-1-

– أنا ممتن أنك التقطت هذه المشاهد والصور، الآن سيراها العالم، هذه هي الطريقة الوحيدة التي نملك من خلالها فرصة أن يتدخل الناس لإنقاذنا.

– أجل، وحتى لو لم يتدخل أحد، سيظل من الجيد أن نعرض ما يحدث.

– كيف يمكن ألا يتدخلوا بعد أن رأوا كل هذه الفظائع؟!.

– أعتقد أن الناس إذا شاهدوا هذه الصور سيقولون «يا إلهي، كم هذا مرعب وفظيع»، ثم بعد ذلك سيذهبون لإكمال عشائهم.

(صمت)

المشهد السابق هو حوار بين مصور أجنبي ومواطن محلي بعد أن قام المصور الصحفي بالتقاط صور فوتوغرافية تظهر بشاعة المجازر التي تحدث في بلد من بلاد العالم الثالث؛ جثث ملقاة على قارعة الطريق، رؤوس مهشمة، أشلاء لأطفال ونساء وشيوخ، بيوت مهدمة، وموت في كل مكان، شلال من الدماء لا يتوقف وسؤال مكرر: «لمَ لا يتدخل أحد لإنقاذنا ؟!».


–2–

– هل تعتقد أن بإمكانك أن تقتلهم كلهم؟!

– ولم لا؟، نحن أتممنا نصف الطريق بالفعل.

في منتصف التسعينات حدثت في أفريقيا واحدة من أبشع المجازر في تاريخ البشر. وفي عصر الاتصالات فائقة السرعة والنشرات الإخبارية على مدار الساعة، مر كل ذلك دون أن يلاحظه أحد. ببساطة، التفت العالم بعيدًا وأدار وجهه، وفي أقل من ثلاثة أشهر قُتل أكثر من مليون إنسان. وفي منتصف العقد الأول من الألفية الثالثة صُنع فيلم «Hotel Rwanda» ليحكي تلك المجزرة في صورة حكاية مصغرة حدثت في مكان بسيط قرر أن يقاوم كل تلك الظروف على أرض هذا البلد، هذا المكان هو «فندق رواندا».

مليون روح بشرية لمواطنين روانديين من قبائل «التوتسي» قُتلوا علي يد متطرفين من قبائل «الهوتو» في ظل تواطؤ ومشاركة من قادة الجيش والأجهزة الأمنية، وفي ظل صمت عالمي مُخجل. ولكن الفيلم لم يستطع أن يحكي حكاية كل هؤلاء، اكتفى فقط بحكاية مدير فندق استطاع أن ينقذ أكثر من ألف إنسان من «التوتسي» وسط هذا الجحيم. ولكن السؤال المهم هو: «كيف استطاع هذا الرجل البسيط أن يحقق ذلك؟».


-3-

بطل هذه الحكاية هو «بول روسيساباجينا» مدير الفندق الذي قام بدوره الممثل «دون شيدل»، هذا الرجل وكما يظهره المخرج طوال الفيلم هو رجل هادئ و متزن، يعلم كيف يدير أموره وسط كل هذه الفوضى، ليس من نوعية الرجال التي تخطف الأنظار، كما أنه ليس ببطل ملحمي بأي شكل من الأشكال. هذا الرجل اختار أن يشق طريقه بالرشوة، بالمجاملات، وبالخداع. وبهذا، وهذا فقط، أمكنه أن ينقذ هذه الأرواح.«بول» رجل من «الهوتو» متزوج بامرأة من «التوتسي»، تم تدريبة في «بلجيكا» وهو الآن يدير فندق «Des Milles Collins» في العاصمة الرواندية «كيجالي»، هو يدير الفندق من أجل سعادة عملائه وفقط وفيما دون ذلك لا يهتم إلا بمصلحة عائلته وأصدقائه المقربين. وفجأة تبدأ مجزرة بشعة تغير كل هذا؛ عربات مصفحة، وميليشيات مسلحة تبدأ في عملية تصفية عنصرية واسعة تهدف إلى إبادة جماعية لكل الروانديين المنتمين إلى «التوتسي»، يجد «بول» نفسه مسئولاً عن ما يزيد عن ألف روح بشرية لجأت إلى فندقه هربًا من القتل الجماعي. ممثلو الأمم المتحدة متواجدون في رواندا تحت قيادة الكولونيل «أوليفر» الذي قام بأداء دوره «نيك نولتى». يرى الكولونيل ما يحدث ويبدأ في إبلاغ رؤسائه، ويطلب التدخل والمساعدة. ولكن ما حدث بعد ذلك لا يقل بشاعةً بأي حال من الأحوال عن المذبحة نفسها!.


-4-

أتت إجابة الغرب، وجاءت معها فرق كاملة من قواتهم المسلحة، أتت طائراتهم المجهزة لنقل الركاب بعيدًا عن هذا الجحيم، ولكنهم لم يستخدموا أسلحتهم إلا من أجل مواطنيهم، ولم يسمحوا بأن تطأ عرباتهم وطائراتهم قدمًا سمراء واحدة. أليست هذه مذبحة أخرى وجريمة مكتملة الأركان؟!.«الغرب لا يقتل بيده، قلما ما فعل ذلك. حينما تملك القدرة على أن تنتقي من ستبقيه حيًا ومن ستتركه للموت، فأنت لا تحتاج لهذا على أي حال».يُظهر فيلم «فندق رواندا» فصلًا جديدًا في هذه الحكاية، يصنع الغرب المعضلة عبر الزمان وحينما تصل إلى لحظة اللاعودة يبدو غير مستعد للتضحية بدماء مواطنيه «الغالية» كما يبدو غير مهتم البتة بكم الدماء «الرخيصة» التي ستسيل بعد ذلك. يحكي الفيلم هذا من البدابة وفي مشهد يعرضه المخرج الأيرلندي «تيري جورج» يذكاء شديد تروي فتاة رواندية تجلس في بار الفندق لأحد المراسلين الصحفيين كيف تعود بداية هذه المعضلة إلى عصر الاحتلال البلجيكي لرواندا حينما قسموا الشعب إلى «هوتو» و«توتسي» بناءً على معايير جسمانية سطحية للغاية منها على سبيل المثال «الطول وعرض الأنف». وحينها جعلوا «التوتسي» هم من يتولون المناصب القيادية طوال فترة إدارتهم للدولة، و ازدادت أحقاد أبناء الوطن الواحد تجاه بعضهم البعض حتى رحل الرجل الأبيض ليترك وراءه فصل عنصري وصل بنا في النهاية لمجزرة مات من جرائها مئات الآلاف. وحينها أيضًا قرر أن يدير ظهره وألا يمد يده لالتقاط بعضهم من بين الدماء والأنقاض، وحينها أيضًا ستجده يصرح بكل أريحية: «وما دخلنا في كل هذا؟، أنهوا مشاكلكم بأنفسكم!».

– لماذا لن يتدخل العالم؟.

– أنتم مجموعة من السود، أنتم لستم حتى زنوجًا، أنتم “أفارقة”!.

«الجنرال أوليفر» مخاطبًا «بول روسيساباجينا»


-5-

«يعرف كثير منا أشخاصًا مؤثرين بالخارج، يجب أن تتصلوا بهؤلاء الناس، يجب أن تخبروهم بما يحدث لنا، قولو لهم وداعًا، قولوها كما لو كنتم ستصلون إليهم عبر الهاتف وستمسكون بأيديهم، دعوهم يعرفون أنهم لو تركوا هذه اليد، فسوف تموتون، يجب أن نجعلهم يشعرون بالخزي لكي يرسلوا المساعدة». يبقي «بول» أكثر من ألف من شركائه في الوطن داخل الفندق، يخرج كل ما في جعبته من أفكار ليحافظ على حياتهم، لا يخجل من أن يتوسط بعلاقاته الشخصية مع القتلة، ولا يتردد في رشوة الأجهزة الأمنية من جيش وشرطة؛ حتى يصل في النهاية لتهديد بعضٍ منهم بأن الغرب سيحاكمهم لو لم يتدخلوا لكفّ أذى القتلة عن فندقه؛ ليصبح في النهاية عضوًا في فريق تم تشكيله بالصدفة البحتة وبالمبادرات الفردية الشجاعة، برفقة جنرال رفض أن يخلي أرض المعركة كما أمرته «الأمم المتحدة» وبرفقة مبعوثي «الصليب الأحمر» الذين لولاهم لما وصلنا حصر بعدد القتلى في تلك المجزرة. وفي لحظة الخذلان الكبرى من الحكومات الغربية والقوى الدولية ومبعوثي الأمم المتحدة يقرر «بول» تغيير إستراتيجيته، فحتى صور المذابح لم تنجح في جذب اهتمام العالم، العالم لا يهتم بأشلاء المجهولين، البشر يهتمون فقط بالوجوه التي يعرفون أسماء أصحابها وحكاياتهم.


-6-

حينما تم عرض الفيلم في مهرجان «تورنتو» عام 2004 تعرض لانتقادات عديدة؛ كونه لم يركز على المجزرة التي مات فيها مئات الآلاف بحجم تركيزه على قصة الفندق، ولكني على العكس أرى أن صناع الفيلم نجحوا بسبب هذا الاختيار، لن يمكنك بأي حال سرد قصص مئات الآلاف من الأبرياء، سيتحول الأمر إلى مجرد رقم في عداد الموتى في النهاية. ولكن يمكنك عوضًا عن ذلك حكاية قصة حقيقية لمجموعة من البشر الحقيقيين الذين عانوا وسط هذه المذبحة، هذه قصة لأشخاص ستعرف أسماءهم و تشعر بالألفة معهم ثم ستعيش معهم حكاية الرعب وستغرق معهم وسط الدماء، هذه قصة ستجبرك على الاهتمام.

يمكنك أن تحكي قصة مئات الناجين لترى في أعينهم ذكرى مئات الآلاف من القتلى الذين فقدوهم بشكل شخصي، وهذا هو ما نجح «فندق رواندا» في إيصاله إلى المشاهد. فهذا ليس مجرد فيلم، هذه قصة ستؤثر فيك حتى نهايتها، هذه قصة لن تنساها طالما حييت، هذه قصة الدماء والخذلان والكفاح من أجل الحياة، هذه قصة البطولات الفردية التي يمكنها أن تغير المعادلة.


-7-

طوال الأسبوع الحالي ونحن نرى أمامنا في كل مكان صورًا تحمل لون الدماء القاتم يتوسطها جملة تطلب من العالم أن ينقذ «حلب». طوال الأسبوع الحالي ونحن نرى أبناء العالم الثالث يبدون سخطهم لأن رد الفعل كان صاخبًا تجاه دماء باريس «الغالية» وكان متواضعًا للغاية تجاه دماء حلب «الرخيصة» وكان أكثر تواضعًا، أو قل غير موجودا من الأصل تجاه دماء عشرات المدن السورية «الأرخص». وعندما تذكرت أن أرقام الأمم المتحدة التي تخبرنا أن عدد القتلى في سوريا حتى الآن قد تجاوز 400 ألف، لم أجد خيرًا من حكاية رواندا صاحبة المليون قتيل لأستدعيها، والتي تضعنا ببساطة في مواجهة بأمرين: أولهما، «أن المحزن في الأمر ليس أن يصبح للدماء ثمن رخيص فتصير ذات الثمن الغالي موضعًا للحسد، المحزن بحق أن يصبح للدماء ثمن؛ أي ثمن». و ثانيهما، «أن العدد لن يغير كثيرًا في المعادلة، وأن العالم يمكن ببساطة ألا يتحرك حتى بعد أن تُزهق مليون روح، وأنك لكي تخجلهم لكي يتحركوا يجب أن تكون ذكيًا للغاية في إيصال رسائلك، كما يجب قبل هذا كله أن تعيش لترسلها».