تعيش الهند اليوم مرحلة عصيبة بسبب صعود اليمين الهندوسي المتطرف. فبعد أن كانت تفاخر بأنها أكبر ديمقراطية في العالم، صارت تنافس على المركز الثاني (بعد الصين) في قائمة الدول السلطوية. فالتعصب الديني يعصف بالدولة التي كانت تُوصف بأنها خلاصة ناطقة لكافة أدوار التاريخ وزبدة جميع العوالم، وبأن التاريخ لا يتجلى في أي بلد كما يتجلى فيها من شدة تنوعها وغناها الثقافي الفريد. وهي التي اشتهرت عالميًا بالثقافة اللاعنفية، لكنها تحولت إلى ساحة تغلي بالشحن الطائفي الممزوج بالعنف.

الهند للهندوس

تحت حكم حزب «بهاراتيا جاناتا» اليميني المتطرف، انفجرت مشاعر التعصب العرقي والديني والثقافي وارتفعت معدلات العنف بدوافع عنصرية بشكل كبير. فوفقًا لقانون الجنسية الحالي الذي أقره اليمينيون الهندوس، تعد الهند وطنًا مستحقًا للهندوس الأجانب، بينما تنزع الجنسية عن أعداد هائلة من المسلمين، ويتم تهجير الآلاف منهم وسجنهم في معسكرات اعتقال، فضلًا عن ممارسات عنصرية لا تحصى تزداد يومًا بعد يوم منذ وصول بهاراتيا جاناتا إلى السلطة عام 2014 على حساب حزب «المؤتمر الوطني» ذي التوجه العلماني.

كانت علمانية غاندي عقبة رئيسية أمام اليمين الهندوسي، وما زال المعارضون لهذا اليمين الهندوسي يملؤون الشوارع بصور الرجل الذي يعد رمز وحدة البلاد واستقلالها، في إشارة إلى تعارض نهج الحزب اليميني المتطرف مع هذا الرمز الوطني المقدس لديهم، فلجأت المؤسسة السياسية إلى العمل على محاربة وإضعاف «المؤتمر الوطني» حزب غاندي، كما حاولت سرقة رمزية غاندي ضمن استراتيجية أيديولوجية تستهدف إبطال سحره من خلال تشويه سمعته تارة، وتزييف أفكاره تارة أخرى، وتهدف في النهاية إلى إعادة كتابة تاريخ البلاد وتشكيل هويتها من جديد. ووفقًا للمؤرخ الهندي الشهير راماتشاندرا جوها، وهو كاتب سيرة غاندي جرى اعتقاله خلال الاحتجاجات على قانون الجنسية المثير للجدل، فإن رئيس الوزراء الحالي ناريندا مودي يستحضر كل شيء عن غاندي باستثناء الانسجام بين عنصري الهند الرئيسيين: الهندوس والمسلمين، رغم أن هذا هو العنصر الأكثر أهمية على الإطلاق في سيرته، ويشبه هذا المسلك بالحديث عن داروين مع إغفال ذكر نظرية التطور أو أينشتاين من دون «النسبية».

ووصلت جرأة بعض الراديكاليين الهندوس إلى حد تمجيد «غودسي»، المتعصب الهندوسي الذي قتل غاندي بالرصاص، والمطالبة ببناء تمثال ومعبد لعبادته والاحتفال بيوم الاغتيال الذي يوافق الثلاثين من يناير/كانون الثاني وتسميته «يوم الشجاعة».

منذ سنوات طويلة، وقبل الصعود السياسي الحالي لليمين المتطرف، شهدت البلاد تصاعد التأثير الثقافي لهذا التيار حينما تولى أتال بيهاري فاجبايي رئاسة الحكومة في نهاية التسعينيات، وهو ينتمي إلى ذات التيار اليميني المعروف بـ«الهندوتفا»، ومنذ ذلك الوقت انتشرت هذه الأفكار ليس فقط في المدارس اللاهوتية الهندوسية، ولكن أيضًا في مناهج المدارس العامة على الرغم من اعتراض عدد من المؤسسات الحكومية على غرار المجلس الوطني للبحوث التربوية والتدريب أو المجالس الهندية للعلوم الاجتماعية والبحوث التاريخية، وقد وصل التحريف في المناهج الدراسية إلى درجة أن أحد الاختبارات الدراسية في ولاية جوجارات الغربية تضمن سؤالًا عن كيفية «انتحار» غاندي!

 وتضمنت سياسات حكومة حزب بهاراتيا جاناتا إعادة تسمية الأماكن العامة بأسماء متطرفين هندوس أو شخصيات من الأساطير الدينية، بدلًا من أسمائها الأصلية باللغة الأردية المستعملة في بعض المناطق ذات التاريخ الإسلامي، رغم أنها إحدى اللغات الرسمية في البلاد ويتحدثها نحو 50 مليون كلغة أولى (نحو 5% من السكان)، ويواجه مستخدموها اتهامات عنصرية بأنهم من نسل العرب ولم يسهموا بشكل فعال في تحضر البلاد قديمًا، بل دمروا حضارتها المزدهرة.

ويحاول النظام الحالي تقريبًا محو ثمانية قرون من عمر الهند، وهي الفترة التي كانت فيها دولة إسلامية، فالآثار التي ترجع لهذا العصر تواجه إهمالًا ملحوظًا، حتى أن «تاج محل» أحد أشهر الآثار في العالم والذي يجذب أكثر من 6 ملايين سائح سنويًا اختفى من الدليل السياحي الخاص بولاية أوتاربراديش التي يقع فيها، إذ أصبح يُنظر إليه كمبنى غريب على الثقافة الهندية وظهرت ادعاءات بأنه كان معبدًا هندوسيًا.

إعادة ترتيب العصور القديمة

ضمن سياسة تشكيل هوية هندية جديدة سعى منظرو الهندوتفا (أيديولوجية عنصرية ترى أن الهند يجب أن تكون للهندوس وحدهم باعتبارهم أصحابها الأصليين) إلى إعادة صياغة التاريخ القديم لإثبات مزاعم أن أبناء الجنس الآري هم السكان الأصليون للبلاد منذ فجر التاريخ، في مسلك مشابه للنازية في ألمانيا في ثلاثينيات القرن الماضي، رغم أن الزعيم الألماني، أدولف هتلر، كان يعتقد أن الآريين الذين هاجروا إلى الهند قديمًا اختلطوا بأعراق أخرى وفقدوا السمات التي تجعلهم جنسًا متفوقًا بحسب نظريته العنصرية.

ووفقًا للنازية، فإن الآريين الناجين من صاعقة جزيرة أتلانتس الخيالية، انتشروا في العالم بعد ذلك، وكانت هناك منظمة ألمانية اسمها «مكتب تراث الأجداد» مهمتها تتبع الهجرات الآرية بعد غرق أتلانتس المفترض.

ووفقًا للسجلات التاريخية، فإن الآريين غزوا (أو هاجروا) إلى الهند وسيطروا عليها وكان ركوب الخيل جزءًا لا يتجزأ من نمط حياتهم بينما لم تكن الهند تعرف هذا الحيوان من قبل، وعلى أيديهم ظهرت أقدم النصوص الدينية لتصبح أساسًا للديانة الفيدية التي انحدرت منها الهندوسية.

بينما يصر منظرو الهندوتفا على الزعم بأن الآريين هم السكان الأصليين لشبه القارة الهندية وليسوا أحفاد مهاجرين أو غزاة أجانب قدموا من القوقاز ودمروا حضارة وادي السند في محاولة للتخلص من تلك الخطيئة التاريخية زاعمين أن حضارة وادي السند كانت جزءًا من الثقافة الهندوسية الآرية وليست سابقة لها، وتم تسخير متخصصين في الدين والتاريخ والآثار لترديد هذه المزاعم، وتوفير الدعم والمنح الدراسية والدعم الأكاديمي لأصحاب هذا الاتجاه.

وقد شهدت الهند أول محاولة شاملة لإعادة كتابة تاريخها في الثلاثينيات جولوالكار، أحد أبرز رموز هندوتفا، في كتابه «نحن أو أمتنا محدَّدون» الذي يعتبر منبع المحاولات الحالية لتغيير تاريخ الهند في مخالفة لكل الأدلة الأثرية واللغوية والجينية التي لا تدعم أيًا من تلك الادعاءات.

ففي الكتاب المذكور يقول جولوالكار: «نحن- الهندوس- ملكنا هذه الأرض بلا منازع ومن دون إزعاج لأكثر من ثمانية أو عشرة آلاف سنة قبل غزو أي عرق أجنبي»، وفي ثنايا كلامه يقول: «الهندوس أي الآريون…»، على اعتبار أن الكلمتين مترادفتان، ومن دون الاستشهاد بأي مرجع يقول، إن العلماء المستشرقين أثبتوا كذا وكذا، ثم يبني على تلك المزاعم فروضًا ويصل إلى نتائج توافق كلامه! مع أنه في مواضع أخرى يشكك في أي جهود لعلماء الغرب باعتبارها شهادة مشبوهة نتجت عن عقدة التفوق لدى الرجل الأبيض.

وبحسب المؤرخ الماركسي عرفان حبيب، فإن أبرز الأدلة الأثرية على الترتيب الزمني المعروف هي الحفريات التي تدعمت بالأدلة الجينية مؤخرا، وتثبت بشكل لا لبس فيه أن حضارة السند لم تكن تعرف وجود الحصان إلى أن جاء الآريون من آسيا الوسطى وانتقلوا إلى إيران والهند، لكن قبول هذه الحقائق التاريخية يفسد نظرية اليمين الهندوسي المتطرف التي تزعم أن الآريين هم صناع الحضارة، وتنفي وجود أي حضارات أخرى قبلها كانت تعرف الكتابة والرسم والتمدن، لأن ذلك يقضي على أسطورة التفوق الآري. وعلى أساس هذا الفهم، يطلق أتباع الهندوتفا على سكان الهند القبليين اسم «ساكنو الغابات» بدلاً من «السكان الأصليون» امتدادًا لإنكارهم لماضي الهند غير الآري.

ووفقًا لحبيب، فإن مصطلح «آريا» ينطبق على الهند وإيران كذلك، فإيران هي جمع «آريا»، أي بلد «النبلاء»، وبناء على ذلك ليس هناك خصوصية للهند؛ إذ يمكن لإيران أن تدعي أنها آريا الأصلية. والجدير بالذكر أن غولوالكار، منظر الهندوتفا، أيضًا يعترف بذلك؛ ففي كتابه «مجموعة خواطر» قال: «كانت إيران في الأصل آرية، ملِكها رضا شاه بهلوي كان يسترشد بالقيم الآرية أكثر من الإسلام»، مع أنه طرح هذه الحقيقة لا لينفي الخصوصية الآرية عن الهند بل ليقول، إن إيران جزء من حضارة الهند القديمة.

ومؤخرًا، أضحت قضية إثبات وجود الحصان في الهند في عصر حضارة وادي السند إحدى أبرز القضايا الخلافية بين اليمين المتطرف وخصومه، حتى أن كثيرًا من اليمينيين من غير المتخصصين باتوا يرددون روايات ويستشهدون بصور قديمة ويؤوّلون نصوصًا تاريخية لإثبات وجود الحصان خلال ذلك العصر، وأصبحت تلك المسألة عقيدة لا تتزعزع بالنسبة لهم، فهم يعتقدون أنهم مالكو هذه البلاد منذ قديم الأزل وعلى الجميع الخضوع لهم.