في العشرينيات أصبحت هوليوود قوة أمريكية، ازدهرت صناعة السينما واكتسب النجم السينمائي مكانة كبيرة، بدأ المخرجون في صناعة الشهرة وخلق الأسلوب المميز لهم، وهو ما لم يكن موجودًا في العقدين السابقين.

في الثلاثينيات والأربعينيات ظهرت أصناف جديدة إلى النور، أفلام الحركة والكوميديا والرعب وأفلام الغرب والوثائقيات والأفلام الموسيقية، تطورت تقنيات الصوت والألوان وأصبحت الأفلام أكثر حداثية، وكرد فعل للحرب العالمية الثانية ازداد الإنتاج السينمائي وحاولت الأفلام إيقاظ الروح الوطنية وزيادة الوعي عن طريق مجموعة من الوثائقيات وأفلام البروباجندا للدرجة التي سجل فيها عام 1946 حضورًا جماهيريًّا قياسيًّا وأرباحًا غير مسبوقة.

في الخمسينيات تغيرت الثقافة الأمريكية وثار الكثير على بعض العادات الاجتماعية، ولأن السينما ابنة البيئة كان لا بد أن تواكب هذه التغيرات، بدأ صناع السينما في الاهتمام بالشباب وتمردهم وصناعة أفلام أكثر قتامة بدلًا من تقديم صور مثالية تقليدية، ظهر شباب النجوم أمثال مارلون براندو وچيمس دين.

في الستينيات ومع التغيرات الاجتماعية والمشاكل المالية التي صاحبت حرب فيتنام، بدأ صناع السينما في الاهتمام بالأفلام التي تدر أرباحًا كبيرة، الأفلام الموسيقية والملاحم وأفلام المغامرات، صناعة أفلام دون هدف تجاري بحت كان مغامرة ضخمة لا يمكن تحمل خسارتها ماديًّا.

في السبعينيات سيطر الإحباط وكانت خيبة الأمل كبيرة، هذه الثقافة المضادة، التي تلت أفلام الستينيات التجارية، كانت محركًا للتغلب على القيود الاجتماعية على اللغة والجنس والعنف. معظم رواد السينما القدامى آنذاك تقدموا في العمر ولم يستطيعوا تلبية مطالب جيل جديد أراد مشاهدة سينما جديدة تعبر عنه وتهجر السذاجة الهوليوودية والأفلام الرومانسية الخفيفة. 

يمكن القول إن تطور هوليوود السبعينيات لم يكن على مستوى الصنف السينمائي نفسه، وإنما على مستوى الصناع أنفسهم، هؤلاء الذين أعادوا تعريف السينما، سلطوا المصابيح من الكلاسيكيات إلى الحداثة وذهبوا إلى اكتشاف أبعاد وأصناف فيلمية جديدة وصناعة دراما حميمية تقترب وتركز أكثر على الشخصيات. 

ببساطة كنا الموجة الجديدة لهوليوود، لسنا أطفالًا، تسميتنا بالأطفال يحمل الكثير من الغطرسة والتكبر، أفضل أن يتم تسميتنا بمهووسي السينما، لأننا كنا كذلك فعلًا.
المخرج الأمريكي ستيفن سبيلبرج

لحظة الانبعاث

فيلم Bonnie and Clyde
من فيلم «Bonnie and Clyde» إخراج (أرثن بين) عام 1967

في 1963 كان روبرت بنتون وديفيد نيومان يعملان في مجلة في نيويورك، أرادا كتابة سيناريو فيلم عصابات أثناء فترة الكساد، لم يعلما الكثير من التفاصيل عن كتابة السيناريو، فقط قاما بكتابة ما يرغبان في مشاهدته على الشاشة متأثرين بالموجة الفرنسية الجديدة خاصة جان لوك جودار وفرانسوا تروفو في Breathless و Jules and Jim، وكان هذا السيناريو هو Bonnie and Clyde، سمع وارن بيتي عن هذا السيناريو عندما التقى تروفو في باريس، عاد إلى نيويورك والتقى بينتون ونيومان وأخبرهما أنه يريد إنتاج فيلم بهذا السيناريو وقرر أن يقوم بدور البطولة كذلك.

بعد العديد من التوسلات وافقت شركة الإخوة وارنر على إنتاج الفيلم بحماس منخفض وميزانية 1.6 مليون دولار فقط، اقترح أصحاب السيناريو أن يتولى أرثر بن إخراج الفيلم، لأنه سبق أن أخرج Mickey One بأسلوب متأثر بأفلام الموجة الفرنسية الجديدة.

لم يعجب جاك وارنر بالفيلم عندما شاهده وعرضه بشكل محدود، ومع مرور الوقت أعجب النقاد بشدة رغم دمويته غير المعتادة، واعتبره الكثيرون أفضل أفلام العام، وتوج في النهاية بجائزتي أوسكار من أصل عشر جوائز ترشح لها.

بعد صدور Bonnie and Clyde ظهر Point Blank إلى النور، كان المخرج جون بورمان صانع وثائقيات في BBC، اجتمع مع الممثل لي مارفن، الحائز على أوسكار أفضل ممثل قبلها بعام واحد، وقررا صناعة هذا الفيلم وفقًا لرؤية بورمان القادم من بريطانيا إلى هوليوود غير عابئ بتقاليد هوليوود وسطوتها. قدم الفيلم رؤية ثورية جديدة لأفلام النوار التي وصلت قمة مجدها في الخمسينيات، وصبغها بحس السيريالية والتشويش وشخصية نقيض البطل.

نجاح الفيلمين رفقة فيلم The Graduate لمايك نيكولز كان يشير إلى موجة أخرى قادمة وجمهور جديد يريد مشاهدة نوع آخر من الفن، الأمر الذي فتح الباب للصناع الشباب في صناعة مجد هوليوود في السبعينيات.

أفلام غرب من نوع آخر

فيلم Easy Rider
من فيلم «Easy Rider» عام 1969

بعد ثورة أرثر بن الدموية بعامين أتى الرائد سام بكنباه برائعة دموية جديدة تتمرَّد على كلاسيكيَّات أفلام الغرب وحتى أفلام السباجيتي للمعلم سيرجيو ليوني، في The Wild Punch يراقب بكنباه لحظات الفوضى التي يصنعها الإنسان مقابل أشياء هلامية، في إسقاط لا يمكن مراوغته على حرب فيتنام، في هذا الفيلم تحرر بكنباه من القيود والأسلوب المعتاد لأفلام الغرب، استخدم القطع المتكرر للتحكم في إيقاع الحدث، معركته الأخيرة التي استمرت خمس دقائق احتوت أكثر من 300 قطع.

بعيدًا عن الدموية والعنف، فكَّر دينيس هوبر وبيتر فوندا في صناعة فيلم غرب حداثي عن اثنين من سائقي الدراجات البخارية، يحصلان على أموال من صفقة مخدرات ويسافران إلى الجنوب الغربي، سُمي الفيلم في البداية The Loners ثم استقروا على الاسم الحالي Easy Rider وأخرج دينيس هوبر الفيلم رغم خبرته المتواضعة، أسند دور جورج هانسون إلى ممثل مغمور حينها كان على حافة الاستسلام وترك التمثيل، لكنه نجح في جعل الشخصية تعلق بذهن المشاهد، وأصبحت شخصية الثائر على النظام علامة مميزة له بعد ذلك، كان هذا الممثل هو الأسطورة جاك نيكلسون، Easy Rider كان عملًا استثنائيًّا في وقته، مزيج من أفلام الطريق وأفلام الغرب شريط صوتي يحتوي أغاني روك، حقق ضربة كبرى في شباك التذاكر العالمي وترشيحين لجائزة الأوسكار، وفي 1969 وبعد عرض الفيلم في مهرجان كان، استحق دينيس هوبر جائزة أفضل مخرج يقدم أول عمل له، قدمت الجائزة خصيصًا له لأول مرة،. في مشهد النهاية يقول وايت: «لقد أفسدنا الأمر» وهو ما يعود ربما إلى أحداث العام السابق الذي تم فيه اغتيال كينيدي ومارتن لوثر كينج، وتصاعدت أعمال الشغب العرقية.

قرأت الرواية، وفكرت أنني حين أقدم فيلمًا في أمريكا، سيكون هذا الفيلم.
جون شلاسنجر

كان Midnight Cowboy بالفعل هو أول فيلم لشلاسنجر في أمريكا، أخذ الكتاب إلى المنتج جيري هليمان، الذي ذهب بدوره إلى ديفيد بيكر ليعرض عليه الأمر، وافق بيكر بميزانية تبلغ مليونًا واحدًا، وارتفعت فيما بعد إلى مليوني دولار.

اعترض مايك نيكولز على تولي داستن هوفمان دور البطولة، أخبره أن تقديمه لهذه الشخصية سيدمر صورته في أذهان المشاهدين، لكن هوفمان قرر مجاراة المد الثوري في السينما حينذاك. حمل الفيلم معظم الأفكار التي أدت لظهور الحركة السينمائية الجديدة، الجرأة والخلفية الثقافية المضادة وفقدان الانتماء الثقافي والإحساس الشديد بالاغتراب، كان أول فيلم ينال التصنيف X من إخراج أحد الاستوديوهات الكبرى، لكن الأكاديمية كانت جريئة بما يكفي لتمنحه سبع ترشيحات أوسكارية ليفوز بثلاثة منها، من بينها جائزة أفضل فيلم.

عنف بأنفاس لاهثة

عمل وليام فريدكن في التلفزيون قبل أن ينتقل إلى هوليوود، نقطة التحول في مسيرته كانت نصيحة للمعلم الكبير هوارد هوكس، الذي أخبره أن الجمهور لا يود مشاهدة مشاكل الآخرين، ما يريدونه هو أفلام الحركة، فريدكن رأى بعد نصيحة هوكس أن إمتاع الجمهور يجب أن يكون أولوية، الأفلام لا تُصنع كي نعلقها في متحف اللوفر.

الأمر المثير للدهشة أن فريدكن لم يلتزم بهذه النصيحة بشكل كامل، صناعته لـ The French Connection في أوائل السبعينيات كان حدثًا ثوريًّا في تاريخ أفلام الإثارة والحركة، فريدكن يجعل الإمتاع أولوية لكنه خلال ذلك يجعل فيلمه مختلفًا عن كل كلاسيكيات الصنف، بطل الفيلم شرطي لكنه ليس بطلًا بالمعنى التقليدي، عنيف ولا يلتزم بالقواعد والأخلاقيات، لكنه في المقابل يقوم بعمله على أكمل وجه، هذا التناقض يقفز إلى إشكالية الغاية والوسيلة، وأسلوبيًّا استخدم الكاميرا المحمولة في مشاهد المطاردات التي صور بعضها تحت إشراف محققين في قسم المخدرات.

في نفس العام قدم دون سيجل في Dirty Harry تفشي الجريمة في سان فرانسيسكو، الأمر الذي دفع رجال الشرطة إلى اللجوء والعنف كمحاولة للتصدي للجريمة، وقدم آلان جي باكولا Klute أول جزء في ثلاثية المؤامرة، الذي أظهر الذعر والتخبط السياسي في أمريكا آنذاك، مقدمًا فيه جمالًا بصريًّا وتكوينات فنية تلقي بالتحية إلى كلاسيكيات هوليوود.

أساتذة وأساليب فريدة

كان سبيلبيرج وسط أقرانه أكثر مباشرة، أراد أن تكون أفلامه أكثر إمتاعًا وارتباطًا بالمشاهدين، فيلمه الأول Duel مثال على ذلك، قصة بسيطة وديناميكية في حركة الكاميرا جعلته فيلم إثارة من نوع مميز، سبيلبيرج هو بطل الفيلم الأول، ليست الحبكة ولا الممثلين، هذا الأسلوب خلق رابطًا بينه وبين المتابعين، الأمر الذي وصل إلى الذروة في Jaws ثم Close Encounters بتقنيات خاصة، الأمر الذي جعله فيما بعد واحدًا من أهم مخرجي جيله.

نفس التفرد ينطبق على وودي آلان الذي وجد طريقًا آخر إلى المشاهدين، في الوقت الذي بحث فيه صناع السينما عن تقديم العالم السوداوي والأفكار المشوشة بطرق جادة، لجأ آلان إلى تقديم عالم قاتم بشكل مليء بالكوميديا والمحاكاة الساخرة، الأمر الذي خلق صدًى كبيرًا وسط عالم هوليوود الجديد.

انعكاسات ورهانات وذروة

روبرت دينيرو في فيلم Taxi diver - إخراج مارتن سكورسيزي عام 1976
روبرت دينيرو في فيلم Taxi diver – إخراج مارتن سكورسيزي عام 1976

وصلت هوليوود السبعينيات إلى ذروة المجد عندما قدم مارتن سكورسيزي الفيلم الأهم في مسيرته Taxi Driver، كان من المفترض أن يكون تعاونًا بين دينيرو وبرايان دي بالما، لكن في النهاية تولى سكورسيزي إخراج الفيلم، كاتب الفيلم (بول شريدر) طُرد من معهد الفيلم وعانى من العزلة بعد طلاقه، تردد على سينمات الأفلام الإباحية وطاردته الأفكار الانتحارية لدرجة أنه كتب الفيلم وبحوزته مسدس في مكتبه، أما دينيرو فزار معسكرات الجيش ليستقر على لكنة أحد المجندين وتجول في نيويورك بسيارة تاكسي، سكورسيزي نفسه هدد MPAA بالانتحار في حالة منحها الفيلم تقييم X، كان كل شيء يدعو للجنون، الأمر الذي اكتمل صانعًا واحدًا من أهم أفلام السينما.

الرهان الآخر اتخذه فرانسيس فورد كوبولا، الرجل الذي غيَّر تاريخ أفلام العصابات في النصف الأول من السبعينيات عبر جزأي The Godfather، أراد في النصف الثاني أن يصنع فيلمًا عن فيتنام، رهن منزله وخسر نصف وزنه، كلفه 32 مليون دولار و15 شهرًا من التصوير وعامين من المونتاج، وفي النهاية كان Apocalypse Now الذي لم يكن فيلمًا عن فيتنام، وإنما كان فيتنام نفسها، كما قال كوبولا.

كلا الفيلمين حازا على سعفة كان الذهبية، المهرجان الذي لا يختلف عشاق السينما على أهميته وقيمته.