خلال تكريم المخرج الكندي «ديفيد كرونينبرج» في مهرجان فنيسيا وحصوله على الأسد الذهبي عن مجمل أعماله، كان من يقدم له الجائزة هو المخرج المكسيكي الحائز على الأوسكار «جليمريو ديل تورو» -مخرج فيلم «شكل المياه – The Shape of Water»- والذي قال عند تسليمه الجائزة:

إن أفلام كرونينبرج لا تنتمي لنوعية محددة، ولكنها هي نوعية (genre) بحد ذاتها.

الحقيقة أن هناك مقولة يتم تداولها كثيرًا:

إنه لولا وحوش كرونينبرج لما حصلنا على وحوش ديل تورو.

المخرج الكندي اشتهر بأفلام يمكن تصنيفها خطأً أنها رعب معوي مثل (الذبابة) و(فديودروم)، وهي أفلام تكمن القوة فيها أنها ممكن قراءتها على خلفية تطورية للبشرية، بمعنى أن تطور الإنسان يخلف جزءًا بهيميًّا حيوانيًّا داخله تحاول الحضارة كبته بطريقة مريضة وإجرامية، ثم يتنقل بين مراحل أخرى ممكن تصنيفها حسب التأثير، فأفلام مثل (غداء عاري – كوسمبيلوس – الوجود) هي أفلام ذات تأثير كافكاوي واضح بشدة، أو حسية وفرويدية مثل (العنكبوت – تصادم)، ولكن أكثر مرحلة كانت جماهيرية ناجحة للرجل هي مرحلة تعامله مع أفلام العصابات، وهي نوعية غريبة على الأستاذ، فمن ناحية كيف يقحم نفسه في نوعية تم استهلاكها تمامًا، ومن ناحية أخرى لماذا في هذه اللحظة من مسيرته يريد مخاطبة شريحة أكبر؟

الإجابة كانت: كيف تحكي حكاية بسيطة واضحة ولكنها مليئة بالطبقات ويمكن قراءتها قراءات متعددة؟

تلك المرحلة شملت (وعود شرقية – وتاريخ العنف)، والأخير هو مسار حديثنا اليوم.

البداية

عندما عرض السيناريو في البداية على الممثل (فيجو مورتنسن) رفضه، كان يرى فيه قصة معتادة، والنسخة الأولى من السيناريو كانت عن عصابات إيطالية، وهو شيء كان شديد الكليشيه بالنسبة له، ولكنه تعجب بشدة عندما وافق (دافيد كرونينبرج) على السيناريو مع ضمان حرية كاملة في التصرف بعيدًا عن الاستديو، وهو ما حدث، لم يكن يعلم أن السيناريو مأخوذ عن كوميك من الأساس، تعامل مع الماتريال فقط التي معه، كان أول تغيير هو تبديل العصابات الإيطالية بالأيرلندية، كان يرى أن هذا مناسب (إثنيًّا) للأبطال الذين تم اختيارهم، التعديل الثاني أنه سيصور الفيلم بالكامل في كندا، فهو –للمفاجأة– لم يصور أي فيلم بأمريكا إلا فيلم (خريطة للنجوم)، وهو فيلم يكاد يكون تم تصويره بطريقة غير شرعية لانتقاد ميكانزمات هوليوود نفسها، أما التعديل الثالث فسيتم ذكره في موضع آخر.

زمن «الأنتي كلايمكس» ما بعد الذروة

الفيلم يتبع شخصية (توم ستال)، شخص أربعيني متزوج له ابن في مرحلة المراهقة وطفلة، يملك مطعمًا يديره، وزوجته محامية، حياتهم هادئة لا مشاكل كبيرة، فقط المشاكل المعتادة، الابن يواجه تحدي أن يفرض عضلاته في المدرسة التي تكون في هذه السن ساحة للتعبير عن الهرمونات، وهو شيء واعٍ له وضده بشدة، غير هذا الحياة هادئة إلا من كوابيس تصيب الأب في الليل، كوابيس عن حياة عنيفة ودموية وبربرية.

إلى أن يأتي يوم يتم الهجوم فيه على مطعمه من قبل (جانجسترز) متجولين في الأنحاء غرضهم فقط السرقة، يدافع (توم) عن نفسه ويقتلهم، ولكنه يقتلهم بمهارة وأيضًا بطريقة بشعة، تحتفل وسائل الأعلام الأمريكية بهذا الخبر وتنشر صورته في كل منافذها، فقط ليجد نفسه محاصرًا من جديد برجال عصابات أيرلنديين قادمين من فلادلفيا ويزعمون أنه شخص آخر يدعى (جوي كوساك)، وأن هذا الشخص كان رجل عصابات شديد العنف، وأنهم لهم ثأر شخصي معه، ما يحدث بعد ذلك مشابه لما حدث في المطعم، يدافع (توم) عن نفسه، بطريقة شنيعة يقتلهم ولكن هذه المرة يشاركه ابنه في القتل، وكل هذا يحدث أمام زوجته، التي تدرك في هذه اللحظة أنها عاشت كل هذا العمر مع شخص لم تكن تعرفه، والأهم أنه قاتل دموي معوي بعريكة لا تلين.

بعد هذا يضطر (توم-جوي) للقيام برحلة للماضي لمقابلة أخيه الذي كان يعمل لحسابه حتي ينهي كل شيء، رحلة أسطورية ليلية إلى قصر مخيف متوارٍ في الأدغال يسكنه أخوه.

كما نرى، الفيلم يدور في زمن ما بعد التحقق، ما بعد الاعتزال تمامًا مثل تيمة (طريق كارليتو) لبراين دي بالما، البطل خاض مغامراته وقتل أعداءه، والآن فقط يريد أن يعيش كشخص عادي طبيعي، مع زوجة محبة وأسرة دافئة.

التدخل الثالث على السيناريو من كرونينبرج كان إضافة مشهدين لممارسة الجنس بين البطل وزوجته، واحد قبل معرفتها بهويته الحقيقية وآخر بعدها، وجهة نظره كانت تنحو إلى كيف يعبر الجسد عن المعرفة، كيف تعبر جسديًّا عن شيء وجداني، ذلك المشهد الثاني أسيء فهمه من الكثيرين واعتبروه اغتصابًا، وهذا غير حقيقي، المشهد الثاني كان به تبادل عنفي بين الاثنين، حتى نفهم هذا المشهد لا بد أن نفهم العنف عندما يتحول إلى لغة كأنه جمل يتم قولها بينها وبينه، هذا المشهد أيضًا له جانب أيروسي غير الجانب الواضح، فعند ممارسة الجنس بين شريكين قضيا فترة زمنية بعضهما مع بعض يلجآن لحبكات خيالية ولعب أدوار وشخصيات ليست لهما لزيادة الإثارة، والحقيقة أن مبعث هذا الفعل همجي ووحشي، فخلاله يخون الشريك شريكه دون أن يخون، وعند الرجوع للمشهد الأول بينهما والذي ارتدت فيه الزوجة ملابس فتاة استعراض كتقمص، نجد المشهد الثاني مفهومًا من حيث إنه تقمص أيضًا، هي الآن تضاجع قاتلًا دمويًّا لأقصي حد، هذا شيء مثير للغاية، ولكنها تدرك أنه مناسب لمضاجعة جيدة، ولكن مستحيل أن يكون مناسبًا كشريك حياة.

العنف (تابو)

خلال مشاهد العنف في الفيلم كان يصر (كرونينبرج) على تصويرها ببعد أحشائي، العنف يحدث كانفجار عنفي، لحظة من الزمن تنفلت فيها  الأعصاب ويقدم الأشخاص فيها على فعل أشياء لم يكونوا يتصورونها عن أنفسهم، العنف هنا (فرويدي). خلال كتاب فرويد (الطوطم والتابو) يذكر كيف يمكن للقبيلة معاقبة القاتل، ما يحدث هو أنه يتم استبعاده وليس قتله، ويعزل في منطقة قصية من القبيلة، ويحرم أن يقترب أي شخص من هذه المنطقة، هنا نحن نتعامل مع العنف كمرض معدٍ، لا تحتك بالقاتل لا تحتك بمكانه أو ملابسه أو أي شيء ينتمي له، في تفسير (رنية جيرار) لهذا الفعل في كتابه (العنف والمقدس) يذكر أن المجتمع لا بد أن يفعل هذا لأن هذا شخص ضد أي مبدأ أجتماعي، انتهاج مهنة القتل هو انتهاج أحد مهارات الآلهة، وهذا شيء قصره المجتمع على كائن علوي مجرد حتى يستطيع المجتمع الاستمرار، لذلك عند ارتكاب القتل الطقسي في هذه المجتمعات (كتقديم أضحية – أو قتل عدو) يتم هذا الأمر بطريقة احتفالية كأن القتل تم رمي مسئوليته على المجتمع كله، وليس فردًا محددًا، وأنه تم بأمر إلهي وليس نزوة شخصية، فعند (دور كايم) الإله دوره الحفاظ على الاجتماعي، وفي سبيل ذلك هو يقوم بكل شيء غير شرعي رفضه المجتمع كاتفاق بينهم.

عندما يتم إقصاء (توم) من العائلة لا يجد سبيلًا إلا العودة للعالم القديم (عالم مظلم بدائي وهمجي)، إما أن يقضي على هذا العالم أو يقضي هذا العالم عليه.

تاريخ العنف، أم تاريخ من العنف؟

عندما تكلم (كرونينبرج) إلى (روجر إيبرت) – الناقد الشهير – عن شرح عنوان الفيلم قال:

هو له عدة مستويات،
المستوى الأول: يشير إلى شخص له تاريخ إجرامي عنيف.
المستوى الثاني: يمكن قراءته كـ (تاريخ العنف)، تاريخ استخدام العنف كوسيلة لحل الصراعات بين الأمم عبر التاريخ.
المستوى الثالث: يشير لشيء في التطور عند داروين، عن كيفية حلول الكائنات الأكثر تكيفًا مكان الكائنات الأقل، كأن هناك شيئًا أصيلًا في العالم يصدح عنفًا.

نستطيع هنا إضافة بعد رابع تم ذكره في الفيلم على لسان أخي البطل عندما قال له: هل كنت تظن أنك سوف تعيش (الحلم الأمريكي) وتنسى تاريخك العنيف؟

نحن هنا نشير لأمة قامت على جثث السكان الأصليين (الهنود الحمر)، مرة أخرى أمريكا تأكل نفسها.

عندما يرجع البطل لعائلته في النهاية بعد أن قتل أخاه وكل شيء له علاقة بماضيه، ويأمل أن يتم مسامحته من قبل عائلته، تقدم له طفلته الطعام كعلامة على الأمل والبدء من جديد.

ولكن يبقى سؤال: هل يستطيع الإنسان أن يعيش حياة طبيعية في هذه الحضارة عندما يقع في مستنقع المعرفة الحقيقية بطبيعته؟

التاريخ العنيف هنا ليس تاريخًا فرديًّا بل تاريخًا تطوريًّا (داروينيًّا) وتاريخًا نفسيًّا (فرويديًّا) وتاريخًا للأسطورة في منشئها العنيف (رنية جيرار).

هل يستطيع الإنسان المعاصر، بعد أن عرف كل هذا عن نفسه، أن يعيش حياة طبيعية؟