تنويه، ربما هو أهم ما سيذكر: يُنشر هذا المحتوى بناءً على موافقة سابقة من الراحل د.أحمد خالد توفيق على الفكرة، وإذن من أسرته.

حشرة الشيطان
حشرة آكلة البشر المعروفة بـ «حشرة الشيطان»

مقدمة مملة وغير مهمة ويمكن تجاوزها مباشرة للحوار

قال لي الدكتور أحمد وهو يعطيني رقم هاتفه:

– حاول ألا تثير ملله أو أن تبدو سطحيًا، لا داعي لـ «أنا بك أسعد ولك قلبي يطرب» ومثل هذه الأمور.

كان العجوز الملول قد أبدى تشجيعًا وحماسًا لمجلتنا الصغيرة «ميكروفون»، ورأيت أن أستغل هذه الفرصة التي قد لا تعوّض للحصول على شيء مميز وباق، حوار مع رفعت إسماعيل، بالطبع كانت احتمالات قبوله مستحيلة، ولذلك كانت موافقته خيالية، لكنني لم أتبع النصيحة، قلت له شيئًا سخيفًا من نوعية أن عليك أن ترتدي (البذلة) الكحلية كي تكون فاتنًا، ضحك قصيرًا وسعل طويلاً ثم قال إنها ربما لا تناسبه جدًا الآن؛ لأن المرض أنقص وزنه كثيرًا، وشعرت بغصة، إن الأمر لن يكون سهلاً.

ولد الدكتور رفعت إسماعيل في عام 1924م في قرية كفر بدر بمحافظة الشرقية. توفي والده بينما هو طفل ورُبيّ في رعاية خاله بالمنصورة حتى التحاقه بكلية الطب بالقصر العيني حيث انتقل للعيش بالقاهرة، وعقب تخرجه وقضاء فترة التكليف في إحدى القرى بالريف، التحق بالعمل بكلية طب جامعة إبراهيم باشا (عين شمس) المنشأة حديثًا، وأرسل في بعثة عام 1953م لمدة سنتين للدراسة في جامعة داندي بأسكتلندا. وعقب عودته، بادر بإنشاء وحدة مختصة لأمراض الدم بقسم الأمراض الباطنية في الكلية.

بدأ تورط د. رفعت في عوالم «ما وراء الطبيعة» سنة 1959 باشتراكه في تجربة لإحياء مومياء مزعومة للكونت دراكيولا. ورغم انتهاء التجربة بشكل غامض لا يخبر بنجاحها من عدمه، إلا أنها أثرت فيه بشدة، حتى أن البعض يعتقد أنه سافر فيما بعد خصيصًا لأستراليا متعقبًا آثار د. ريتشارد كامنجز (صاحب التجربة، وهو الذي دعاه إليها) رغم أنه لم يشر لهذا، وقد صادف تعرضه هناك أيضًا لقصة أخرى هزت ثوابته فيما يتعلق بالكائنات العاقلة من كواكب أخرى.

خاض د. رفعت في عشرات القصص الميتافيزيقية سواء بالتورط والصدفة أو لاحقًا باستدعائه وطلب رأيه كخبير بالأمر، ولكن لم تمنع سمعته كمهتم بالظواهر الخارقة وغير الطبيعية من أن يصبح أحد أعلام مجال أمراض الدم خاصةً ما يتعلق بالهيموجلوبين وخلايا الدم المنجلية التي له فيهما عدة أبحاث هامة.

رفعت إسماعيل
إشادة د. رفعت بالمجلة، وهي التي شجعتنا على طلب الحوار

على المستوى الشخصي، فالارتباط الرسمي الوحيد له كان خطبة تقليدية بشابة مصرية من دائرة معارفه انتهت بالانفصال، ذلك أنه لا يعترف بقصة زواجه وإنجابه العجيبة لاحقًا ويعتبرها مجرد تجربة أخرى من تجارب ما وراء الطبيعة، لكن الحب الأبدي والعلاقة العاطفية التي يتمسك بها رغم بعد الزمان والمكان هي علاقته بدكتور ماجي ماكيلوب، ابنة أستاذه في أسكتلندا، وهي العلاقة التي لم تكلّل بالزواج وإن لم يمنع هذا استمرارها، أو ربما هذا سبب استمرارها كما يفسر د.رفعت وماجي أحيانًا.

اشترك د. رفعت في عام 1969 في تقديم برنامج بالإذاعة المصرية تحت عنوان «بعد منتصف الليل»، ولكن تجربة البرنامج انتهت سريعًا. وفي عام 1992، بدأ الدكتور رفعت في سرد حكاياته الشخصية بالتعاون مع مؤلف صادف أنه طبيب جامعي أيضًا، وهو د. أحمد خالد توفيق، من خلال مشروع «روايات مصرية للجيب».

يسكن الدكتور رفعت إسماعيل في عمارة ذات مدخل رخامي أسود مكوّنة من خمسة طوابق في 4-أ شارع الترعة بالدقي. في السابق، كان الدكتور يسكن في العباسية قريبًا من مقر عمله في جامعة عين شمس، ثم قرر بعد امتلاكه سيارة أنه يمكنه أن يسكن في مكان أبعد وأكثر هدوءًا. ما زال يسكن معه في نفس الطابق جاره النحات القاهري عزت شريف بالطبع. بينما نقف أمام الباب كانت مرآة معلقة بجانب باب عزت تطمئن الدكتور أن لنا انعكاسًا وأننا لسنا مصاصي دماء أو أطياف.

كان الدكتور أطول قليلاً مما توقعت، ولا أدري لماذا توقعته قصيرًا، وكانت معالم الشقة كما أعرفها وأتخيلها، ما زالت أقنعة الزولو المرعبة موجودة، عدد من اللوحات لكلمة (سينوي) بخط يحاول أن يكون جميلاً، إطار صغير به صورة لشقراء رقيقة يمكن أن نخمن من هي (من المفترض أن لها أيضا لوحة زيتية هنا؛ لكن لم أرها)، الكثير من الآيات القرآنية، وتمثال يبدو كدب كوالا متنكر كموتور سيارة.

كنت قد اصطحبت صديقين، زميلا عمل بـ (ميكروفون) أحدهما -أحمد جلال- للمشاركة في الحوار والآخر -ضياء السواحلي- للتصوير، في الحقيقة لقد اصطحبتهما للتحلي ببعض الشجاعة، أنا أكون أكثر ثباتًا في وجود الأصدقاء، ولقد أفادا حقا في هذا الجانب، لكن أحمد جلال لم يشارك تقريبًا في الحوار واكتفى بالابتسام والضحك بلا وقار على تعليقات الدكتور رفعت الساخرة، بينما كان لضياء مشاركات جيدة حقًا لكني اكتشفت لاحقًا أن جميعها كانت خارج أوقات التسجيل off record، ولذلك يلزمني ويشرفني تحمل مسئولية الحوار بالكامل تقريبًا بما قد يكون فيه من نقص وسطحية وفرص ضائعة.

أجري هذا الحوار قبل التدهور الأخير في صحة د. رفعت إسماعيل الذي اضطره للدخول إلى المستشفى حيث وافته المنية.

دكتور رفعت إسماعيل
صورة لدكتور رفعت محاولاً التنكر هربًا من أعضاء نادي الغيلان، ويرى آثار ختم غائر موجود في ظهر الصورة ويقرأ «ستوديو هالة – سابا باشا الإسكندرية»

حوار طويل عبارة عن أسئلة لا داعي لها من شاب يتظاهر بالفهم وثرثرة غير مفيدة من شيخ فانٍ

* د. رفعت .. المعجبون يودون الاطمئنان على صحتك.

– هناك أمران في كلامك لم أعتد عليهما قط ولا أظنني سأفعل.. الأول هو كلمة «معجبين»، فما زلت أجدها غريبة وأفضل عليها كلمة «القرّاء».. والثاني هو الاطمئنان على صحتي، فأنا لم أهتم في حياتي بالصحة قطّ، وقد كفّ الناس عن السؤال عن هذا الأمر من زمن.. والودودون منهم كانوا يطمئنون من آن لآخر أنني ما زلت حيًا.. أظن أن حتى أطبائي كانوا يهتمون بصحتي على سبيل الفضول لا أكثر، كيف وصلت لهذا العمر مع حماسي المتزايد لضم كل هذه الأمراض لمجموعتي الخاصة.

وابتسم ثم قال:

عندما ظهر فيلم «الميل الأخضر»، سألني عدد لا بأس به، بخليط من المزاح والجد، إن كنت قد مررت بتجربة مشابهة لتجربة بطل الفيلم أدت لامتداد عمري … (وأشار لظهر يده) والواقع أنني ربما مررت بالعكس، فتجربة المعالج الروماني إياه انتهت بظهور مبكر لعلامات الشيخوخة على يدي..

* لقد كانت قصة عجيبة حقًا، وكان يراودني دائمًا سؤال بخصوص أحداثها، عند عودة الشباب إليك، تصرفت كشخص متهور ومستهتر، وهذا غريب عن انطباعنا عن شبابك الحقيقي.

– لم أفكر كثيرًا في الأمر أو أحاول إيجاد منطق وراءه، إن الأمر كله ميتافيزيقي يصعب تفسيره.. ربما هذه هي فكرة الجعارين المحنطة عن الشباب.. ربما هذا هو الشباب حقًا وأنا لم أعش شبابي كما ينبغي.. ربما لأني لم أختبر قط شبابًا مصحوبًا بالصحة والقدرة فعندما نلت هذا اخترت اختيارات مغايرة.. لن أعرف أبدًا.. كما أنني بالمناسبة لا أعرف ما انطباعك عن شبابي الحقيقي، فأنا – على ما أذكر – لم أتحدث عنه مليًا.

* أرغب أن تكون بدايات الحوار من هنا، هذه الشقة، أجد أنه من الغريب قليلاً أن يعيش شخص عُرف عنه قدر هائل من سرعة الملل وبغض الرتابة كل هذه السنين في نفس المكان.

– مهما كان الشخص ملولاً راغبًا في التغيير فإنه يحتاج في حياته إلى جزء ثابت ومستقر.. نقاط ارتكاز وأرض يحسها تحت قدميه بينما يدور ويتحرك… يمكن القول إن هذه الشقة إحدى نقاط ارتكازي.. كذلك مع الوقت صرت أشعر أنها قلعتي الحامية التي أعرف مداخلها ومخارجها وكيف أؤمّنها جيدًا.. وقد برهنتْ على الولاء في المقابل.. تعرضت للحرائق والاقتحامات واللعنات والسكان غير الودودين من البشر وغير البشر وظلت صامدة.. دعنا لا ننسى بالطبع العامل الاقتصادي، فالحقيقة أنه مهم جدًا.. ودعني أيضًا أعترف أن عزت هو أحد العوامل الهامة.. إن أردتَ رأيي، لا يمكنك أن تجد بسهولة جارًا مخلصًا يوفر لك القدر المناسب من الونس والوحدة.

* كيف تصف علاقتك به بعد كل هذه السنين؟

– علاقتي بعزت كانت دومًا بسيطة للغاية.. أنا أجلب له المصائب وهو يردها لي ومعها بعض التماثيل المريعة التي غالبًا ما تتحرك ليلاً..

* ما هي الأشياء الأخرى التي تعتبرها نقاط ارتكاز في حياتك؟

– إنه مجرد تعبير ورد في ذهني الآن فلا تظن أن لدي قائمة بالأمر. ولا أقصد به أحب الأشياء وأقربها وإنما تلك الأمور التي أقبل وربما أرحب بأن تظل ثابتة ومتواجدة في حياتي دون تغيير.. مثلاً، إن عادل هو أعز أصدقائي وأقربهم إلي، ولكن د. رأفت صديقي العتيد كان أقرب لاعتباره نقطة ارتكاز.. أراه يوميًا تقريبًا ولا أخوض معه شيئًا مثيرًا لكنني لا أتضرر من صحبته في المكتب ولا أشعر بالملل يأكلني، كذلك الأمر بالنسبة للمؤلف، اعتدت على أسلوبه في العمل سويًا وارتعبت عندما بدأ منافستي في الأزمات الصحية، وخشيت أن يحدث ما يضطرني للتعامل مع غيره.

* هل د. ماجي تعتبر نقطة ارتكاز؟

– أنت حقًا تود أن تعتصر الأمر اعتصارًا! لا، إن لقائي بماجي نفسها هو نسمة منعشة تهب من آن لآخر على الصيف الهندي المملّ الطويل الذي هو حياتي، لكن يمكن اعتبار حبي لها نقطة ارتكاز.. أحبها قبل أن أنام عصرًا وعندما أستيقظ ليلاً وعندما أعمل نهارًا.. أحبها عندما أشعر أنني رائع وعندما أتساءل عن الشخص القبيح الذي ينظر إليّ في المرآة.. أحبها عندما أحكي حكاية مسلية أو أجري حوارًا مملاً.. عندما أرى امرأة جميلة أو وجهًا قبيحًا كالأبالسة.. أحبها الأمس واليوم وغدًا وإلى الأبد وحتى تحترق النجوم وحتى..

قاطعته في حماس محاولاً استغلال اللحظة:

* هل لهذه الجملة الشهيرة قصة ما أو تذكر كيف بدأت؟

قال في شيء من الغيظ:

– لا، لا أذكر.. أشعر أنها موجودة من الأزل. في منتصف الثمانينيات كان هناك كيميائى عربي – سوري أو أردني لا أذكر – يعمل مع ماجي فى إحدى تلك التجارب التي تتداخل فيها الفيزياء والكيمياء، وكان يحلو له في أوقات الراحة أن يستمع لأغاني فيروز عبر (ووكمان) كان يفتخر به باعتباره صرعة وقتها، وكانت ماجي تستمتع بسؤاله عن معنى الأغاني.. وفي مرة سألته عن أغنية: «الله معك يا هوانا»، فقال لها الأحمق أنها ترثي حبها الذي انتهى رغم أن حبيبها وعدها أن يحبها حتى تفنى النجوم! فأرسلت إلي شريط الكاسيت وقالت في خطابها: «أيها المحتال! كنت تقصد بوعودك أنك ستتركني كحبيب فيروز».. ورغم أن الخطاب كان في صيغة مشاكسة ومزاح، فقد أخذتُ كالمجنون في الخطاب التالي أحاول أن أثبت لها العكس.. وأن فيروز قالت هذا في السبعينات بينما أحبها أنا من الخمسينات!

* هل تعتبر ارتباطك ومشاعرك تجاه هويدا انحناءة في هذا الحب الثابت الأبدي؟

– أظنني تحدثت عن مشاعري وقت ارتباطي بهويدا بما يكفي لتوضيح أن هذا غير حقيقي.. كما أنني لا أرى ما يمنع أن يحتفظ الإنسان بمشاعر متباينة في الوقت ذاته، إن الإنسان كائن معقد بما يسمح بمثل هذا الأمر.

* إذا سمحت لي يا دكتور، ليس الأمر واضحًا لأغلب القراء كما تظن، أحيانًا يبدو وكأنك أحببت هويدا حقًا وأحيانًا لا.

– لا أظنني أرغب في أن أشرح الأمر من جديد.. ولا أعلم لماذا تبدو لك كمشكلة أن يعتقد البعض أمرًا ويعتقد الباقون خلافه.

* أظن أن الجميع يرغب في أن يعرف ما تعتقده أنت، هل أحببتها ولو للحظات؟

– وأنا أظن أنه من غير الدقيق أن تتحدث باسم الجميع.. ربما لديك أنت نظرية ما عن الأمر تريد أن تثبتها (واسترخى في مقعده وقال) هلم، لا مانع لدي من أن أسمعك..

شعرت بالسخرية في كلامه وفكرت في التراجع لكن شهوة الكلام غلبتني، استجمعت أنفاسي في توتر وقلت مترددًا مرتبكًا:

* أنا فقط لفت انتباهي بعض النقاط، لقد بدأ الارتباط بهويدا عقب خِطبة مس ماكيلوب.. يبدو الأمر كرد فعل على هذه الخطبة، ربما بدا لك أن هذه سن قرار الزواج (الآن، وإما لا للأبد)، وكنتَ تشكو قدرًا هائلًا من الوحدة، لكن أظن أن خطبة مس ماكيلوب كانت دافعًا لا بأس به، يبدو من حكيك أن علاقتك بهويدا ظلّت مجرد ارتباط تقليدي حتى تورطت المسكينة في قصة الفرعون أخيروم.. ربما هي التجربة المشتركة أو الشفقة أو الشعور بالذنب، لكن تولّد بعدها شيء من العاطفة…

عاطفة يبدو أنها كانت غير أصيلة وتتطلب قدرًا لا بأس به من المجهود النفسي حتى تتظاهر بها أمام نفسك – إرضاءً لضميرك – وأمامها، مجهود يصعب أن يبذل للأبد، كان لابد أن يحدث بهذا الجدار من التماسك شروخ يتسرب من خلالها ما أسميته أنت «إرادة النكد»، وأظن أن المِعول الذي أحدث الشرخ الأكبر كان أمرًا  بعيدًا ومفاجئًا وغير مباشر أدى إلى أجواء ليست سهلة نفسيًا.. أقصد النكسة.. لذلك حدثت الخلافات والانفصال بعدها بقليل.. لكنّ هنالك شيئًا آخر أظنه.. وهو يتعلق بقبول الارتباط بهويدا تحديدًا.

ألتقط أنفاسي وأتحسّب لما سأقول

قبولك بهويدا تحديدًا يثير الانتباه، ويبدو أحيانًا غير منطقي، أفهم أن هذه حياة طبيعية وليست قصة مكتوبة لابد أن يتسق فيها كل شيء، ولكن ظل الأمر بالنسبة لي غريبًا.. لكن قصة ما أوحت لي بفكرة، هل تذكر تجربة (إدجار آلان بو) يا دكتور؟ هل تذكر قصة ليجيا التي كانت سبب نجاتك؟ البطل تزوج بعد وفاة زوجته امرأةً أخرى، تزوجها لأنها مختلفة تمامًا عن زوجته الأولى، لأنها ليست هي على الإطلاق، وفي كل شيء، تزوجها كي يعاقبها أنها ليست هي ويعاقبها على كونه تزوجها! كانت هذه آخر قصة في التجربة، فماذا كان أول ما جاء في ذهنك المتعب وأنت تفيق؟ ماجي وهويدا! أليس هذا غريبًا وملفتًا؟

– رائع! ياله من تفسير محكم! يبدو أنك فكرت في الأمر كثيرًا.. للحظات شعرت أنك (بوارو) في نهاية قصة لأجاثا كريستي وقد وقفت كي توضح الأمور وتعلن اسم القاتل.

[قالها بنبرة سخرية واضحة، وشعرت أن الأجواء توترت بما يكفي، فقررت أن أنتقل لشأن آخر بعيد]

* هناك بطل آخر يكتب له المؤلف، علاء عبد العظيم، هل هناك علاقة بينكما أو أي نوع من التواصل؟

– نعم، لقد التقينا مرة في الكاميرون حيث يعمل، وطاردتني شياطين الأرض كالمعتاد إلى هناك .. أو ربما هو نحسه هذه المرة فهو أيضًا ليس محظوظًا جدًا .. لا أذكر إن كنت حكيت هذه القصة أم لا ..  كما أنني وجهت بعض رسائل القراء إليه عبر المؤلف، وهي الرسائل التي تطلب نصيحة في خيار الهجرة .. أظنه أجدر بالإجابة أو لأنني لا أعرف شابًا مهاجرًا آخر .. إنه شاب لا بأس به، وإن كنت في الحقيقة لا أرى سببًا لتكريس سلسلة من القصص لطبيب عصبي ملول يحب شقراء أجنبية ويدعي أن حياته سلسلة من الأحداث غير العادية!

الساعة السويسرية لدكتور رفعت إسماعيل
صورة قديمة للساعة التي قدمها شبح شاكر لهويدا، مع عبارة على ظهرها: «صنعت في سويسرا خصيصًا للسيد شاكر كمال»، لم يسمح السياق بسؤال د. رفعت عن مصير الساعة نفسها!

* وما هو رأيك في أعمال المؤلف الأخرى؟

– هو يعرف بعضها.

* قد يرغب القراء في أن يعرفوا!

– لماذا؟ ما قيمة رأيي في هذا الأمر؟ أنا أستاذ دم متقاعد تطارده الأشباح، لست ناقدًا أو أديبًا ليكون لي رأي مهم بهذا الخصوص، رأيي له نفس أهمية رأي أي قارئ آخر وربما أقل؛ فلست من الشباب الذين تُوجّه لهم أعمال المؤلف.. أذكر أن جلال أمين حكى أن الطيب صالح كان في ندوة في جامعة، ووجهت طالبة طيّبة القلب إليه سؤالاً، وكان السؤال: «ما رأيك في القومية العربية؟» أو شيئًا من هذا القبيل؛ فضحك الطيب صالح وقال لها ما معناه:

«يا بنتي، هل تظنين أنني لمجرد أني أعرف كيف أحكي حكاية أني أفهم أيضًا في القومية العربية، أو أن لي رأيًا فيها أهم من رأي غيري؟». والحقيقة أن هناك ولعًا الآن بأخذ رأي من لا يخصهم الأمر، الفنانون يتحدثون في السياسة والرياضيون يتكلمون في الفن، وربما يتكلم مقدمو برامج الطبخ قريبًا في الاقتصاد، أو ربما حدث فعلاً فأنا لست متابعًا جيدًا! إن رأيي مهم فقط فيما فعله المؤلف بقصصي والحق أنني راضٍ.

* إذن لن نستطيع أن نسألك عن رأيك فيما يحدث في الشأن العام مثلاً؟

– يمكنك أن تسأل بالطبع ولكنني غالبًا سأجيب بإجابات تتراوح بين «لا أعلم» و«ليس لدي فكرة واضحة عن الأمر».

* ولا حتى انطباع عام عن الوضع؟ أو شيء تود التعليق عليه؟

– الانطباع العام لن يختلف عن أي أحد آخر؛ لا أظن أن أحدًا لا يراها أيامًا عصيبة، وربما أود بشدة أن أقول أن هذا كله يبدو مألوفًا جدًا، إن ما يحدث حدث من قبل هنا وفي أماكن أخرى من العالم ربما عشرات المرات، وفي كل مرة يعيد التاريخ نفسه ليس لأنهم لا يعرفونه؛ ولكن لأنهم في كل مرة يتوقعون أنه لن يعيد نفسه وأن الأحداث ستأخذ مجرى جديدًا.

ثم صمت ، ولكن شعرت أنه يود أن يضيف شيئًا فانتظرت لثوانٍ وبالفعل نظر للسقف مفكرًا وقال:

– بالرغم من هذا يراودني عن ما يحدث في كل مكان سؤال قديم: هل الإنسان متوحش حقًا إلى هذا الحد؟ بالطبع لقد رأيت كثيرًا من الأشرار في حياتي .. ربما أكثر من أي أحد آخر .. كمًا وكيفًا .. بل إنني ربما رأيت الشر ذاته مجسدًا في جانب النجوم .. ولكنني ما زلت أتساءل: إن الذي يقترف هذا هو لا بد بشري مثلنا، له زوجة وأطفال .. ويصاب بالصداع والإسهال .. ويحب الفاكهة وليالي الصيف، فما الذي يحدث له كي يغدو وحشًا؟

* وكيف هي علاقتك بالمؤلف؟ ما هو رأيك فيه على المستوى الشخصي؟

– علاقتي به جيدة بالطبع، لم أكن لأستمر في علاقة مع أي شخص كل هذه المدة ما لم تكن جيدة، ما دام ليس جاري أو رئيسي في القسم .. هو – كما يقول الغربيون – رجل طيب ولا أحد ينكر ذلك .. كما أنه مثقف وذكي .. والحقيقة أن كثيرًا من الاستطرادات التي تتخلل القصص من اقتراحه .. فقط كان يزعجني عندما يتكلم باعتباري من وحي خياله .. كنت أعتقدها حيلة دعائية سخيفة، لكنني فهمت الأمر لاحقًا .. اعترافه بأنني موجود حقًا كان سيفتح علي أبواب الجحيم، ويحوّل تليفوني لسنترال العباسية وشقتي إلى محطة مصر، وستعجّ حياتي بالفضوليين من أمثالكم فضلاً عن المشككين والنصابين ..  لقد تحمل هو نصيبي من هذا كله رغم أنه لا يحبه كذلك، وإن كنت أود أن يستشيرني في الأمر.

* اعذرني يا دكتور؛ هذا غريب من شخص قَبِل راضيًا أن يكون نجم برنامج إذاعي.

– نعم، ولكنني لا أرغب في أن أكرر أخطائي.

[السؤال التالي غير مسجل وأنشره على مسئوليتي الشخصية]

* هل هذا معناه أن علينا عند نشر الحوار أن نتظاهر بأنك شخصية خيالية؟

– هذا رهن بهل سأكون موجودًا أم لا، يمكنكم حينها استشارة المؤلف.

* وهل كنت مقتنعًا بالسبب وراء توقف برنامج «بعد منتصف الليل»؟

قال في دهشة:

– سؤال غريب! فلم يكن هناك سبب كي لا أقتنع، ربما كان السبب مفاجئًا، لا يتوقع المرء في بلادنا أن هناك آباءً وأمهاتٍ حريصين على السلامة النفسية لأطفالهم، هذا وعي غير مألوف إن أردتَ رأيي، كما أنه من غير المألوف أن يستجيب المسئولون لمثل هذه الأسباب، لكن من الوارد أن يحدث الصواب على سبيل الاستثناء أو ربما هو مجرد نحسي كالمعتاد.

تنحنحت في خجل وأطرقت وأنا أقول:

* حسنًا، أرى أن عليّ أن أنقل لك هذا الرأي: البعض يقول إن البرنامج أُوقف لأسباب أمنية! برنامج يذيع مكالمات على الهواء في هذه الفترة الحساسة – ما بعد النكسة والإعداد للحرب – قد يُستغل لنشر شائعات وقصص تثير الفزع.

صمت لثانية مفكرًا، ثم ابتسم ساخرًا وقال:

– نظرية مغرية مثل أي نظرية مؤامرة أخرى، لكن كعجوز وقور يدعي الحكمة لا أظنها تغريني .. والحقيقة أن البرنامج كان يستقبل عددًا لا بأس به من مكالمات الأطفال مما يعني أن هناك أطفالاً بالفعل كانوا يستمعون له .. أعرف أن هذا محبِطٌ للبعض؛ فالبعض يرى أن الحياة مملة جدًا بدون مؤامرات تحاك هنا وهناك .. نظرية المؤامرة دومًا تشعرك بالأهمية .. الآخرون لا يقدرون على مواجهتك لذلك يتآمرون عليك .. الآخرون أوغاد لا يلعبون بنزاهة وصدق .. كل الذين تكرههم يجمعهم مخطط واحد .. هذا مغرٍ حقًا ومريح، لا يمكنك أن تلوم نفسك إذا كان الكون كله ضدك.

* كيف بدأت فكرة البرنامج في الأصل؟

– هذه قصة اتفقتُ مع المؤلف أن تكون جزءًا من حكايتي التي ذكرتُها، ولم أحكِها بعدُ، مع شريف السعدني، لهذا لا أستطيع أن أذكرها الآن.

* على الأقل نحن نعرف أن شريف كان أحد تلاميذك.

– لم أذكر هذا قط!

* لكنه كان حاضرًا في رحلة القناطر التي بدأت فيها قصة آشتا وآشتا، بل وذكر أن لكما صورة سويًا.

– كان حاضًرا لا يعني بالضرورة أنه كان ضمن الرحلة ومن تلاميذي، كما أنني لا أقول بالعكس كذلك .. فقط أقول إن لهذا قصة ستُروى في حينها.

* هل كان التعارف إذن له علاقة بسمعة بدأت في الانتشار، أو عن طريق المجلة التي نشرَتْ موضوع «الموتى الأحياء في مستعمرة الجذام»؟

– أنت لا تفهم ما أقول أو تعتقد أن الإلحاح حيلة ناجحة، وكلا الأمرين يجعلني أتشكك في مستوى ذكائك .. عامة تكاد لا تخلو ورطة لي من ذكر هذه المجلة اللعينة، كأن شيطانًا تولى توزيعها لتصل فقط لمن يحملون إلي المصائب .. لقد وددت حقًا أن أعثر على كل نسخة منها وأن أجعلها رمادًا.

* وهل سببت لك سلسلة القصص نفس النوع من المشاكل؟

– لا لحسن الحظ ولحسن تدبير المؤلف كما قلت من قبل .. لقد منحتني هذه السلسلة القدر المناسب من كل شيء.

* لا أفهم المقصود بـ «القدر المناسب من كل شيء».

– تبديد القدر الزائد من الوحدة  .. التخلص من قدر لا بأس به من الكوابيس .. إرضاء تلك الرغبة التي تنتاب العجائز في أن ينقلوا خبراتهم .. شهرة أليفة لا تجلب إلا البشر وتبقيهم في نفس الوقت على مسافة مناسبة .. ومقابل مادي معقول سيكون من الإجحاف ألا نذكره.

* هل كل الأسماء الواردة في القصص حقيقية؟

– تقريبًا ما لم أشر لعكس هذا.

* ألا يسبب هذا بعض المشاكل؟

– لقد مر دهر على هذه القصص، ولن يتأذى أحد لو حكيتُها مثلما لن يتأذى أحد لو حكينا قصة حريق روما أو حملة هانيبال.

* لكنّ شخصًا مثل هن-تشو-كان قد يضره بشدة الحديث عن علاقته الحقيقية بالصين! هل هذا هو اسمه الحقيقي؟

ابتسم في غموض وقال:

– شكسبير يقول «إن الزهرة أيًا كان اسمها ستظل تطلق عبيرها».. وهذا ينطبق على الزهرة الزرقاء!

* هل اختلفت أمور الماورائيات والأشياء الغامضة حاليًا عما كانت عليه قديمًا عندما بدأت في تعقيد حياتك؟

– لا أدري لماذا أشعر أنك تتوقع إجابة على طريقة (إن الأشباح قلّت بركتها) أو (إن نفوس مصاصي الدماء تغيّرت) أو (إن زمن التعاويذ الملعونة الجميل قد انتهى).. في الواقع إن الأمور تغيرت بالطبع لسبب بسيط.. إن الكثير من هذه الأشياء ليس حقيقيًا ولم يكن أبدًا.. بعضها وليد الخيال الإنساني، والخيال الإنساني وغد لا يهمد، يضيف كل يوم إلى مخاوفنا غير المنطقية دررًا جديدة.. لو أنك بحثت تحت مصطلح «الأساطير الحضرية – urban legends» فربما ترى شيئًا مما أقصد.. كذلك بعض هذه الأمور هو خدع محكمة ونصب شديد التعقيد؛ وهذا لا يتوقف أبدًا، على العكس إنه يتزايد باطراد، رغم أن وسائل كشفه أصبحت أقوى أيضًا.

هناك جزء حقيقي لا يقل رعبًا عن المذؤوبين والكيانات القديمة هو ما يفعله بعض البشر من ممارسات شنيعة مخيفة سواء فشلت أو نجحت، كما يتم خلطها مع كل معرفة أو تكنولوجيا جديدة ليولد شيء جديد مريع  .. مثلاً هناك مواقع في الإنترنت العميق Deep web تعرض عليك شراء لحوم البشر ومواقع أخرى تقدم لك وصفات رائعة من أجل وجبة شهية!

هذا بالطبع بخلاف المواقع التي توفر تسجيلات لتعاويذ استدعاء شيطانية، وجماعات سرية لممارسة طقوس مرعبة بعضها يبث حيًا! الجزء الحقيقي غير البشري وفوق البشري من الأمر كان وما زال صعب الإمساك به، تلمحه ببقعتك العمياء فإذا التفتّ لا تراه، وإذا بحثت عنه لا تجده، ولكن تظل غير قادر على الشعور بالراحة أو أن تقسم أنه غير موجود .. فقط قلة من المحظوظين أمثالي تورطوا أكثر من اللازم، وتشعر الوحوش والمسوخ بالراحة في الظهور أمامهم، ويا له من شرف!

ورقة علمية للدكتور رفعت إسماعيل
مقتطفات من الورقة العلمية عن نبات إيماديللا نيجرا والتي شارك د. رفعت إسماعيل في كتابتها
ورقة علمية للدكتور رفعت إسماعيل
مقتطفات من الورقة العلمية عن نبات إيماديللا نيجرا والتي شارك د. رفعت إسماعيل في كتابتها

* يكون غريبًا دومًا عندما تتحدث عن أي شيء حديثٍ أو يتعلق بالحاضر يا دكتور رفعت؛ وخاصة الإنترنت.

– هذا طبيعي.. بالنسبة للغالبية أنا أنتمي بالكامل لعالم قديم يقف عند نقطة معينة.. لا شك أن البعض كذلك يصعب عليه تخيلي بألوان حقيقية كما يتخيل البعض أن الناس قديمًا كانت أبيض وأسود.. كما أن المؤلف جعلني في علاقتي بالتكنولوجيا الحديثة أبدو كديناصور منقرض لكن في الواقع أنا حاليًا أقرب إلى ماموث منقرض، فأنا أجيد بعض الأشياء البسيطة متتبعًا خطوات محددة، ارتباك أي منها يُحدث الكارثة التي تعيدني إلى عصر الديناصورات.

* ولم تجرب أن تطل على مواقع التواصل الاجتماعي، هل لديك فكرة عنها؟

– لا، ولن أفعل أبدا، إن الفضول الأحمق له حدود رغم كل شيء.

* موقف حاد جدًا من أمر لا تعرفه جيدًا.

– ليست كلمة «اجتماعي» مما يغريني بالأمور، كما أن انطباعي عن الفكرة نفسها غير مشجع، يبدو لي الأمر كالجحيم كما يصوّره الرسامون في اللوحات ولكن بألوان زرقاء بدلاً من الحمراء .. إن الإنسان يميل للتعبير عن تعاسته وحزنه واكتئابه بينما يستمتع في صمت بسعادته وفرحه، وإن عبر عنهما فليس من قبيل المشاركة وإنما التباهي، وممارسة لعبة «أنا بخير – أنت لست بخير».. والنتيجة؟ مئات الوجوه الصارخة بالتأكيد وشياطين تستمتع بهذا في نشوة وجذل .. كما أن تجربة هذه المواقع على مستوى الأفكار – كما أفهمها – جاذبة للمقيئين فكريًا وأنا أفضل دومًا الباصقين فكريًا، ولا أظن أنك تجدهم هناك بسهولة.

* لقد شكوت في حياتك من قدر كبير من الملل والوحدة والرعب، أي هذه الثلاثة قد تختار واحدًا فقط منها لتعيد حياتك مع قدر أقل منه؟

– لا أظنني شكوت كثيرًا من الوحدة، في المجمل أنا أستعذب الوحدة وأفضلها. بين الملل والرعب أنت تعرف أنني سأختار مللاً أقل .. لكنني أكره أن أكون مملاً ومكررًا.. لذلك سأختار رعبًا أقل! الملل شيء مفهوم، يعرفه الناس ويعرفون كيف ينتجونه ويتجنبونه .. كيف يتحملونه وكيف يتعذبون منه .. أما أنا فكنت أغلب الوقت أواجه مخاوف عاتية في ظلام دامس .. وليس ثمة معين ولا ناصح ولا وسيلة للفهم ..

يقولون إن الإنسان عدو ما يجهل، وفي حالتي كان ما أجهل أيضًا يعاديني في الغالب، أحيانًا كنت أعرف في النهاية لماذا.. وأحيانًا لم يكن الوقت يكفي أو يناسب لهذا.. ليس ذكيًا جدًا أن تنتظر تفسيرًا بينما ممص لزج يفتش في نهم عن موضع مناسب ليحقن فيك أشياء لا تعرف كنهها.. أظن هذا يمكن تأجيله لوقت لاحق .. كما أن أغلب الأشياء التي واجهتها لا تملك البلاغة الكافية لتشرح، إن زمجرات المذؤوبين أو صوت الـ (همفففخخ) المميز لـ «الفيسغاج» لا يخبرك بالكثير إن أردت رأيي.

مقال للدكتور رفعت إسماعيل
مقال «التفاؤل والتشاؤم» للدكتور رفعت إسماعيل

* قلت ذات مرة عن حياتك إنك تعلمت أن هذا هو أفضل العوالم الممكنة، هل تعتقد هذا حقًا مع كل ما واجهت؟

– هذا ما ينبغي أن يظنه عجوز في نهاية حياته.. لكن هناك أمورًا تدعم وجهة النظر هذه. لقد كانت حياة صعبة في كثير من أوقاتها، لكنني حظيت بالكثير من الأوقات الطيبة أيضًا. لقد شاهدت العالم وحظيت بحبيبة رائعة وصادفت عددًا لا بأس به من الأصدقاء المخلصين.. أنجزت إنجازًا لا بأس به في مجالي ولم تمنع غرابة أطواري الكثيرين من احترامي.. لقد واجهت عشرات – ربما مئات – الأهوال، ولكني أكلمك الآن وأنا في العقد التاسع من عمري مما يعني أنني نجوت منها جميعًا.

في بعض المواقف، عندما كان قلبي ينبض بالهلع ويدق كضربات القدر ويوشك الأحمق على أن يخذلني.. كنت أشعر بأنني ربما عليّ أن أتركه يفعل، فهذه موتة نظيفة أعرفها وأفهمها وهي أفضل بالتأكيد من أن أصير أشلاء يلهو بها مسخ مريع أو طعام في أمعاء شيطان ما إن كان له أمعاء، لكن أملي في الله – وخوفي منه كذلك! – وإرادة الحياة كانت تجعلني أضع قرص النيتروجلسرين المر المخلص العزيز تحت لساني.. عندها تسمح لمسة النترات الحانية على شراييني باندفاع الدم لتلافيف مخي.. وتبرز فكرة بائسة جديدة.. تفلح – يا للغرابة – في الغالب في إنقاذ حياتي، إنني لشخص محظوظ!

* أظن أنني سأكتفي بهذا القدر من إزعاجك، شكرًا على هذه الفرصة يا دكتور رفعت.. هل هناك شيء في النهاية تود أن تقوله؟

– ربما أود أن أعتذر للقراء.. يبدو أنني لن أستطيع أن أوفي بكل وعودي والتزاماتي لهم.. أعدهم أنني سأحاول.. لو استطعت أن أجعل الموت يمهلني كي أحكي قصة واحدة مسلية أخرى سأفعل، ولكن إن لم أستطع فليغفروا لي هذا .. أظن هذا هو ديْني الوحيد الآن.. وسواء نجحت في هذا أم لم أنجح، فليذكروا رفعت إسماعيل، وليترحموا عليه.. فهو ليس في غنى عن هذا..

خاتمة قصيرة لا داعي لها ولكن يفضل قراءة المقدمة لفهمها

بقيت ملحوظة أخيرة..

بينما نحن مغادرون أشار لي د.رفعت قائلاً:

–  تعال معي إلى غرفة المكتب، إن لك عندي شيئًا يناسبك، تبدو مهتمًا بهذه الأمور..

حقًا؟ غريب، لم أظن أنني رقت له إلى هذا الحد.. اتبعته مبتسمًا في سعادة بلهاء، ربما سيعطيني قلادة ملعونة أو خنجرًا من الفضة أو صورة موقعة من سيجفريد الأميدي.. ودخلت إلى غرفة المكتب بينما نظرات زميلي الحاقدة تتبعني.

وما إن دلفنا لغرفة المكتب حتى التفت د. رفعت لي قائلاً:

– هل لاحظت شيئًا مختلفًا في صديقك المصور اليوم؟

قلت مبتسمًا:

* إنه مريض، كان مريضًا جدًا حتى الصباح واعتذر باكيًا عن المجيء، ولكني فوجئت به في محطة القطار وقال إنه لن يفوّت لقاءك مهما حدث، وأنه تعاطى طنًا من المسكنات وخافضات الحرارة، لقاؤك بالنسبة لنا يمثل…

قال مقاطعًا:

– إن ما سأعطيه لك هو نصيحة.. بشكل أدق هو تنبيه: إن صديقك ليس هو من تظن!

ماذا يقصد؟ هل أصيب بالبارانويا أخيرًا؟

* ولكن يا دكتور..

قاطعني بحسم:

– إن صديقك يحشو كلامه بكلمات إنجليزية عديدة، إنها عادة سيئة يظن الناس أنها تجعلهم يبدون أرقى أو أكثر ثقافة، ليست هذه هي المشكلة.. المشكلة أنه ينطقها بلكنة أوروبا الشرقية.. بالتحديد بلكنة لم تعد أذني تخطئها؛ لكنة د.لوسيفر! دعك من أنه قال جملة أو اثنتين باللاتينية، والقاعدة تقول لا تثق بمن يتكلم اللاتينية ما لم يكن قسًا كاثوليكيًا!

كان هذا كلامًا يصعب هضمه فصحت مندهشًا:

* د. لوسيفر يتجسد في هيئة ضياء! مستحيل! ولماذا؟ إن ضياء أقرب إلى أن يكون (دبدوب) آدميًا! لماذا يتنكر د. لوسيفر في هيئة (دبدوب)؟ ثم إننا أطباء والمصطلحات اللاتينية…

– يمكنك ألا تصدقني، هذا متوقع.. لكن هناك شيئًا آخر.. إن اسمه موحٍ جدًا، لا تنس أن لوسيفر معناها: حامل الضياء.. إن د. لوسيفر لم يشأ أن تَفُوت هذه الصدفة السعيدة، إنه يحب هذه الأمور.

بدا هذا مقلقًا حقًا.. ماذا لو كان ما يقوله حقيقيًا؟ ماذا يفترض أن أفعل؟ وبدوت مرتبكًا، فقال في إشفاق:

– ربما أكون مخطئًا رغم كل شيء.. وإن لم أكن فلا تقلق، هو يتسلى فقط، ومعي لا معك.. يمكنك أن تكمل الرحلة ببساطة وتفترق عن صديقك عند وصولكما كالمعتاد، ولكنك في اليوم التالي ستكتشف أن صديقك لم يغادر منزله..

تركنا غرفة المكتب، وحاولتُ أن أبدو هادئًا.. ودعنا د. رفعت وغادرنا، لكنّ دوامات الأفكار كانت تدور في رأسي: هل العجوز يخرف؟ ربما للأسف! وهو احتمال مطمئن لا بأس به. هل هو محق؟ ربما للأسف أيضًا! فلو أن هناك شخصًا يمكنه حقًا التعرف على د. لوسيفر فهو رفعت إسماعيل.

لكنّ هناك حلاً فوريًا وبسيطًا! أن أتصل بضياء في منزله! هذا كافٍ لأعرف حقيقة الأمر، ولكن هذه قصة أخرى.