حين نشأت السينما على يد الأخوين لوميير في أواخر القرن الـ19 كانت مهمتها الأساسية التوثيق، وبناء على ذلك فقد قاما بتصوير العديد من الأفلام التي تسجل لقطات من الحياة اليومية، وأشهرها: «القطار يصل إلى محطة سيوتات» و«خروج العمال من المصنع»، وربما لم يدر بخلدهما إمكانية دخول التخييل والذاتية في الفيلم السينمائي بشكل عام وكذلك إمكانية خلق الإيهام والتوجيه الفكري داخل الفيلم الوثائقي.

السينما الوثائقية بين الحياة اليومية والسياسة

في رائعته الشهيرة Nanook 1922 يتتبع المخرج الأمريكي روبرت فلاهيرتي الحياة اليومية لأسرة من شعب الإسكيمو ملتقطًا في فيلمه شعرية التفاصيل الصغيرة لهذه الأسرة، وقد أقام المخرج لمدة عام كامل مع الأسرة فخرج الفيلم في أصدق صورة، وبالرغم من صدق الصورة وحميميتها فإن المثبت تاريخيًا هو أن حياة شعب الإسكيمو كانت أكثر تمدنًا واستيعابًا للحداثة في هذه الحقبة من القرن العشرين، ولكنها إرادة المخرج!

كان للسياسة نصيبها من الاحتفاء بهذا الفن الوليد، فقد تحدث لينين عن السينما باعتبارها وسيلة تحريضية وتعليمية واعتبرها من أعظم الفنون في زمن كان الكثيرون فيه يحقرون من شأنها ويعتبرونها متعة رخيصة أو ابنة ضالة للمسرح، وبناء على توجيهاته تم تعميم العروض السينمائية في جميع الجمهوريات السوفييتية، وظهر تيار الواقعية الاشتراكية في السينما وكان من رواده: دزيجا فرتوف وسيرجي أيزنشتاين وغيرهما.

وعلى صعيد آخر، ظهرت أعمال دعائية نتيجة للاستقطاب الحاد سياسيًا مع قدوم الحرب العالمية الثانية، فظهرت البروباجندا النازية وأشهر أعمالها الفيلم الوثائقي الضخم «انتصار الإرادة» للمخرجة الرائدة ليني ريفنشتال، وكذلك ظهرت أعمال مضادة للنازية ودول المحور في الولايات المتحدة أخرجها المخرج إيطالي الأصل فرانك كابرا وأشهرها «لماذا نحارب؟».

تعرف المخرجة الكبيرة عطيات الأبنودي السينما الثالثة على أنها سينما ثورية شعبية لا تنفصل عن السياق الاجتماعي وتهدف إلى تحرير العقول، وهي غير محددة النوع (روائي أو وثائقي)، ومن روادها: البرازيلي جلاوبر روشا، والأرجنتيني فرناندو سولاناس، والإيطالي جيلو بونتيكورفو.

اشتهر المخرج الفرنسي التسجيلي جان روش باعتباره رائدًا لما يعرف بـ «سينما الحقيقة»، وقد اهتمت معظم أفلامه بتصوير الحياة اليومية لشعوب غرب إفريقيا أثناء الاستعمار الفرنسي وبعد استقلالها عنه، وكان يصور أفلامه بنفسه بكاميرا محمولة مع التركيز على ردود أفعال الأشخاص وتصرفاتهم أمام الكاميرا، وكان يعرض أفلامه دون تدخل مونتاجي باعتبار الكاميرا وفريق العمل أجزاء من الواقع الفعلي أثناء التصوير، وقد كان لأفلامه أبلغ الأثر على أجيال لاحقة من المخرجين وأشهرهم مخرجو الموجة الفرنسية الجديدة وحظي باحتفاء شديد من قبل الإنتلجنسيا الفرنسية بوصفه مرآة تعرض لهم إفريقيا التي لا يعرفونها. وعلى الرغم من تقنيته المبتكرة وحلوله الاقتصادية، فإن حقيقة الأمر هي أن أفلامه كانت انتصارًا للنظرة الاستعمارية وخدمة لأبحاثه الأنثروبولوجية، فقد صورت الشعوب الإفريقية بصورة أقرب للحشرات ولعب تعليقه الصوتي (بلغته الفرنسية) دورًا في تنميطهم والتعالي عليهم.

ليست هذه المقدمة استعراضًا لعضلات كاتب المقال، ولكنها توضيح بسيط لتعدد أغراض وخطابات السينما الوثائقية وعلاقتها بالإثنوجرافيا، وتوطئة للحديث عن الوضع السينمائي الراهن في ظل ما يعرف بالصوابية السياسية، وبناء على هذا الوضع أصبح صناع السينما ملزمين بالعمل داخل أطر محددة من التيمات، وقد كان لهذه التيمات حضورها الحقيقي والصادق مع الثورات الفكرية والسياسية، ولكن فرضها اليوم من قبل السلطة قد أدى إلى تفريغ القضايا من مضمونها، وزاد من تهميش الفئات المهمشة لصالح خطاب مثقف معلب أو منسحق بصورة أقرب للمتاجرة أو التسول.

أرض العسل

تحدث مخرجا الفيلم (لجوبومير ستيفانوف وتامارا كوتيفسكا) عن تخطيطهما في بادئ الأمر لتصوير عمل وثائقي ممول حكوميًا عن مشاكل التوازن البيئي في محيط نهر بيرجالنيكا وسط مقدونيا الشمالية، إلى أن عثرا بالمصادفة في قرية بيكرليجا الجبلية على السيدة هاتيدزه موراتوفا -آخر نحالة بدائية في بلدها- وأقاما معها لثلاث سنوات، وأثناء الإقامة صورا 400 ساعة من المادة الفيلمية بمعاونة طاقم إنتاجي مكون من ستة أفراد.

يفتتح الفيلم بلقطة عامة للجبل، ونتابع البطلة هاتيدزه في مسيرها نحو منحلها الصخري، وبحركة ناعمة تأخذ الكاميرا في الاقتراب شيئًا فشيئًا منها أثناء جمعها للعسل، وبعد الانتهاء من عملها تعود إلى كوخها البسيط.

يخلو الكوخ من أي وسائل حديثة، وتعتمد هاتيدزه على ضوء الشمس والنار ومصابيح الكيروسين في معيشتها مع أمها العجوز التي تقوم على رعايتها (في علاقة أقرب لعلاقة النحلات العاملات بالملكة وفقًا لتعبير المخرجين)، وكذلك تقوم برعاية بعض الحيوانات الأليفة كالقطط والكلاب.

هناك استخدام ذكي للكاميرا المخفية (المخبأة)، وقد تجلى هذا في المشاهد الداخلية للكوخ التي صورت أكثر اللحظات مودة بين هاتيدزه وأمها.

تعتمد هاتيدزه في دخلها على بيع العسل في العاصمة سكوبي، وفي حديث عابر لها مع أحد الزبائن تكتشف أصوله البوسنية والألبانية من خلال التعرف على لهجته، وتتحدث بدورها عن أصولها التركية وعن هجرة معظم العائلات المجاورة لها، ويستمر الحديث بشكل ودي ومألوف ولا يعمد المخرجان في تصويره إلى استدعاء لنعرات قومية أو خطابات إثنية جوفاء.

لا يقطع سكون المكان ونظامه الهادئ سوى وصول عائلة مجاورة (عائلة سام)، ونلاحظ تغيرات عديدة في شريط الصوت، فنسمع أصواتًا للآلات والمعادن، وكذلك صراخ الأطفال الذي لا ينقطع، وتعاملهم العنيف مع قطعان الماشية التي جلبوها معهم، ويكثر المخرجان من استخدام الكاميرا المحمولة والقطعات المونتاجية السريعة في هذه المشاهد كدلالة على الفوضى وعدم الاستقرار.

و برغم انزعاج هاتيدزه من ضجيجهم، فإنها ترحب بهم وتتفاعل بشكل جيد مع الأطفال، وتستمع في عجب إلى جهاز الراديو الذي يذيع نشرة عن الأحوال الجوية، وفي أثناء تأديتها لعملها المعتاد يحادثها رب العائلة ويستفسر منها عن طرق تربية النحل ورعايته والعائد المادي الذي تجنيه نظير بيع العسل، وفي اليوم التالي يشرع الأب في تكوين منحله الخاص.

عندما نستورد آلات ونماذج للتنمية، فإننا نستورد نوعًا من العلاقة للإنسان مع ذاته ومع الطبيعة، وللإنسان مع أمثاله، وللإنسان مع الوجود.
عبد الكبير الخطيبي

في حديث سامر مع العائلة، تعبر هاتيدزه عن رعبها من فصل الشتاء وكيف تشح فيه المياه، وتتحدث عن افتقادها لإخوتها المتوفين في أعمار صغيرة. تقوم عملية جمع العسل على العطاء، فالنحال يترك نصف الخلية للنحل كمخزون شتوي تتغذى عليه النحلات العاملات قبل إعادة الإفراز وهذا ما دأبت عليه هاتيدزه.

يعتمد الأب في بادئ الأمر على نصائح هاتيدزه بالإضافة إلى استخدامه لبعض الوسائل الحديثة، وفي سعي منه لزيادة دخله يبرم صفقة مع تاجر للمواد الغذائية، وبناءً عليها يصبح مطالبًا بإنتاج كميات أكبر من العسل، مما يدفعه إلى استنزاف مخزونه الشتوي فيتعدى على مخزون هاتيدزه متسببًا في مقتل النحل.

ثم يعمد إلى إحراق أشجار العرعر التي يعتمد عليها النحل في إنتاجه للعسل؛ بغرض زراعة أشجار جديدة تزيد من إنتاجية النحل، و لا يكتفي بذلك بل يقوم بقطع شجرة بغرض نقل النحل المتواجد داخل ألحيتها إلى منحله.

وذات يوم يستيقظ الأب على نفوق عدد كبير من قطعان الماشية، ويتبادل الاتهامات مع عائلته، فيتهمهم بالإهمال والتقصير في رعاية الماشية، و يتهمونه بالتغافل عنها نتيجة اهتمامه بالنحل، ثم يقرر الأب الرحيل بهم وبما تبقى من الماشية بعيدًا عن القرية.

اللون هو أنا
بول كلي

يسيطر اللون الأصفر بدرجاته على بصريات الفيلم، فهو لون النحل والعسل، لون الشمس والضوء والحرارة، لون الحياة، ومع قدوم فصل الشتاء يأخذ الأصفر في الانحسار لصالح اللون البني ذي الوقع الكئيب على العين، وتكتمل مأساة هاتيدزه بوفاة أمها، ولا يؤنس وحدتها سوى حيواناتها الأليفة والراديو الذي احتفظت به، وفي جولة أخيرة إلى منحلها تعثر على خلية متبقية وبها بعض العسل، فتطعم منها كلبها، ثم تلوح منها نظرة متفائلة تجاه ضوء الشمس.

يخلو الفيلم من أي تعليق صوتي للمخرجين، و قد مالا إلى تصوير الأشخاص على طبيعتهم العادية بدون إقحامهم في خطابات لا تتناسب مع ذواتهم، الأمر الذي أعطى الفيلم مسحة من العفوية والانسياب وخلق تواصلاً حقيقيًا للمتلقي مع الشخصيات.