق، ومن ثَمَّ تتولى الشورى انتخاب أمين عام من بين أعضائها.

وعلى هذا الأساس تم اختيار الشيخ «صبحي الطفيلي» أميناً عاماً في 5 نوفمبر/تشرين الثاني 1989. وبعدها جرى تعديل النظام وتقليص عدد أعضاء الشورى إلى 7، وأصبحت مدتها سنتان، واختارت أميناً عاماً جديداً لها وهو السيد «عباس الموسوي» في مايو/أيار 1991. وبعد اغتياله في 19 فبراير/شباط 1992، تم انتخاب السيد «حسن نصر الله» أميناً عاماً خلفاً له في منتصف مايو/أيار 1993. وبعد ما كان النظام الداخلي لا يسمح للأمين بالترشح سوى لدورتين متتاليتين فقط، تم فتحها لعدد لا نهائي من الدورات، مما مكّن حسن نصر الله من الاستمرار في منصبه إلى وقتنا هذا.

حزب الله و«أمل»: حرب المخيمات

كانت حركة أمل تتمتع بنفوذ وسيطرة شبه تامة في الجنوب، وكانت تنظر بقلق إلى امتداد نفوذ حزب الله إلى داخل البلدات الجنوبية، وكذلك خشيت حركة أمل من تنامي الوجود الفلسطيني المسلح في الجنوب، لذلك عملت على تصفية الأخير.

على الجهة المقابلة، كان حزب الله يرى تقاطعاً مقبولاً إلى حد ما مع المناخ الفلسطيني المقاوم، لذلك عمل على إنهاء الصراع بين أمل والقوى الفلسطينية، بما لديه من نفوذ في صفوف الفلسطينيين. ولكن وجدت حركة أمل في توجهات حزب الله ولادةً لتحالف «مريب» بينه وبين القوى الفلسطينية. بينما خشي حزب الله أن يكون دوره في التصفية هو التالي، أي بعد القضاء على النفوذ الفلسطيني على يد حركة أمل، والتي كانت مدعومة بالكامل من سوريا وبعض الأحزاب اللبنانية.

وقع أول الصدامات بين أمل وحزب الله في سبتمبر/أيلول 1985، وذلك في أعقاب الاحتفالات بذكرى اختفاء الإمام الصدر، وقد تطورت هذه الصدامات إلى عمليات حربية متبادلة، شملت عدداً من قرى وبلدات الجنوب، واستمرت لأسابيع، قبل أن تتدخل وساطة سورية لإيقافها.

استمرت الأجواء المشحونة بالتوتر، إلى أن وقعت مواجهات مسلحة مباشرة بين حزب الله والجيش السوري في فبراير/شباط 1987، والتي سقط خلالها 22 مقاتلاً من حزب الله. حينئذ انتقلت اللعبة إلى الحدود الإقليمية، فبدا وكأن حزب الله-ومن خلفه إيران- يحاول منع سوريا من تنفيذ سياستها في لبنان، بل ويتحدى دورها التاريخي هناك. غير أن حزب الله– حينئذ- كان ينمو سريعاً كقوة عسكرية، وقوة اجتماعية نشيطة وحيوية تمتلك شبكة واسعة من الخدمات الاجتماعية والمعيشية غير المتوافرة في أي مصدر آخر.

لذلك، تجدد الصراع مرة أخرى، ولكن هذه المرة في صورة حلقات من الحروب الدموية بين حزب الله وحركة أمل. كانت البداية في مايو/أيار 1988 في الضاحية الجنوبية، حيث سقط 500 قتيل، ولكن نجح حزب الله في الانتصار وإخراج حركة أمل من مناطق برج البراجنة والمريجة والغبيري وحارة حريك. وامتدت هذه الحلقة زمنياً إلى صيف هذا العام.

ثم استعادت المواجهات العسكرية زخمها مرة أخرى في شتاء 1990، على إثر اعتراض حركة أمل على نشاط حزب الله العسكري ضد إسرائيل في الجنوب، والذي يستجلب بدوره رد فعل إسرائيلي عسكري عنيف على الجنوب.

وصلت هذه المواجهات إلى أوجها في منتصف عام 1990 في منطقة «إقليم التفاح» في الجنوب، ولكن تزامن هذه المواجهات مع متغيرات سياسية إقليمية وعالمية جديدة، دفع بها إلى مرحلة جديدة. حيث تفكك الاتحاد السوفييتي ومعه المعسكر الشرقي في المنطقة، وأدركت سوريا أن نفوذها الإقليمي بات مُهدَّداً، وأنها في حاجة إلى خلق توازن جديد في المنطقة. لذلك عمدت دمشق– بجانب طهران هذه المرة- إلى لعب دور وساطة جدية بين حزب الله وأمل، وذلك لإنهاء الاقتتال بينهما بشكل حاسم.

سافر حافظ الأسد إلى طهران في سبتمبر/أيلول 1990، حيث عُقدت جلسة رباعية ضمت القيادات المعنية، وبالفعل وُلدت اتفاقية «دمشق الثانية» في نوفمبر/تشرين الثاني 1990 بين حزب الله وأمل، والتي أعقبها دخول الجيش اللبناني إلى مناطق نفوذ الطرفين في الجنوب للحيلولة دون تجدد الاشتباكات بينهما، بما لا يُشكِّل عائقاً لعمليات مقاومة الاحتلال الإسرائيلي.

وهكذا انتهت الحرب الطويلة بين حزب الله وحركة أمل، وصارت الجهود العسكرية للحزب مُركزة حصراً– وبشكل منفرد- لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي في الجنوب.

زمن المقاومة: تطور الاستراتيجية والتكتيك

منذ الإعلان عن وجود «المقاومة الإسلامية» إلى جانب المقاومة الوطنية في الجنوب اللبناني ضد الاحتلال الإسرائيلي، والبدء في تكثيف العمليات كماً وكيفاً (نصب كمائن للدوريات الإسرائيلية وللمتعاملين مع العدو، إلقاء قنابل وزرع ألغام وعبوات، إطلاق صواريخ…)، ازدادت خسائر العدو البشرية، الذي اضطر إلى الانسحاب تدريجياً إلى أن استقرت قواته في منطقة «الحزام الأمني» في 14 يونيو/حزيران 1985، وقد كان هذا الانسحاب الأول في تاريخ إسرائيل من دون تلقي ضمانات أو معاهدات، الأمر الذي مثّل هزيمة غير متوقعة لإسرائيل، ونقطة انطلاق لسمعة عسكرية متميزة لحزب الله.

وبعد الانسحاب الإسرائيلي، طرأت تغيرات على استراتيجية المقاومة، بسبب طبيعة المنطقة الجغرافية والديموغرافية، فقد كان من الصعب القيام بعمليات عسكرية بواسطة خلايا شعبية، لأن عناصرها سيُكشَفون بسرعة ويُعتقلون. لذلك كان يجب أن يتحرك المقاتلون من المناطق المُحررة إلى الشريط المحتل، ويتوغلوا في عمقه للقيام بالعمليات ثم يغادرون في سرية.

وكانت طبيعة هذه العمليات تتطلب تجهيزات مناسبة ومهارات عالية، لم يكن حزب الله قادر دائماً على توفيرها، لذلك تضاءل عدد عمليات المقاومة في الفترة بين 1985 و1988، ولكن عند حدوثها، كانت نوعية وقوية ومؤثرة، وأكثر تعقيداً.

استمرت العمليات العسكرية ضد قوات الاحتلال في التصاعد، وتشير مصادر الحزب إلى أن متوسط العمليات التي شنها في الفترة من 1989 إلى 1991 بلغت 292 عملية. وفي الفترة بين عام 1992 و1994 بلغت 495 عملية. أمّا الذروة فقد كانت بين عامي 1995 و1997 حيث بلغت 936 عملية، كان نصيب حزب الله منها 736 عملية.

أمّا المصادر الإسرائيلية، فتشير إلى أنها فقدت عام 1988 وحده 36 جندياً وجُرح لها 64 جندياً آخر وخُطف اثنان. وفي الإجمال كانت حصيلة القتلى الإسرائيليين على مدى 18 عاماً (من عام 1982 إلى 2000) نحو 1200 قتيل وأكثر من 4 آلاف جريح.

وقد جاء عدوان عام 1996 ليكون مفترقاً مهماً، إذ شنت إسرائيل ما عُرف بعملية «عناقيد الغضب» إثر سلسلة عمليات عسكرية ناجحة للمقاومة، وكان شيمون بيريز حينها يستعد لترشيح نفسه للانتخابات، وكان يعلم أن استمرار هذا الوضع في الجنوب سيؤدي إلى خسارته، لذلك صمّم أن يقوم بحملة عسكرية واسعة على لبنان وعلى المقاومة، بدأت في 11 إبريل/نيسان 1996، براً وبحراً وجواً لتشمل كافة محافظات لبنان.

استمرت الحرب 16 يوماً، أثبتت فيها المقاومة صموداً كبيراً، وقدرة على توجيه الضربات وإرباك إسرائيل. ومنحت هذه الحرب مزيداً من الزخم والسمعة الدولية لحزب الله، كما أنّها سرّعت من وتيرة المفاوضات التي أعلنت إسرائيل على إثرها الانسحاب من لبنان في يوليو/تموز عام 2000.

أمّا المحطة التالية الأهم في مسيرة المقاومة، فقد جاءت في حرب يوليو/تموز 2006، التي انفجرت إثر عملية «الوعد الصادق» التي قام بها حزب الله بهدف خطف جنود إسرائيليين لمبادلتهم بما تبقى من أسرى لبنانيين، وهو التكتيك الذي مارسه الحزب منذ عام 1988. وقد استمرت الحرب لـ33 يوماً، أبدى خلالها حزب الله مقاومة كبيرة، ولكن كانت الخسائر اللبنانية- على مستوى البنية التحتية والاقتصادية- فادحة.

حقيقي أن الحرب انتهت بانسحاب إسرائيل وفشلها في تحقيق أهدافها المسبقة، ولكنها أثّرت على وضعية حزب الله في الداخل اللبناني، الذي كان أصلاً في وضعية انقسام إثر اغتيال رفيق الحريري، وبدأ الحديث بشكل جدي عن سلاح حزب الله، وتأثيره على سيادة الدولة في لبنان.

زمن السياسة: استراتيجية المرونة العقائدية

في البدايات، كانت هناك التزام مبدئي واضح بأن غاية الحزب هي إقامة الحكم الإسلامي، باعتماد الموعظة الحسنة وليس بالفرض أو العنف. ولكن مع التحولات السياسية التي جرت في لبنان والمنطقة العربية في الثمانينيات والتسعينيات، تحوّل الحزب إلى اتباع استراتيجية المرونة العقائدية والسياسية، مبررين ذلك بعدم توافر الشروط العملية لإقامة نظام إسلامي في لبنان.

وجد حزب الله نفسه أمام استحقاق الانتخابات النيابية الأولى بعد اتفاق الطائف، عام 1992، والتي شارك فيها، وحصد 8 مقاعد في جو ائتلافي غير تنافسي. وهكذا استمرت مشاركة الحزب بفاعلية في الانتخابات البرلمانية، لتكون فيما بعد مدخلاً لتحول استراتيجية الحزب والخوض في غمار العمل الحكومي.

وقد كانت رؤية حزب الله الرافضة للمشاركة في الحكومة اللبنانية تقوم على أن الحزب– حال أصبح جزءاً من الحكومة- سيتحمَّل «وزر» أعمالها، من دون أن يكون له القدرة على إحداث التغيير المنشود في أجندتها.

ولكن هذا الأمر تغير بدايةً من عام 2004، حينما صدر قرار مجلس الأمن رقم «1559»، والذي طالب بنزع سلاح حزب الله، وما أعقبه في 2005 من اغتيال رفيق الحريري، ثم خروج الجيش السوري من لبنان. أدت هذه الأحداث إلى زيادة الضغوط على حزب الله، وكشف غطاء الدعم اللبناني والإقليمي عنه، وصار مضطراً للمشاركة في الحكومة للحد من خسائره، وبالفعل كانت مشاركته الأولى في حكومة فؤاد السنيورة الأولى في يوليو/تموز 2005، وحصل حينئذ على وزارتي «الطاقة والمياه» و«العمل».

ولكن بقدر الأهمية التكتيكية لهذه الخطوة، إلا أنها أثّرت على مشروع المقاومة، حيث اضطر الحزب– بحكم مشاركته في الحكومة- إلى اتخاذ المواقف والخوض في التفاصيل الخلافية التي كان ينأى بنفسه عنها، خاصةً وأنه كان يجد نفسه في مواجهة أغلبية عددية في المجلس والحكومة، لذلك كان لا بد من ممانعات وانسحابات واعتكافات، ينتج عنها خطاب تصعيدي وتجاذبات بينه وبين مختلف الفرقاء.

وفي ظل هذه التحولات، جاء الإعلان عن «الوثيقة السياسية الجديدة» لحزب الله في أواخر عام 2009، وهي آخر مستند أيديولوجي صدر عن الحزب. وقد صدرت هذه الوثيقة والحزب في موقع المعارضة، حيث كان خارج الحكومة حينئذ ويسعى لإسقاطها، لذلك فمقاربته للوضع اللبناني في هذه الوثيقة تنطلق من هذه الخلفية، وهي إذ سعت إلى التفصيل في الميادين الدولية والعربية والإسلامية والمحلية، فإنها لم تفعل ذلك إلا بهدف واحد مُحدد مُسبقاً، وهو تبرير مهمة الصراع بشكله المسلح حصرياً، وإقامة الحجة على الخصم الرافض لخيار المقاومة.

خلاصة تحليلية

صدر هذا الكراس الذي حاولنا عرض أهم أفكاره في السطور السابقة، في يوليو/تموز 2013، حين كانت موجة الربيع العربي في بداياتها، وهي منْ جرفت معها مسيرة حزب الله في اتجاه مغاير تماماً عن مسيرته العسكرية والسياسية السابقة، فقد حمل السلاح في وجه الثورة السورية داعماً لنظام الأسد، وزاد تورطه في الساحة السياسية اللبنانية، بل وأسهم في مفاقمة الوضع السياسي والاقتصادي هناك، وهو ما جعله حالياً كياناً حافلاً بالتناقضات على المستوى الأيديولوجي وعلى المستوى السياسي العملي، وحتى على المستوى العسكري، ومع ذلك، فما زال يحاول الحفاظ على قواعد اللعبة القديمة، استدعاء الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي ورفع راية المقاومة، حتى وإن كان هو منْ أسقط هذه الراية منذ سنوات عن عمد.